الصوت الساحر في مرمى مشاهير الأدب
كنتُ قبل مدة متوقعا ً أنْ تبتدر قناة الشرقية الفضائية كعادتها في إمتاع مشاهديها و إبهاج نفوسهم في عشيَّات شهر رمضان الكريم والمبارك، بأنْ تعرض لهم حلقات مسلسل درامي بخصوص المسيرة الفنية التي قطعتها المغنية المشهورة بالأمس والمنسية اليوم صديقة الملاية ، ذات الصوت المعبِّر عن الأشجان والحسرات، والتي درجَتْ شاكية من كنود الناس وجحودهم، وخامرها من الالتياع والمرارة والألم الممضِّ ما ليس إلى تصويره من سبيل، جرَّاء الهضيمة النازلة دوما ً بالأشقياء والأردياء والمنكودينَ من بني الإنسان أو صنف بعينه منهم , بأنْ يكون القطاف والجنى بعد أنْ تعهَّدوا الغراس بالرعاية والسهر والسقيا، واستنفد ذلك مجهودهم وطاقتهم وحيلهم، من نصيب مَن لمْ تـُعرَف عنه يوما ً ثمَّة سابقة مأثورة في النصب والجلاد والذياد، ولهم وحدهم تناهَتْ الأرطاب، وخلص نوى التمر لأولاء المجهودينَ المتعبينَ، لتجعل هذه الفنانة المحزونة اللفظة العربية نوى رويا ً تنهي به سائر أبيات مقطوعة من الشعر الشعبي المترنم به والذي يُسمَّى عادة بـ الأبوذيَّة ، غير أنـَّه يوحِي هذه المرَّة بمعنى آخر، ويرمز إلى مقصد يحكي عن الفراق وبعثرة الشمل بحسب ما تعنيه كلمات اللغة المتداولة، وينطوي أيُّ منها على أكثر من مرمى ودلالة، ويُقال أنَّ نوري باشا السعيد كان مشغوفا ً بصوتها الملائكي الصادح، ومفتونا ً باسترسالها في التغني وترديد فحاوى هي أبعد عن توخِّيها الإطراب، بقدر ما تسحر النفوس وتهيب بذويها أنْ يحملوا قياثرهم بعيدا ً، ويندبوا المصائرَ البشرية، ويبكوا على شجن العالم، غير أنَّ واقع الحال ينبينا أنـَّها لم تحظ َ بالرعاية المنشودة، وكانَ قدرها المكتوب والمقسوم التجاهل والإهمال في العهود المنطوية التي هيمنَ فيها هذا السياسي الداهية المثير للجدل على حكم العراق ؛ فليكن تناول موضوعة صديقة الملاية ، والإسهاب في اغترابها وضياعها بالتالي، وانكفائها وتواريها عن زحام الناس في الحياة قبل عقدين ِ أو ثلاثة إلا من استذكار بسيط كتبه أحد الصحفيينَ مرَّة، رفد به صحيفته لا استهواءً لفنـِّها بلْ ربَّما يبتغي ملء مساحة فراغ وجده فيها، فجنح لسدِّه وتلافي هذا النقص بفيض من الكلام عن تشرُّدها وافتقارها واحتياجها إلى الكفاف، وبالتالي بعض السَّرَف في ذمِّ الدنيا والزمن ولعن الناس على تفريطهم وعدم اكتراثهم بحياة الفنان، كما اعتدْتُ قراءة مثل هذه الأكتوبات والاستذكارات المتوالية من حين إلى حين منذ تولعي بالقراءة ومداومتي عليها، قلتُ ليكن تناول موضوعة صديقة الملاية في عداد المشروع المؤجل والأمر المرجأ إلى ظرف تالٍ و موسم مقبل، عسى أنْ ينهد فيه الأستاذ فلاح شاكر كاتب حلقات مسلسل الباشا ، وهذا الثاني عن حياة الفنانة الراحلة سليمة مراد، فيؤلف لنا بصدد صديقة الملاية .
وسليمة مراد كانتْ فتاة يهودية محظوظة في شرع أهل الفنِّ وقياسهم، فقد ورد صيتها واسمها في تضاعيف حكاية وصف فيها الكاتب المصري الشهير إبراهيم عبد القادر المازني ليلة ليلاء أو ساعة مجون ،نصاً عن نفسه فيها ما تلزمه به الحياة الاجتماعية من تقييدات وضوابط غداة غشيانه الملهى ببغداد صحبة رهطٍ من أصفيائه ولداته الأدباء والصحفيينَ، لعلَّ من بينهم روفائيل بطي الذي فتح دارته لاستقباله فيها طالما مكث في العراق، وذلك رعيا ً منه لأدبه الجمِّ وشاعريَّته الفيَّاضة، يوم كانتْ سليمة مراد تعمل فيه و تـُعدُّ من ألمع نجومه المشيعة ما يتيح لها انطلاقها في الغناء من الأنس ومراح النفوس، وكان ذلك في العام 1936م، وحكايته مجرد سوانح في الغناء والطرب استحقتْ أنْ تـُدرَج ضمن محتويات كتابه الخفيف الممتع ع الماشي ، والمباين لسائر كتبه التي تزدان عادة بكلِّ ثاقبٍ من الرأي وعميق من النظر والتفكير، مع أنـَّه يسح بالكلام سحا ً ويستجيش خاطره عند تصديه للكتابة، وتوفي نفسه على غاية الترسل والتلقائيَّة، ويأتي بالبديع البدعِ في وصفه لمزايا بنات حواء ومعابثاته معهنَّ، ويتفنن في ابتداعه مسمياتٍ يلصقها بهنَّ، والمسألة في الأوَّل والآخر لا تعدو التصوُّر وإطلاق عنان الخيال، سوى أنْ يدينهنَّ كونهنَّ سبب المشاكل وخراب البيوت، غير أنـَّه أي اسم سليمة يردُ مُحَرَّفا ً بعض الشيء نزولا ً على دواعي الصنعة الشعريَّة، فيروق لعين الجواهري وارتكانه إلى اللفظ الصحيح المقبول والمتخير للقالب الشعري الرصين، ليصير هذه المرة سلمى بدلا ً من سليمة، عبر ما استوحى من فنـِّها الساحر قصيدتين ِ هما سلمى على المسرح و وردة بين الأشواك ، عامي 1930 و 1932م، وتهمُّنا بصورة خاصة أولاهما العاكسة أزمته النفسية الحادة إثر خروجه من البلاط كموظف تشريفات بعد أنْ اختصه الملك فيصل بها حسما ً لما يبيِّته زمر من الناس ينفسونَ عليه ألمعيَّته ورجحانه وبعد صيته في المجتمع، وينوون استهدافه بالحيف والأذى، واتخذوا من قدحه وتحرُّشه ببعض المواضعات الاجتماعية مسوغا ً وذريعة لأوتارهم وذحولهم، فتشكى إلى سلمى من هيئات وأوساط تلحف عليه بالتنكيد والإيلام ولا ترعوي عن الاتجار بالآراء والقيم والمبادئ، ولا تني في التنازل عنها إذا تعارضَتْ مع مغانمها ومصالحها الشخصية
نـُهـِبَ الشعبُ كـُلـُّهُ فهَنِيئا ً لِـمَـن نـَهـَب
وَهَنِيئا ً لِـمَـن غـَــزا وَهَنِيئا ً لِـمَـن سَلـَب
وَهَـنِـيـئا ً لِـمـَـــن تـَنـَمَّـر أو خـَـانَ أو كـَـذب
إنَّ كـُلَّ الـذي تـَرَيْـنَ مِـن الـجَـاهِ واللقب
وَمِـن الـنـَّـفـخ ِ بالـزَّعَـامَـة والاسم والـلـقـب
وَاصطِـيادٍ بـِحُجَّةِ الـوَطـَـن الجَـائع الخـَـرِب
هُـوَ عـقـبَـى تـقـلـُّبُ القوم عَـاش الذي انقلب
خـَسِرَ الدرَّة البطيءُ وَفـَازَ الـذِي حَـلـَب
الحال نفس الحال
وكذا يستطردُ شاعر العصر في سخريَّته وزرايته بأوضاع مجتمعه وقتذاك، وكأنـَّا ما ظفرنا ببعض التغيير الذي كثيرا ً ما تداعَى له رادة النهوض والإصلاح ومن هم على رأس الهيئات والواجهات السياسية في مختلف الأوقات من هذه الأعوام الثمانين أو تزيد مضَتْ من تاريخ نسج هذه الخريدة، استنفدَتْ من الشباب العراقي المتجدِّد في مرحلة وأخرى، والغيران على حرمة بلاده وعزَّتها، جهده وتحمله وطاقته وصبره في غير طائل، فما يزال الحال نفس الحال، وما يزال الغبن والإجحاف والتعنت والضيم والذل شركة مقسمة بين جميع الأجيال، و ما هنئ في عيشه يوما ً واجتنى رغائبه وأوطاره سوى الإنتهازي والمتلوِّن وقناص الطرائد.
وحسبُ مثقفي فترة الثلاثينيات في القرن الماضي من شعراء وكـُتـَّاب وصحافيينَ أنْ وجدوا في ارتياد الملاهي ومجالس الطرب تهوينا ً لهم من معاناتهم اليوميَّة من تردِّي الأحوال في العراق الذي لمْ يمض ِ على استقلاله الشكلي غير المستوفي لمقوِّماته وشروطه سوى بضعة أعوام كان فيها جمهور الناس يستعجلونَ الزمن والمسؤولينَ المتربِّعينَ على كراسيِّ الحكم باستحقاق أو بدونه، أنْ يسفر سعيهم لاجتثاث ما يُعرِّس في هذا الوطن من رواسب ومخلفات تعوقه عن النهوض والارتقاء في عيشه وإحسان ممارسته للحريَّة، ممَّا يرتدُّ عنه جهدهم في سبيله مهما امتلكوا من رغبة في ذلك وتفان ٍ في انجازه وحرص عليه، دعْ عنك خلافات رجال السياسة وكياد بعضهم لبعض متأثرين بوحي نعراتهم المذهبية الموروثة، والتي لا يعيرها أولاء الأدباء شأنا ً، ولا يحتكمونَ إليها في تمتين أواصرهم وعلائقهم في حال، و حسبهم منها أنْ يزهدوا في اللغط والمهارشة، ويغشوا تلك الملاهي إذا جنَّ الليل حيث يهربُ بهم الغناء واللحن من دنيا الختل والمراء إلى عالم كله تصافٍ وإيثار، فكان الكاتب والشاعر والصحفي المرموق عهدذاك عبد الرزاق الناصري خدينا ً ملازما ً للشاعر الجواهري في مجلس للزهاوي في مقهى رشيد، ومرافقه من بعد للإلمام بملهى من هذه الملاهي الوفيرة العدد المنتشرة في أطراف بغداد، يستلهم الشعراء من أجوائها الساحرة موحيات ألهامهم الشعري، وقد قضى عبد الرزاق الناصري ربَّما قبل أوانه أو في عمر متقدِّم يؤذن بالفناء والتواري عن العالم، لا سِيَّما أنـَّه معدود من الكـُتـَّاب البارزينَ بمجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات، وليس هذا بالشيء القليل، وفاتني التنويه باكتسابه لقب الناصري لانتسابه وتحدُّره من عشيرة آل بو ناصر في مدينة تكريت، فتأمَّل ، فيومذاك لا أثرَ للحزازات الطائفية ، وإنْ وُجِدَتْ بصورةٍ من الصور، ففي أذهان صنفٍ من المتاجرينَ المتدينينَ وليسَ من وكدِ علماء الدين الحقيقيينَ.
انِي بعدْتُ إلى حدٍ ما عن الكلام بخصوص واقعات مسلسل سليمة باشا، وتصويره طبيعة الحياة ببغداد في حقبة ماضية ما يزال يستذكرها ويحنُّ للعيش في أجوائها من تبقى لحد التاريخ الجاري من الذين أدركوها في طفولتهم أو شبيبتهم، وتقلب بهم الزمن على شتى الأطوار و الحالات، لا أنْ تقتصر على سيرة السيدة سليمة مراد التي تأثرَتْ بشكل أو آخر، وعلى مرِّ الأيَّام، بما تسفر عنه من تغيرات في أوضاع البلد من نواحٍ اجتماعية واقتصادية نتيجة ما يتوق له شبابها المتوثب من تحَوُّل أو يرغبونَ فيه من تجديد، مستهونينَ ما تحقق لهم من طفرة نسبية على صعيد التعليم مثلا ً ومطاردة الجهل والتضليل والخرافة في الأرياف والقرى، خلافا ً لما كان سائدا ً في العهد العثماني، أو بلغه وأوفى عليه من زيادةٍ في السكان، غير أنـَّهم يلفون ذلك دون المستوى المطلوب، ودون ما يأملونَ استتمامه على يد ذوي الشأن الذين قد ينفرونَ من آن لآن من دبيب التنابذ والخصام واستشراء التفرُّق والتمزُّق بينهم، فيعجل مَن يعجل للإطاحة بهم والإدالة من سلطتهم بتأريث سخط رجال العسكر أو الانتخاء بهم أو إغرائهم بما تضفي فعلتهم عليهم من مهابة، هذه هي طبيعة الحياة والأحوال الجارية التي اكتنفتْ عيش غالبية أفراد الشعب العراقي، ممَّا لم نجتل ِ تناول المؤلف له كدليل على اتصال الفنِّ بالحياة، وكأنـَّه رام الإيحاء بطرف منه يسير من خلال تعريفنا بشيات من حياة الشاعر حسين مردان في مغادرته بعقوبة وتشرُّده ببغداد وإلحافه في السؤال عن جماعة الوقت الضائع الممثلة لتيار أدبي ينزع إلى تجديد القوالب الأدبية بلا اجتراء وتوقح للتصويح بالقلاع والحصون المسورة التي يقبع فيها وخلفها جمهرة من شيوخ الأدب وأعلام التراث، إن لم تنطوِ جوانحهم عليه من فرط التجلة والاحترام والتنادي لإثابة سعيهم في خدمة لغة الضاد، وهذا ما لا يفقهه حسين مردان ويعيه بدعوى تمرُّده على القديم وتصوُّره أنْ الإبداع الشعريَّ يظلُّ مقترنا ً بالبؤس والعوز والحاجة، فإنْ صادف هو أمرا ً موفورا ً ومتوافرة بين يديه أسباب الحياة، وتسامع بنظمه الشعر، قطع بحكمه عليه أنـَّه ليس بشاعر ؛ لكن جاء تقديمه لهذا الجانب على حساب طيِّ مراحل عُمْر علي مردان الشرطي ــ والد حسين مردان ــ بشكل متسارع ومجانب لجقيقة الواقع التاريخي، فقد ولد حسين مردان في قصبة الهندية طويريج عام 1927م، لأبٍ من رجال الشرطة يومذاك، ويعرِّف به المسلسل شرطيا ً في بعقوبة عام 1946م، ويعني هذا أنَّ بقاءه في سلك الشرطة استغرق إبَّان تلك الآونة البعيدة أكثر من اثنتين وعـشرين سنة، على افتراض أنَّ التحـاقه بجهاز الشـرطـة وتنسيبه للعمل في مدينة طويريج تمَّ قبل سنتين أو في سنة 1924، وقد مثل دوره الفنان بشكل يثير الإشفاق والعطف في النفس، بحيث يأسى الإنسان للمسكنة والشعور بالتعب والإرهاق والملل من الخدمة الطويلة نسبيا ً والذي يعتري نفوس هذا النفر من الناس الملزمينَ بالامتثال والاستجابة لإمرة مَن فوقهم من المتصدِّرين والرؤساء، غير أنَّ الأحلى والأجمل في كلِّ هذه المشاهد وما يشوبها مِن بعض المجافاة للحقيقة، هو هذه الرقصة التي أشبه فيها حسين مردان زوربا اليوناني بين الحيارى ومستخدمِي الموانئ، منطلقا ً فيها من توق فلسفي لفهم الحياة واحتمال مشقاتها على فداحتها، وليس هناك من دواء ليشتفي المرء من عللها وأوصابها، غير أخذها من الجانب الساخر، وقد أدى دوره بشكل مدهش الفنان خليل فاضل خليل.
/9/2012 Issue 4304 – Date 15 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4304 التاريخ 15»9»2012
AZP09