ودارت الأيام

 

 

 

 

نصوص

ودارت الأيام

صبا مطر

ربتت على وجه الراديو بيدها البيضاء وأنساب صوتها الشجي مملوءاً بحنان طافح، وهي تخبر جهازها العتيق عن موعد السهرة المنتظرة…

” لا شيء سيعكر صفونا هذا المساء.. سنسعد أنا وأنتَ بسهرة كلثومية مميزة. قالت المذيعة قبل قليل بأن أغنية السهرة لهذا اليوم هي ” ودارت الأيام” لأم كلثوم”..

نضحت دمعة من عينيها الدائريتين والمتراكم تحتهما خطوط زمن طويل كان قد مرّ دون أن تتمكن “فاطمة” من إحصاءه.

دمعة حارة

ابتسمتْ لإثر الدمعة الحارة وهي تسيح برفق على خنادق وجهها العتيق، دون أن تلمسها بأطراف أناملها، مثلما كانت تفعل حين تنتابها نوبات بكاء غير مبررة!

كانت غرفتها خالية من أي أثر مهم للحياة..

ستائر داكنة بلون رمادٍ منطفئ..جهاز تلفاز من النوع القديم جداً، مغطى بشرشف ابيض مائل إلى الصفرة. الجهاز لا يعمل منذ ثلاث سنوات. آخر ما رأته هو مسلسل بعنوان ” الأيام” لممثلين لا تتذكر ملامحم أو أسماؤهم اليوم.

هشمتها لأيام فكرة عطل التلفاز. إذ اختفى كل من كانوا يطلون على حياتها ويملؤنها  بثرثراتٍ وحكايات لا تخصها. ومع ذلك كانت تشعر بالسلوى لمشاركة من لا تعرفهم ليومياتها الغارقة في فراغ رهيب. لا تعرف كيف استعاضت عن التلفاز الذي تعطّل فجأة بجهاز راديو مهمل قديم كانت تضعه كديكور على رفٍ آيل للسقوط داخل غرفتها الكئيبة. ومن يومها استبدلت الصورة بالصوت… وبمرور الوقت أدركت العجوز بأن الصوت أفضل بكثير من الصور. ربما يعود السبب إلى عدم اضطرارها لمشاركة خصوصياتها البسيطة مع أحد!

أصبحت ” فاطمة” ضليعة بالتنقل عبر المحطات الإذاعية المختلفة.. لأصابعها عينان وأذنان كبيرتان كالرادارات العسكرية، تتبع عجلة الموجات الراديوية لتصطاد بوضوح بالغ أصوات قادمة من آخرِ العالم، تحدثها عن جريان الأمور في بلدان أصبحت تعرف اسمائها جيداً لكن لا تعرف تحديداً أين تقع!

تسمع الأخبار المحلية والعالمية المتعلقة بالحروب والقتلى، وهي تهز رأسها المشتعل بالشيب وتلوّح مستهزئة بيدها المعروقة بأوعية زرقاء مجعدة. ترتشف شايها المنقوع بالهيل على صوت منشدات فرقة الأنشاد القديمة وهنَّ يطمعن بوصل حبيب طال هجره دون فائدة ترجى!

تملك حبيبا

 تتنهد عند هذه الفقرة وتتذكر بأنها لم تمتلك حبيبٍاً في حياتها.. ثم تضحك ملء فمٍ يكاد يخلو من الأسنان وهي تقول، ” تغير الوقت وأصبح الحب في هذا الزمن مودة، أما في زمننا القديم فكان عارٌ يجلب على صاحبته الويلات والنِقَم”..

لم تتزوج!

لم يشأ أبوها تزويجها لاعتقاده بأنها مرهونة فقط بخدمة أخوتها ووالديها. وهكذا بقيت على مدار خدمة مجانية كل حياتها، وما أن استهلكها الزمن حتى رماها أخوتها كأي سلعة معطلة لا أمل في إصلاح عطبها الكبير..

مددت جسدها الهرِم على أريكة حمراء حائل لونها إلى برتقالي مصفَّر.. سمعت طرقعة عظامها المنخورة.. تأوهت بألم؛ لكن من يسمع غير الجدران! فكرت بعمق في حياتها الماضية، وتساؤلات كثيرة لاحت لها في الأفق، ” ترى ماذا لو تزوجتي يا فاطمة؟ ماذا لو انجبتِ حفنة من البنات والذكور؟ سيكبرون حتماً وستأخذهم منكِ الحروب أو الحياة.. ألم نعش حياتنا تحت رحمة القنابل ورحمة هجمات جبهات الوطن المشتعلة؟

ماذا لو سحقت ابنائي لاحقاً رعونة الغزو أو أخذتهم حمى الطائفية؟

ماذا لو هاجروا بعيداً عني ليسكنوا دول الاغتراب؟

أظن بأن حياتي هكذا افضل… وحيدة بين أربعة جدران لا يكدر صفوي أحد،  ولا يسحقني الحزن على أحد.. هانئة بأيامي العادية رغم ثقل الوحدة وكآبتها السوداء. هكذا أفضل حسبما أظن؛ فهل أنا مخطئة!”.

وكما في كل مرة فرت دمعات حارة من عينيها الغائرتين وسط مغارة من التجاعيد، ولم تجهد المرأة نفسها بإيقاف مسيرة دموعها عبر أخاديد وجهها الشبيهة بتعرجات أعمق أنهار العالم على وجه اليابسة.

كانت تنتظر مرور الوقت البطيء جداً من أجل بلوغ سهرة المساء.. تغطس في غفوة قصيرة ثم تتبعها بأخرى وهي تراقب أنين جسدها المتعب عن كثب. وأخيراً حان وقت سهرتها المُنتظَرة مع أغنية ” ودارت الأيام”. ادارت بحركة خفيفة من أصابعها ذات العظام الناتئة عتلة الراديو ليصلها الصوت نقياً صافياً وكأنه يأتي من عمق نبع بارد يروي روحاً أرهقها الظمأ. تمددت مثل العادة على فراشها المركون إلى حافة نافذة خشبية متآكلة الأطراف. كان الوقت ربيعاً والنسيم العابر من النافذة المفتوحة بمقدار ضئيل يداعب وجنتي المرأة القديم.. وصوت أم كلثوم يصدح بكل قوته في ارجاء غرفتها المظلمة.. ” ودارت الأيام ومرت الأيام، وما بين بعاد وخصام. وقابلته.. ونسيت أني خاصمته ونسيت الليل اللي سهرته….”

غفت فاطمة بهدوء على إيقاع الأغنية الحريرية لتتجاوزه إلى أبعد من ذلك بكثير .. ها قد وصلت إلى عالم أبدي يفوق طول سهرتها المرتقبة ولم توقظها وشوشة الراديو العالية من بعد انتهاء كل برامج المحطة. ومن يومها والراديو القديم يصدر أصوات وشوشة غير مفهومة بعد أن دارت فاطمة على وجه كل محطات أيامها الماضية دونما عودة تُرتجي…

مشاركة