وأخيراً رأيت أبي – جليل وادي

كلام أبيض

وأخيراً رأيت أبي – جليل وادي

صورة ممزقة، لعب الدهر بها ما لعب، لا أدري كيف احتفظت أمي بها، وكيف وصلتني بعد هذه العقود الطويلة، ولقطتان هلاميتان في ذهني احداهما قريبة والأخرى بعيدة بلغة أهل السينما والتلفزيون، لم أستطع أن أتبيّن من خلالهما ملامحه، هي كل ما أحتفظ به في ذاكرتي لأبي الذي راح ضحية مجتمعات منغلقة على نفسها، في قرى نائية لم تر فيها المرأة المدينة الا عندما تمرض، وما هي الا تلك القطعة السوداء التي تتنقل حافية القدمين في حقول الرز، او حاملة كدس من القش على ظهرها، بينما أبر العاقول تنهش قدميها، اما عالم الرجال فلفرط تضخيم الذات يرون أنفسهم أحسن الناس، بانوفهم اليابسة التي لولا التنفس ما سمحوا حتى للهواء أن يمر بها ، بنادقهم وراء الأبواب، معبئة حتى اذنيها بالعتاد، ينامون بعين واحدة، ويفزون واقفين لنباح كلب او صرير باب ، ولا ينتهي شجارهم الا مغسولا بالدم تحت سقف من أزيز الرصاص، قرى مازالت حتى يومنا هذا على حالها ثقافيا وماديا، حتى ان الذي يريد الانتقال من مكان لآخر عليه ان يتأبط نعليه، ويشد ثوبه الى حزامه. وبالرغم من تسلل التقنيات الى عالمهم من بعض ثغور الانغلاق، لكنهم لم يتغيروا. فللتغيير شروط  مازالت لم تكتمل لدينا لا في القرى ولا في ما نسميه المدن، وهذا الذي لم نفكر به بعد.

أمر بهذه القرى على فترات متباعدة ، فافر مهزوما، وليس في بالي سوى ذلك الرجل الذي لم يبلغ الثلاثين من العمر كما تشير الى ذلك وثائقه الرسمية، واضعا مسحاته على كتفه، بوجهه الأسمر وخديه الذابلين، وصفحتي وجهه المتقعرتين، وعندما تشح المياه وتتعذر الزراعة، يرحل الى بغداد للعمل، ليعود منها لزيارة أهله في الشهر مرة او أكثر، لا عمل محدد في باله، اينما يكون الرزق يقبل به، فهو ذاك الفلاح الذي لا يُقارن عنده تعب عمل المدينة مع الموت الأحمر بريفنا المغلف بالعشيرة والمهزوم بالاقطاع.

اللقطتان التي أحاول جاهدا استجماعهما في ذهني تشيان برجل تجاوز الخمسين، بذقن قاتم السواد، وشارب ليس بالخفيف او الكثيف، وخذلان غريب، وانكسار واضح، لكنه في أواخر العشرينات ليس أكثر، ولأني لم أره ملء عيني، ولم اسمع صوته صارخا او هامسا، ولا أتذكر أحضانه، او أشم عطره، صارت مشاعري حيادية، هو اسم في الذاكرة، وفي وثائقي الرسمية ليس الا، وهكذا لم أر بي طوال عمري، لكن أمنية رؤيته رافقتني اينما أسمع كلمة بابا، وكلما زرت تلك القرى المنسية.

وفي لحظة خطر في بالي ان استعين بالذكاء الاصطناعي، فصورت صورة أبي التي مزقها الزمان وارسلتها له، ذاكرا عمره والسياق الاجتماعي للبيئة التي عاش فيها، والأزياء التي كانت سائدة، والمناسبة التي استدعته لالتقاط تلك الصورة، فطلب مني لحظات لإجراء المعالجة، وبالفعل أرسل لي صورة تتناسب تماما مع ما ذكرته له، وطمعت بخدماته الخارقة، فطلبت منه أن يعالجها لونيا وفقا لسياقها الاجتماعي، وعادت لي الصورة ثانية بعد وقت يعد بالثواني، تأملتها مليا من جميع جوانبها، فحركت مشاعري، ووجدت نفسي أهيم بأبي، وفي وجداني عطف مرير على شاب فقد حياته في مقتبل عمره، ولولا الأقدار لتاه ولداه في غياهب الحياة، وهكذا رأيت أبي، فشكرت برنامج الذكاء (Gpt) على عمله، فرد علي بأحسن مما قلته، ذوقه رفيع في رد الشكر والتواضع في تقديم الفضل، فظننت الذكاء الاصطناعي من الصحابة. ومع انه لطيف جدا، وسريع في الاستجابة لطلباتنا، ولا تتحكم به الأمزجة في الاجابة على أسئلتنا بأي وقت نختاره لطرحها، ولكن سؤالي الأهم: هل سيجعلنا نتقاعس عن التفكير، وهل سنستعين به في الاحتيال على حياتنا؟.

jwhj1963@yahoo.com

مشاركة