المخرج السينمائي الراحل عبد السلام الأعظمي.. ذكريات ومواقف وشجن
وجهة نظر دبلوماسية عن إجابة غير مقبولة
منهل الهاشمي
بغداد
كالصاعقة نزل عليّ خبر وفاة المخرج السينمائي المبدع الاستاذ عبدالسلام الاعظمي. سمعت بالخبر حينما كنت طالبا في دراسة الماجستير عام 2007.
تعود بداية معرفتي بالاستاذ الى عام 1999 في قناة (العراق) الفضائية السابقة حينما تشرفت بالعمل معه كمساعد مخرج برفقة اخي وصديقي العزيز الاكاديمي المبدع د.هاني الركابي وكان حينها قد قبل توا بدراسة الماجستير. فعملنا معه كمساعدين في البرنامج السياسي (وطني الاكبر) الذي يتضمن اجراء مقابلات مع السفراء العرب في بغداد. تم انجاز عدد محدود من الحلقات ثم توقف بسبب ظروف الحصار على بلدنا آنذاك. وهو كما يعلم الجميع لم يكن بالحصار الاقتصادي التجاري فقط ، بل سياسي ودبلوماسي وثقافي واعلامي وعسكري وجميع النواحي الستراتيجية الاخرى. ولهذا كانت هناك بعض السفارات العربية توافق على استضافتها في البرنامج في البدء واذا بها تعتذرعن ذلك قبل بدء التصوير بمدة قصيرة.
في وقت تصوير البرنامج كنت اراقب عن كثب وبدقة كيف ينفذ الاستاذ لقطاته اخراجيا. وما اثار اهتمامي ولفت نظري بشكل خاص هو مدى اهتمامه واعتنائه الكبيرين بتكوين اللقطة، فالرجل لم يكن يصور اللقطة بل (يرسمها) رسماً. حيث يعنى بتوزيع الكتل والعناصر والبقع الضوئية داخل اللقطة بشكل متوازن متناسق خلاّق من دون ان يترك اي فراغ في (الكادر) اي حيز او حدود اللقطة. رغم انه يصور برنامج تلفزيوني وليس فلم سينمائي روائي او حتى وثائقي. فكنت في داخلي اكبِر ذلك فيه واعجب من حرصه الشديد واتقانه في عمله. كنت اتساءل في نفسي: (كل هذا الوقت يستغرقه في لقطة من برنامج ؟!! ترى ماذا لو صور اذن فلما سينمائيا روائيا فكم من الوقت سيستغرق عند تنفيذه للقطة واحدة ؟!!).
كانت طريقته مميزة جدا في اخراج البرنامج لم ارَ مثلها حيث انه يصوره على طريقة التصوير السينمائي بكاميرا واحدة وليست بثلاث كاميرات او اثنتين كما هو شائع عند اخراج البرامج الحوارية. فيصور اجزاء من اسئلة مقدمة البرنامج وهي الاعلامية المعروفة (شيماء عماد) لوحدها مرة واحدة، ثم يصور اجابات السفير عليها ايضا لوحده مرة واحدة، مع اخذ لقطات قريبة لمقدمة البرنامج (انسيرتات) على حدة كردود افعال تتضمن ايماءات براسها موافقة لما يقوله السفير، وحينما نجلس في غرفة المونتاج نرتب لقطات الاسئلة والاجوبة وردود الافعال ضمن سياقها التتابعي السليم. ولهذا كان الاستاذ يكلفني بعد ان نكمل التصوير ويصبح لدينا (الرشز) اي المادة الاولية المصورة قبل المونتاج، ان اجلس وحدي في غرفة المونتاج وافرّغ كل ما اشاهده من تصوير وكما يقال في وسطنا الفني (فريمة.. فريمة) اي صورة..صورة كسيناريو (سكربت) على الورق. وبجميع اعادات اللقطات لان هناك بعض اللقطات كان الاستاذ يعيد تصويرها لانه لم يقتنع بها فنيا او لحدوث خطأ ما اثناء التصوير. لذا كان يكلفني من ضمن واجباتي كمساعد له ان احدد له اللقطات الصالحة فنيا واستبعاد غير الصالحة، اضافة لترتيب السياق التتابعي الصحيح للاسئلة والاجوبة ومواضع (الانسيرتات) وحتى تثبيت وقتها زمنيا كل هذا على الورق. بحيث عندما اجلس مع الاستاذ والمونتيرة ـ كانت حينها المونتيرة المخضرمة (وداد جلوب) ـ يكون كل شيء جاهز ومعد له مسبقا من اجل اختصار الوقت والجهد فما يتبقى علينا شيء والحال هذه سوى آلية تنفيذ مونتاج البرنامج صوريا بعد ان قمت بمونتاجه مسبقا على الورق (كديكوباج). ولهذا يمكنني القول بامانة بانني قد اكتسبت خبرة ممتازة بعملي كمساعد تحت ادارة هذا المخرج المبدع (رحمه الله).
موقف طريف
من المواقف الطريفة العديدة التي صادفتنا حين تصوير البرنامج، الموقف الذي حصل اثناء تصوير حلقة مع السفير الاردني في بغداد. كنت مع الاستاذ جالسين مشدودين (للمونيتر) نشاهد بحرص كبير مايصور، كنا مهتمين بشكل اساسي بتكوين اللقطة ومدى نعومة حركة الدخول والخروج في الكاميرا (حركة الزوم) وتوجيهات المخرج وملاحظاته للمصور اثناء التصوير وقد شغلتنا عما سواها. في حين كان الدكتور هاني يقف على مبعدة يلاحظ جيدا مايدور. بعدما انهى السفير الاجابة عن اسئلته قطع الاستاذ التصوير من اجل الفاصل وقام وشكر السفير ممتنا. واذا بالدكتور هاني وبملاحظة ذكية انقذت الموقف اخذ الاستاذ على جنب وهمس في اذنه بشيء ما لم استطع سماعه رغم قربي الشديد من المخرج. بدا الاهتمام واضحا على وجه الاخير فتوجه صوب السفير وخاطبه بشيء من الحياء والارتباك قائلا: (عفوا سعادة السفير هناك عبارة وردت اثناء اجابتك غير مقبولة عندنا ارجو منك لو تفضلت وتكرمت واعدت الاجابة دون ذكرها)!!. استغرب السفير فتساءل قائلا: (وما هي هذه العبارة ؟!!). اجاب الاستاذ: (لقد قلت في معرض اجابتك عبارة ” النظام العراقي” )!!. تساءل السفير باستغراب اكبر: (وماذا في ذلك ؟!! هذا التعبير شائع في الاعراف والاوساط السياسية وفي السلك الدبلوماسي!!).
بدا الحياء اكثر على الاعظمي وهو يقول: (نعم ولكن هنا في العراق هذا التعبير تعتبره القيادة العراقية انتقاص منها واساءة اليها فالجهات المعادية للعراق تستخدمه).
اجابه السفير: (هذا التعبير عادي وطبيعي ومتداول دبلوماسيا وهو يخلو من اي اساءة لقيادة العراق او ينتقص منها). رد عليه الاعظمي وقد غلبه الحياء: (نعم ولكن المسالة ستفسر من هذه الزاوية)!!.
اطال السفير الجدال بعض الشيء فهو يناقش من وجهة نظر دبلوماسية بحتة مؤمنا بان هذا التعبير ليس فيه سبّة او انتقاص من النظام. ومادرى ان النظام السابق له مقاييسه ومعاييره التي تختلف عن اي معيار دبلوماسي آخر على وجه الارض !! والمشكلة انه كان من الصعوبة بمكان حذف العبارة (النظام العراقي) في المونتاج لاسباب فنية. بعد ان رايت سعادة السفير وقد اطال في الجدال خاطبته في سرّي متوسلا: (استر علينة الله يستر عليك بهالليلة الكشرة !!).
اخيرا وحسما للجدال بعد ان وجد السفير ان الاستاذ مصر على رايه قال بشيء من الانزعاج: (ماهو اذن التعبير او الوصف الشائع عندكم ؟!!). اجابه الاعظمي: (ياحبذا لو قلت القيادة العراقية او الحكومة العراقية). وافق سعادة السفير على مضض دون اقتناع بالطبع على اقتراحه باعادة التصوير وقد بدا عليه عدم الرضا وهو يغيّر في الاجابة !!.
حفر الباطن
في تلك الفترة كان الاعظمي على وشك البدء بتصوير فلمه الحربي الكبير (حفر الباطن) الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار وقد صوِّر (فديو) لا سينما. وتدور قصة الفلم ـ كما اخبرني حينها ـ حول حادثة حقيقية وقعت ابان حرب التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 وهي دفن الامريكان لمجموعة من الجنود العراقيين وهم احياء. وهو ليس بغريب على الاستهتار والوضاعة والعهر الامريكي. فهل يمكن لنا ان ننسى الحادثة الماساوية الفظيعة لضرب ملجأ العامرية بنفس تلك الحرب القذرة ماادى الى استشهاد اكثر من 400 مواطن مدني بريء ومن جميع الاعمار كانوا قد احتموا بهذا الملجأ من هول الغارات الجنونية المتواصلة فكانت نهايتهم التراجيدية الشهيرة التي اظهرت مدى وحشية وهمجية الامريكان وعرّتهم امام العالم اجمع.
على اي حال اعود فاقول بانه كان على وشك تصوير ذلك الفلم، وقد وعدني حينها بان اعمل كمساعد له في هذا الفلم الذي صور في الحبانية. وقد كنت عازما في داخلي اذا ماعملت كمساعد له على ان اكتب عن الفلم كتاب يتحدث عن تجربتي الشخصية فيه وساعنونه بعنوان (يوميات فلم) على غرار نفس العنوان وطبيعة الكتاب القيّم للناقد والباحث السينمائي المصري الكبير (هاشم النحاس) حينما وثّق فيه تجربته كمساعد مخرج مع المخرج الكبير (صلاح ابوسيف) في فلمه (القاهرة 30) المقتبس عن الرواية الشهيرة (القاهرة الجديدة) للاديب العالمي الكبير (نجيب محفوظ). ولكن للاسف الشديد لم يقسم لي العمل في الفلم وبذلك فاتتني فرصة عظيمة لاكتساب خبرة كبيرة ومهمة جدا بالعمل مع هذا المخرج المبدع. ولكن مع هذا فالفلم بعد انجازه لم يعرض في التلفزيون العراقي ابدا لان ـ حسبما عرفت ـ النظام السابق كانت له بعض التحفظات عليه.
لمحة من ابداع الاعظمي
لقد انجز المخرج المبدع عددا من الافلام السينمائية الروائية ومنها فلميه (شمسنا لن تغيب) و(فتى الصحراء) اضافة الى الكثير من الافلام الوثائقية السينمائية التي جاوزت الاربعين فلما كان هو من كتب السيناريو لها وقام بمونتاج بعضها بنفسه. ومن يريد ان يعرف مدى حرفية هذا المخرج وقدراته الابداعية عليه فقط ان يمعن النظر ويدقق في كيفية تنفيذ واحدا من اصعب المشاهد حرفيا في فلمه الحربي (شمسنا لن تغيب) وهو مشهد مهاجمة الذئاب الضارية لبطل الفلم وهو استاذنا السابق في الاكاديمية (طارق لعيبي). فقد صوره بحرفية ومهارة كبيرتين على المستوى الاخراجي من النواحي: زوايا الكاميرا وحركاتها ـ التقطيع الحاد المتقافز ـ الحفاظ على التتابع والاستمرارية (الراكور) وسواها. وقد لا اكون مبالغا اذا ماقلت انها مشابهة للحرفية التي صور فيها المشهد الشهير المماثل له في فلم (الفخ) حينما تهاجم الذئاب الوحشية بطل الفلم الممثل البريطاني المعروف (اوليفرريد).
واذكر حينما سالته ذات يوم عن مشاريعه السينمائية المستقبلية اذا ماتم رفع الحصار وعاد الوضع طبيعيا بانه اجابني بكل ثقة: (عندي مشاريع افلام تهز الدنيا). والحق اقول باني حينما سمعت رده هذا استغربته واعتبرته فيه بعض الغرور لكن بعد تمعني جيدا بحرفية اخراج ذلك المشهد قلت في نفسي ان الرجل ممكن ان يفعلها. علما بان فلم (شمسنا لن تغيب) انتج مطلع الثمانينات اي قبل اكثر من ثلاثة عقود وهو محدود انتاجيا فهو من انتاج (دائرة التوجيه السياسي) في وزارة الدفاع وليس (دائرة السينما والمسرح) في وزارة الثقافة والاعلام السابقة. وقد عرض جماهيريا في احدى دور العرض السينمائي في بغداد، ولأطول من اسبوع وقد حقق ارباحا وعائدات جيدة غير متوقعة للدائرة التي انتجته كما اخبرني بذلك المخرج الراحل. اي انه لم يكن متميزا على المستوى الفني فقط بل والتجاري ايضا رغم كونه كما اسلفت فلما عراقيا حربيا ومحدود الكلفة انتاجيا وماهو مثلا بالفلم المصري الكوميدي او الرومانسي الذي يجد له صدى وقبول لدى الجمهور العراقي عامة.
شجن مابعده شجن
ان الشجن والالم والحزن يعتصرونني كلما طافت بخيالي ذكرياتي مع هذا المخرج المبدع، فكما قلت في مستهل الموضوع انني تعرفت عليه عام 1999 اي في سني الحصار العجاف الطويلة المهلكة الحالكة السواد. كانت عجلة السينما قد توقفت تماما عن الدوران، والرجل يعمل كموظف في دائرة السينما والمسرح براتب قد لا يتجاوز 3000 او 4000 دينار شهريا كحال الاغلبية الساحقة من موظفينا الحكوميين آنذاك. وكان كمعظم العراقيين يعاني من ضائقة مالية كبيرة. وقد قال لي يوما بمرارة شديدة: (والله فكرت جديا في العمل على عربة لبلبي). وهو مادعاه للعمل كمخرج وفق نظام (القطعة) في هذه القناة بعد ان سدت جميع ابواب الرزق في وجهه ككل العراقيين في ذلك الزمن الاسود الاهوج، زمن الجوع والفاقة والحرمان وذل الحاجة حينما افترشنا الارض والتحفنا السماء ولكّنا الصخر خبزا كما يقول المطرب (كاظم الساهر). ان ما آلمني اشد الإيلام هو وصول مبدعينا الكبار الى هذه الحالة المزرية البائسة (بيع اللبلبي) وهو المخرج السينمائي المبدع، مع احترامنا بالتاكيد لكل المهن الشريفة.
ولم يقتصر الشجن في ذكرياتي معه على تلك الفترة فقط. فبعد سقوط النظام حينما كنت التقي به في دائرة السينما والمسرح يوميا كان الرجل يحدثني بمرارة عن تعرضه للكثير من المضايقات والضغوطات من قبل بعض مسؤولي الدوائر الفنية والثقافية، بل وحتى عائلته من قبل الامريكان المحتلين بذريعة انه محسوب على النظام السابق !!. ولا زلت اذكر في احد الايام عام 2004 كنت جالسا في تلك الدائرة برفقة مجموعة من الفنانين فاذا بالاعظمي يوزع علينا (الجكليت) وعندما سالناه عن المناسبة اجاب بمناسبة خروج نجله الكبير (عادل) من معتقل الامريكان وحينما استوضحت منه اكثر قال بانهم يدّعون ان ابني من البعثيين المطلوبين للعدالة !!.
الفنان بين مصر والعراق
وهنا تحضرني حادثة شهيرة مشابهة لما حصل مع المخرج الراحل. فبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 في مصر عيّن احد الضباط الاحرار المتشددين ممن قاموا بالثورة مديرا لدار الاذاعة المصرية. فكان اول قرار اتخذه هو منع اذاعة اغاني المطربة ام كلثوم من الاذاعة بدعوى انها مطربة البلاط الملكي، اي انها من رموز النظام البائد !!. استفسر الزعيم جمال عبدالناصر عن سبب انقطاع اذاعة اغانيها كما هو معتاد يوميا فقد كان من اشد عشاقها وفيمابعد كان يحضر بانتظام لحفلاتها الشهرية التي تقام في سهرة آخر خميس من كل شهر. اخبروه بالسبب فرفع السماعة حالا واتصل بهذا الضابط مدير الاذاعة وامره بان ياخذ معه حالا قوة عسكرية لهدّ الاهرامات الثلاثة. تساءل الضابط في استغراب شديد: (ليه…وازاي ؟!!). اجابه عبدالناصر: (اليست هذه الاهرامات من رموز النظام البائد؟!!). واردف بحدة: (من يعتبر ام كلثوم من رموز النظام البائد فليعتبر الاهرامات ايضا من رموز النظام البائد !!). ثم امره بان يرفع فورا قرار الحظر عن اغانيها.
فحرام علينا ان نظلم الرجل في مماته بعد ان ظلم في حياته.
مشروع لم يرَ النور
كان هناك مشروع عمل فني بيننا، فقد كتبت نصا مسرحيا (مونودراما) بعنوان (يوميات السيد س…او هذيان). كان المخرج قد قرأه واعجب به فقرر ان يخرجه بنفسه بصفته رئيس فرقة مسرح (الرسالة) وله تجارب مسرحية سابقة ضمن مهرجان منتدى المسرح عام 2005. وقد جلسنا سوية عدة جلسات من اجل مناقشة النص واجراء بعض التعديلات عليه. وقد اعاد كتابة النص بخط يده بعد اجراء التعديلات المتفق عليها وما زلت محتفظا به الى الان، لان خطي رديء غير مقروء واشبه (بخرابيش البزون) كما كان يصفه. تم اجراء البروفات المسرحية وقد اشارت الكثير من الصحف المحلية لخبر بدء البروفات في منتدى المسرح. واذا بالاحداث الطائفية الهوجاء المجنونة تعصف بقوة بالبلد في تلك الفترة بالتزامن مع التفجيرات الارهابية اليومية المتواصلة. فانقطعنا عن التواصل، وتم قبولي في دراسة الماجستير فشغلت بها تماما. لم نعد نلتقي وانقطعت اخبار الاستاذ عني تماما.
في احدى ايام الجمع التي كنت مدمنا على قضائها اسبوعيا في شارع المتنبي لتبضع الكتب. سمعت احدهم يناديني من بعيد التفت فاذا بالاستاذ سلام سلمت عليه بحرارة، وعند السؤال عن احواله واخباره اخبرني بانه قد هجّر من داره وفي نيته السفر الى سوريا حفاظا على حياته كحال الكثير من العراقيين فنانين ومواطنين في تلك الفترة العصيبة من بلادنا، فدعوت له صادقا بالحفظ والسلامة. عاد الانقطاع مرة اخرى وفي احد الايام التقيت صدفة باحد الاصدقاء المشتركين بيننا سالته بلهفة عن اخبار الاستاذ فاذا به يجيبني بان حالته المادية يرثى لها، فبيته الذي استطاع تاجيره قبل سفره لاحدهم وبقيمة الايجار كان قد استاجر شقة بسيطة في دمشق مستفيدا من رخص المعيشة هناك مقارنة بنا كما فعل الكثير من العراقيين آنذاك كما اسلفت. لكن واذا بمستاجر داره قد امتنع عن تسديد الايجار ومن دون اي حسيب او رقيب نتيجة الفوضى العارمة التي عمت البلاد. ماجعل الاستاذ في وضع مادي حرج ومزرٍ جدا فلم يعد يقوى حتى على تسديد ايجار شقته فما بالك وبقية المتطلبات والمستلزمات المعيشية والحياتية الاخرى التي لا غنى عنها، من مأكل ومشرب وملبس وعلاج….الخ. شعرت باسى والم وحزن شديد على هذا الفنان المبدع، فتساءلت في داخلي بمرارة: (اهكذا يكون حال مبدعينا ومثقفينا الكبار في هذا البلد المبتلى ؟!!.. مشرّدين على ارصفة الغربة والقهر والحزن والفاقة وذل الحاجة…لا يملكون ولو حتى ثمن ايجار سكن ياويهم…او ملبس يكسيهم…او طعام يسد رمقهم ورمق عيالهم؟!!).
وانقطعت اخباره مرة اخرى حتى صعقت وفجعت بخبر رحيله اثر نوبة قلبية مفاجئة في غربته القاسية بدمشق. رحل هذا المبدع غريبا عن بلده كحال شاعر العرب الاكبر (محمد مهدي الجواهري) والكثير من مبدعينا وأعلامَنا وقاماتنا الكبيرة الاخرى في بلدنا الجريح المكتوي بالنار والدمار من الذين لم يتسع لهم حضن الوطن الدافئ، رغم انهم من أَبرّ الناس له واكثرهم عطاءا لتتلقفهم يد المنون في حضن الغربة القارص.
ان هذه الكلمات التي سطرتها في حق هذا المبدع الراحل ماهي سوى جزء بسيط من الوفاء والاخلاص والعرفان بالجميل وجزء من رد الدين علينا ككتاب ونقاد لاحد المبدعين من الذين خدموا الفن والسينما العراقية وعاش راهبا في محرابها لعقود عدة، فاعطى كل شيء من ابداعه وفكره وزهرة شبابه لبلده دون ان ياخذ منه شيئا في المقابل حتى ان كانت حفنة ليرات لاستئجار شقة.