هولاند من عائلة يسارية

هولاند من عائلة يسارية
عبد الرحمن مكاوي
شاءت الصدف أن ألتقي بالرئيس فرانسوا هولاند Fran ois Hollande بسنة 1998 بمدينة لاروشيل la Rochelle السياحية الجميلة وذلك على هامش أشغال الجامعة الصيفية التي ينظمها الحزب الاشتراكي الفرنسي كل سنة. وكان برفقتي المرحوم، صديقي وأستاذي كلود جوليان Claude Julien . مدير جريدة لوموند ديبلوماتيك Le Monde diplomatique . هذه المناسبة التي كانت قصيرة في الزمان والمكان والتي سمحت لي باكتشاف الأمين العام للحزب الاشتراكي الشاب وأعطتني انطباعا ايجابيا من خلال حديثي معه.
كونه انسانا بسيطا هادئا مبتسما دائما ليس نفاقا ولا تسويقا سياسيا لشخصه. كان الرجل يتكلم على تفاصيل المشهد العربي عامة والمغاربي خاصة. وكان مهتما كثيرا بما كان يجري في الجزائر من حرب أهلية في ذلك الوقت، معتقدا أن هذه الدماء الجزائرية التي سالت بغزارة والتي تنبأ بها الجنرال ديغول De Gaulle سنة .1960 سوف تأتي في المستقبل بنابليون جزائري يصلح الأوضاع ويضع هذا البلد الغني والاستراتيجي على سكة الديمقراطية الحقة. أما رأيه في المغرب والملك الحسن الثاني، فكان موقفه سلبيا جدا من الأوضاع في هذا البلد. الذي بدأ يعرف انتقالا ديمقراطيا بطيئا، كان يعتبر الراحل الحسن الثاني منتوجا يمينيا فرنسيا بامتياز أعطى نتائج معاكسة في المغرب وذلك لاسباب ذاتية وخارجية فالمرجعية والفلسفة الاشتراكية الفرنسية ومواقفها من الملكيات بشكل عام معروفة وشائعة في اوربا. ففرانسوا أشار في ذلك الحديث، أن الراحل الحسن الثاني ملك مثقف ولكنه استاليني السلوك. وكان لا يفهم العلاقة الشخصية والسرية التي كانت تجمع الرئيس الراحل فرانسوا ميتران Fran ois Mitterrand الاشتراكي بالعاهل المغربي الراحل، فكان هذا الأخير الذي انتخبه الشعب الفرنسي سنة 1981 في رأي. هولاند ملكيا وبورجوازيا في العمق واشتراكيا وتقدميا في الظاهر.
القاسم المشترك بين الملك الراحل الحسن الثاني حسب رأي فرانسوا وبين الرؤساء الفرنسيين هو ولعهم وحبهم الكبير للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما Alexandre Dumas الذي خلف مؤلفات سياسية وفلسفية وأدبية عدة. فمن هو فرانسوا هولاند وكيف ترعرع وما نظرته لشمال افريقيا؟ ولد فرانسوا هولاند في صيف 1954 بروان Rouen القريبة من باريس في عائلة بورجوازية. وهو الابن الثاني للعائلة. كان أبوه طبيبا أخصائيا في جراحة الأذن والأنف والحنجرة ORL وفي نفس الوقت مضاربا عقاريا كما هو الشأن بالنسبة لبعض أطبائنا في الوطن العربي. فجورج هولاند Georges Hollande الأب كان قريبا من الشبيبة النازية سنة 1944 يمينيا متطرفا حتى النخاع. منخرطا آنذاك في جيش الماريشال بثان Marechal P tain مبكرا كما كان من مناصري المنظمة السرية المسلحة في الجزائر التي كانت تسعى الى اقامة جمهورية فرنسية في الجزائر OAS على شاكلة روديسيا Rodicia سنة 1958. وقد تقدم أب فرانسوا هولاند للانتخابات البلدية والتشريعية في روان تحت لافتة لا للدخلاء ولم يسعف الحظ هذه الخلفيات اليمينية المتطرفة للأب كانت تقابل بتوجه معاكس داخل العائلة. فنيكول هولاند Nicole Hollande أم الرئيس الجديد لفرنسا الممرضة والمساعدة الاجتماعية كانت امرأة يسارية ودودة وكريمة، وكانت كثيرا ما تقدم الخدمات الانسانية للمهاجرين والمستضعفين، سلوك أثر كثيرا على أبنائها فيليب وفرانسوا هولاند، هذا التعامل الايجابي والاحساني مع الناس في محيطها المباشر كان يثير غيرة الأب ويذخله في نوبات عصبية كبيرة هذا ما دفعه الى الغياب عن المنزل كثيرا. قساوة الأب وعدم اهتمامه بتربية أطفاله جعل هذه العائلة الممزقة ايديولوجيا تعيش تناقضا حقيقيا قريب من الانفجار. فجورج هولاند الأب كان مقاطعا بل منبوذا من طرف سكان روان ومن عائلته الصغيرة التي كانت تخافه وتخشاه. أما الأم فكانت لها شعبية ووضع اجتماعي محترم في البلدة. الوضع الذي اضطر بجورج هولاند الى بيع مصحته الخاصة وعقاراته الكثيرة وقرر الرحيل الى باريس دون اشعار العائلة. قرار خلف أثارا سلبية في نفس الزوجة نيكول وأبنائها فيليب وفرانسوا اللذين اعتادا العيش في بيئة هادئة ومتوازنة كان عمر فرانسوا هولاند 13 سنة . الانتقال الى باريس كان أمرا قاسيا وصعباً للجميع فبعد حصول فرانسوا هولاند على الثانوية العامة. دخل الى الكلية شعبة العلوم السياسية وكانت الجامعات الفرنسية في باريس تعرف غليانا كبيرا ماي 1968 . فانخرط الشاب فرانسوا الهادئ والكتوم في صفوف الشبيبة الشيوعية، وتحول الى مناضل نشيط ومحتقر من طرف رفاقه الشيوعيين. فعندما أنتخب مكتب تعاضدية الكلية سوف يدفع به زملاؤه لشغل منصب الأمين العام على سبيل السخرية والنكتة. فأطلقوا عليه نعت الغبي المفيد l’idiot utile . الا أن ذكاءه وفطنته أثبتتا العكس.
دخوله الى الحزب الاشتراكي كان بالصدفة فرغم محاولات صديقته اديث كريسون Edith Cresson استقطابهٍ. الا أنه رفض هذا المشروع بسبب نظرته لهم على أساس أنهم اشتراكيين على اساس انهم بورجوازيون. الحدث الذي سوف يغير أفكاره وميولاته الايديولوجية. هي حفلة أقيمت في مدينة فرساي Versailles من طرف الحزب الاشتراكي وكان خطاب فرانسوا ميتران المحامي البارع ونجم السهرة أمام ألاف الشباب عاملا حاسما في هذا التحول السياسي لفرانسوا هولاند، فانظم هولاند الذي ولج هذا الحزب وعمل بكل قوته في التنظيم بكل جدية وانضباط وتمكن من تسلق جميع السلاليم الى أن وصل الى القمة اي امين عام الحزب الاشتراكي.
بعد الكلية سيدخل هولاند الى المدرسة الوطنية للادارة ENA مدرسة النخبة في فرنسا، المتخرجون منها يوظفون في المناصب العليا محافظ، قاضي… . وكان حظ فرانسوا ولوج محكمة الحسابات مع زميلته سيكولين رويال S gol ne Royal التي سوف يرتبط بها عاطفيا ويؤثر في مسارها السياسي المحافظ. حب نتج عن خصام كبير بينهما في المدرسة الوطنية للادارة.
فوز ف. ميتران في سنة 1981 بالرئاسة كان مناسبة لفرانسوا هولاند وصديقته سيكولين رويال العمل في ديوان الرئيس الذي كان يتعامل معهما كأطفال سذج، الشيء الذي دفع فرانسوا هولاند الى ترك منصبه والتفرغ للنضال داخل الحزب والمشاركة في الانتخابات التشريعية ضد جاك شيراك Jacques Chirac في منطقة لاكوريز Lacoreze وكان شيراك يلقب هذا الشاب الطموح أثناء حملته الانتخابية بكلب الرئيس الاشتراكي Labrador du pr sident وهذا كان يثير غضب فرانسوا هولاند الذي سوف ينجح في الأخير بالفوز بمنصب عمودية مدينة تول Tulles وممثلها في البرلمان، أصغر برلماني في تاريخ فرنسا 27 سنة ثم أمينا عاما للحزب الاشتراكي الفرنسي. خلافه مع صديقته وأم أبنائه سيكولين رويال بدأ بعد تخرجهما من المدرسة الوطنية للادارة. وتفضيل الرئيس ميتران لها على حساب فرانسوا هولاند وكان هذا أسلوب يتبعه ميتران لاثارة الغيرة والتنافس بين أعضاء ديوانه، فكان ميتران ماكيفلي الطبع. وظهر هذا النفور واضحا بين الحبيبين مند أن قرر الرئيس ف. ميتران تعيين السيدة رويال وزيرة في حكومة اديت كريسون للعلم كانا الزميلين المتحابين يعتبران الزواج مؤسسة بورجوازية فلم يعقدا قرانهما أبدا . وبعدها تقدمت عليه في الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس نيكولا سركوزي Nicolas Sarkozy حدثان سيبعدان فرانسوا هولاند عن صديقته التي كانت تغيب عن المنزل تاركة له تربية الأطفال. فدخلت فليري تريولر Val rie Trierweiler صحافية في مجلة باري ماتش Paris Match لتملأ الفراغ وتزيح سيكولين رويال من قلب هولاند نهائيا. وفاة أمه نيكول وعدم حضور صديقته الاولى وأبنائه في الجنازة كان له أثر بليغ في نفسية الرجل، الذي عمل بوصية والدته ورفيقته الجديدة لانطلاق مغامراته الرئاسية في وقت تخلى عنه الجميع رفاقا واعلاما وحزبا، ونجح في ازالة جميع العراقيل والحواجز الى أن وصل الى سدة الحكم. للتذكير قبل أن تموت نيكول هولاند الأم أوصت ابنها فرانسوا اذا أراد أن ينجح في الحياة أن ينفذ وصيتها حرفيا،
وصية تتضمن الأوامر الآتية
ــ حرقها في مدينة كان Cannes .
ــ دفن رمادها في كنيسة متواضعة في سان وان Saint-Ouen قرب باريس.
ــ العمل على اتباع حمية للتخفيف من وزنه.
ــ عدم الالتفات الى الماضي المليئ بالخيانة والخداع.
ــ تحضير نفسه لاقتحام قصر الاليزي Palais de Lâlys e فطبق ونفذ الابن البار وصفة أمه وفاز بالرئاسيات الفرنسية.
مستقبل العلاقات الفرنسية المغاربية سوف تسودها البرغماتية والواقعية السياسة R alpolitik فبرغم أن فرانسوا هولاند كان كثير الانتقاد لفرنسوا ميتران الا أنه كان يعتبره نموذجا في الحكم وفي العلاقات الدولية الفرنسية وخاصة دبلوماسية فرنسا مع دول شمال افريقيا.
/6/2012 Issue 4220 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4220 التاريخ 7»6»2012
AZP07