قصة قصيرة
هو وظلّه – نصوص – شيماء المقدادي
المكانُ يغرَقَ في ظلامٍ حالكٍ ، أحدُهُم يترنّحُ يميناً ويساراً وصوتُه يعلو نشازاً ، يُغَنّي ويحتسي من قارورةٍ في يدِهِ ،، يتقدَّمُ باتّجاهِ منطقةٍ تتوالى مصابيح الاعمدة الكهربائية بالأشتعال والانطفاء ( هذا ما بدا لعينيه النصف مغمضتين) ، أو ربّما هي أضواءُ سيّارةٍ تقِفُ على مبعدةٍ من المكان، أو ربّما هو الضوءُ الآتي من فتحةِ السماءِ ليصطحبَهُ إلى الجنة .
على حائطٍ قريبٍ يُبْصِرُ ظِلَّهُ يتحرّكُ معه ، يتّجهُ نحوَهُ فيتضاءل ، ويبتعدُ فيكبُر ، بقيَ مدّةً ليست بالقليلةِ وهو يحتسي الشرابَ الذي في يدِهِ ويقتربُ ثمّ يبتعدُ وصوتُهُ المخمورُ يعلو ضاحكاً كلما اقتربَ لظِلِّهِ وتضاءلَ
– إثبتْ في مكانِكَ يا جبان ..
وحين يبتعدُ ، يعودُ الظلُّ يتسعُ فيملأ الرجلُ فمَهُ ضَحِكاً حتى يتطايرَ من فمِهِ الشرابُ .
تلفَّتَ حولَهُ ، فأبصرَ أشبَهَ ما يكونُ بمقعدٍ خالٍ ، إتجَهَ نحوَهُ وهو يحادثُ ظِلَّهُ ( سأجلسُ هنا ، حتى تتأكّدَ أني لا أريدُ بكَ أو بغيرِكَ شرّا ، ولنتحدّثَ رجلاً لرجل )
لكن المقعدَ لم يكن أكثرَ من كيسَيْ سمَنت رُصّا فوق بعضِهِما ، إقتعدهما ورفعَ يدَهُ مخاطباً ظِلَّهُ
– في صحة الأمان
يبدو ظِلّهُ أكبرَ منه قليلا ، متموجا في الحركةِ بسببِ بعضِ الأوساخ التي رماها سكانُ المنطقةِ ، ممّا جعلَهُ يتأفّفُ متسائلاً :
– كيف لا تختنقُ يا رجل من كلِّ هذه الرائحة ؟؟ وكيف لا تتذمَّرُ من كلِّ هذه القذارة ؟ يبدو إنك مسكينٌ ،، ضعيفٌ بلا حولٍ أو قوة .
لا أحدٌ يجيبُ ، لا صوتٌ غيرَ نباحِ كلابٍ ألِفَتْهُ ، تتنقّلُ بين النفاياتِ تبحثُ عن طعامٍ .. يرميها ببعضِ الحجارة فتبتعدُ ، ومواءُ قططٍ تتقافزُ هنا وهناك .
– ألا تزعجُكَ الكلابُ السائبة ؟؟ ألا يستفزُّك مواءُ القططِ التي تدعو بعضَها لتتناسلَ كأن الشوارعَ ينقصُها المزيدُ من الحيواناتِ والمشرّدين . الشوارعُ بدأتْ تضيقُ بنا يا رجل .
يدفعُ القارورةَ في فمِهِ كأنّهُ يريدُ ابتلاعَها ، كأنه يحتسي سمّاً ، يتهيأُ لهُ صوتاً يأتيه من الظِلِّ المصلوبِ على الجدار
– هوِّنْ عليك ، تبدو كأنك تبحثُ عن النسيانِ لا عن نشوةِ خمرٍ .
بكلماته المتعثرة على حبال حنجرته يجيب
– نشوةُ الخمرِ لأولئكَ المترفين ،، المعافين بأرواحِهِم . المحلّقينَ بأجنحَةِ النجاحِ
– تبدو فيلسوفا يعيشُ في فراغ .( يردُ الظِل )
بحركةٍ مسرحيّةٍ يحرّكُ يدَيْه في الهواء وقارورتُهُ في قبضةِ يدِهِ
– نعم نعم .. فيلسوف .
حملتْهُ قدماهُ دون شعورٍ والكلماتُ تخرجُ من بينِ شفتَيْهِ باكيةً
– الفراغُ هو أثقلُ ما يحملُهُ الإنسانُ ..أليسَتْ تلك حكمةٌ قديمة ؟؟ وأنا منذ أعوامٍ لا أذكرُها أحملُ الفراغَ على كتفي ، منذ متى يا صديقي ، صدقا لا أذكر ،، ربما منذ زمنٍ ما عادَ لنا فيهِ وطنٌ ؟؟ حسنا منذ متى لم يعُدْ لنا وطنٌ ؟؟ الهوّاتُ في هذا البلد كثيرةٌ وكلُّها تسّاقطُ فيها إنسانيتُنا .
يدورُ حولَ نفسهِ ، يغني ويرقصُ بتمهّلٍ يناسبُ رأسَهُ المثقلَ بالسُكْرِ وروحَهُ المثقلةَ بالهمِّ .
يعودُ إلى ظِلّهِ الذي كان يشاركُهُ الرقصَ ، بحركاتٍ أوسعَ أو أضيقَ حسْبَ قُرْبِ الرجلِ أو بُعدِهِ عن الجدار .
يعودُ إلى مقعدِهِ ، يرفعُ القارورةَ إلى فمِهِ ، يرمي بها الجدارَ بعد أن تقيّأَتْ كلَّ شرابِها في جوفِهِ ، تتناثرُ شظايا الزجاجة ، فيرفع صوتَهُ معتذرا ، يصمتُ دقائقَ وهو يفتّشُ جيوبَهُ . يرفعُ يدَيْهِ مستسلما ثمّ يخْبُطُ كفّاً بكفّ مخاطباً الظلَّ
– لا زجاجةٌ أخرى ولا حتى سيجارة .
قطّةٌ تهربُ قريبا من قدميْه ، يرفُسُها بقوّة ، لكنّ الركلةَ تضيعُ في الفراغ . يضحكُ ملءَ وجَعِهِ
حتى القطّةَ باتت تراوغني وتنجو من رمياتي ، هل تصدّقُ أني كنتُ يوماً رياضِيّاً ؟؟
يحني رأسَهُ ويُسْنِدُهُ بكفّهِ الأيمن .
– في أيِّ مجالٍ ؟؟ تساءَلَ الظِلُّ
في مجالِ الرمايةِ . أجابَ الرجلُ مسرِعاً ، وأردفَ
– ربما لو مرَرْتُ الآنَ بجانبِ نادي الصيدِ أو نادي الجادريّة ما عَرَفَتْني جُدرانُهُ ، نعم نعم ، صدّقني لقد كنتُ إنسانا آخرَ
الظلُّ يستفزّهُ بالصمت ، فيصرُخُ الرجلُ به
– لا تُصدّقُني , ها ؟
– يا رجل ، أيّ نوادي تتحدّثُ عنها ، حدّثني عن بيوتِ الصفيح ، عن السقوفِ التي لا تُقيكَ مطرا ، عن آجرِّ الرصيفِ وهو يلتصقُ بكَ صيفا ، عن الملابس التي تشحذُها والطعامِ الذي تجدُهُ مرمِيّا هنا أوهناك ، كلمني عن أولئك الذين يصرخون بوجهِكَ مشمئزّين كلّما حاولتَ الأقترابَ من أحدِهِم . ينهضُ غاضبا ، فتترَنّحُ قامتُهُ في الهواء
تريدُ أن أكلّمَكَ عن الأعوامِ الخمسةِ الأخيرة التي شاركتُكَ فيها طعامَ النفاياتِ وملابسَها ، فماذا عن الأربعين عاما التي لم ألقَك يوما بها ؟؟
– أربعون عاما !! هات ما عندك ، أسمعُك .
بحروفٍ يبتلعُ بعضَها ونومٍ يُثْقِلُ على جفنَيْهِ ووجعٍ يحتلُّ روحَهُ تقدّمَ نحوَ الجدارِ بغضبٍ وبقبضتَيْهِ المتعبتين راحَ يضرِبُ الظلَّ حتى تداعى جالسا بجانبِهِ وهو يُردّدُ ..
– وهل سوف تفهم ؟ وان فهمتَ هل تساعدُني ؟؟ هل تعيدُني إلى نفسي ؟ إرحلْ أيّها المُتَصَلّبُ العَفِن .
النومُ وهو يسرِقُهُ إلى نفسِهِ ، تهبطُ عليه ابنتُهُ ذاتُ العشرةِ أعوامٍ ، تبدو كشعاعِ نورٍ تبتلعُ الظلامَ حتى يُصْبِحَ الكونُ سرمدا نورانيّا ،تمسحُ عن وجهِهِ القذارةَ ، تُهَدْهِدُهُ في سريرِهِ الوثير ذي الشرشفِ الأزرقَ ، يبتسمُ وهو يرى وجهَها الذي تناثرَ ذات صباحٍ مفخّخٍ قد تعافى بينما زوجتُهُ توسِّدُهُ ذراعَها التي تقطّعَتْ، ورائحةُ سمَكٍ مشويّ تُعِدُّهُ والدتُه في المطبخ تداعبُ شهيّتَهُ، وعلى صوتِ خرزاتِ مسبحةِ والدِهِ وهو يحرّكُها بين أنامِلِهِ المتعَبَةِ كان يضبطُ موعدَ غدائِهِم الذي ما اكتمل.
يردّدُ مخاطبا ظِلَّهُ : أنا من فخَّخَ داري وأحالَهُ ركاما ، أنا من غيّبَ وجهَ ابنتي وزوجتي ،ووالدَيّ.
الظلُّ يتساءلُ
– لماذا ؟؟
يفترشُ المكانَ الذي يجلسُ فيه ويردّدُ ..
ليس لسببٍ إلا لأني كنتُ أشتمُ ، نعم أشتمُ وأشتم ، النظامَ السابقَ والحاليَّ ، الأحزابَ كلَّها ( يقولُ ذلك بابتسامةٍ تعجزُ شفتاهُ عن رسمِها ) ، أشتمُ الحضارةَ والمذاهبَ والطوائف.أشتمُ كلّما تطايرَتْ أرواحٌ وتناثرَتْ أشلاءٌ بين شوارعِ البلدِ ، ألعنُ كلّما تهجّرَتْ عائلةٌ بسببِ المذهَبِ ، أشتمُ وألعنُ كلّما وجَدْتُ القتلَ وقد أصبحَ الوجهَ الطبيعيَّ للبلدِ والسلامُ صفةً لم نعد نألفها ، إسألْني مَنْ منهم قتلني فيهم ، مَنْ فيهم تلثّمَ ليقيّدوني ويفجّروا البيتَ أمامي ويدكّونَهُ على رأسِ عائلتي !!
سأجيبك أيّها الغبيّ ،، كلّهُم ،، كلّهُم ،، كلّهُم ….
يستسلمُ للنومِ ، يحنو عليه الظِلُّ هامساً
– ما كان عليكَ الشتمُ أو حتى الكلام ، ما كان عليكَ إلّا أنْ تعيشَ كخروفٍ أو ذئبٍ لا أنْ تعيشَ , يا غبي , كإنسان .



















