هل العراق مهدّد بالتقسيم ؟

مواضيــــــع للحــــــوار       8

 

هل العراق مهدّد بالتقسيم ؟

 

سليـــم الـــوردي

 

مجرد طرح صيغة هذا السؤال يمثل كابوساً يقضّ مضاجع العراقيين الذين نشأوا وابناؤهم واحفادهم في عراق موحد ، فما بالك اذا توغلت في تفاصيله واحتمالاته الممكنة !

 

لكي اتفادى مشاعر الخوف والهلع التي يمكن ان تربك المدخل المعرفي في تناول الموضوع ، سأتناوله بوصفه فرضية ، لان الفرضية اطروحة تستند على بعض الوقائع ، ولكن قد تنتصب في مواجهتها وقائع مضادّة تدحضها. ولكوني كأي عراقي صميم يرفض التقسيم ، سأتحرّى عما يدحضّ هذه الفرضية من دون ان اغمض عيناي عن الوقائع التي تكرسها. ولهذا تتأرجح عندي فرضية تقسيم العراق بين قطبي الإثبات والدحضّ ، ولكل منهما اسانيده التي تمدّه بعوامل القوة. فإي القطبين تكون له الارجحية ، هذا ما سنتناوله في هذه الحلقة.

 

فرضية تقسيم العراق

 

الفرق بين الفرضيات في العلوم من جانب ، والفرضيات السياسية من جانب آخر ، هي ان الاولى يصار الى اختبارها في المختبرات او المحاكمات المنهجية والتمحيص. اما الفرضيات السياسية فمختبرها الشعوب والدول ، وضمن استراتيجيات قد تستغرق عقوداً طويلة بل وقروناً بالنسبة لبعضها ، كما هو الحال مع استراتيجية اقتسام املاك الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية).

 

اما موضوع تقسيم العراق فيندرج ضمن الرؤية الأمريكية للشرق الاوسط الجديد التي اعلنت عنها وروّجت لها منذ سبعينيات القرن الماضي. وانصبت على تقسيم البلدان العربية الى دويلات. اطلعت في تسعينيات القرن الماضي على كتاب يحمل عنوان : ” النزاعات الاهلية العربية ” (اصدار مركز الوحدة العربية – بيروت) ينبئ بما ستؤول اليه النزاعات الاهلية من تقسيم الدول الوطنية الى دويلات صغيرة ، متشرذمة ، وكأني بلسان حال الكتاب يقول اذا كانت الوحدة العربية قد اصبحت حلماً بعيد المنال ، فلنحافظ – على الاقل – على وحدة الدول الوطنية كل على انفراد.

 

اما محطتي حول فرضية تقسيم العراق فكانت بعيّد الغزو الامريكي للعراق. في نيسان 2003 ، حين قرأت في صحيفة نيويورك تايمز في 25 تشرين ثاني 2003 ، مقالاً تحت عنوان ” تقسيم العراق الى ثلاث دول هو الحل “. بقلم الستراتيجي الامريكي ليزي ه ز غيلب Leslie H. Gelb. وهو خبير مخضرم في شؤون العلاقات الخارجية الامريكية ، وكان متقاعداً في التأريخ المذكور ولكنه بقي بمركز رئيس شرف للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الامريكي.

 

وتنصب اطروحة ليزي غيلب على نقد ادارة بوش الابن في تعاملها مع العراق بوصفه كيانا سياسياً موحداً. بينما هو – بموجب رؤية غولب – دولة مصطنعة ، اصطنعها ونستن تشرشل في عشرينيات القرن الماضي حين وحدّ الولايات الثلاثة : بغداد والبصرة والموصل ، في كيان سياسي موحد تحت تسمية الدولة العراقية. ويترتب على الادارة الامريكية تصحيح هذا الخطأ التأريخي الذي ارتكبه تشرشل ، وذلك بتقسيم العراق الى ثلاث دول هي : دولة للكرد في شمال العراق ، وثانية للشيعة في جنوبه ، وثالثة للسنّة في وسطه داخل ما اسماه بالمثلث السنّي. ولم يكتف غولب بمجرد طرح المشرع نظرياً ، بل راح يقترح الاجراءات العملية التي يترتب على القوات الامريكية النهوض بها برعاية الهجرة السكانية التي تترتب على هذا التقسيم وتعويض المتضررين بسببه في اموالهم وممتلكاتهم. وسمعت ان غولب زار العراق سنه 2005 للترويج لمشروعه. اذاً ان مشروع تقسيم العراق الذي ينسب الى نائب الرئيس الامريكي بايدن ، مسبوق باطروحات تسوغية بصورة مبكرة في الاوساط الإستراتيجية الامريكية. وقد شاع قبل سنوات كلام عن تقسيم العراق الى : كردستان وشيعتسان وسنّتسان.

 

الإنقسام والتقسيم

 

الإنقسام والتقسيم مشتقان من الفعل عينه ” قَسَمَ ” ولكن لهما دلالات لغوية واجتماعية وسياسية متباينة : قَسّمَ تقسيماً (فعل متعدي) ، بينما الإنقسام من الفعل انقسم (وهو فعل لازم). وقد دأبنا ان نخلي مسؤوليتنا عما يصيبنا من اذى وننسبه الى فاعلٍ متعدٍ ، مستمرئين دور الضحية. هكذا ارى الحال مع خطر التقسيم فنحن ننسبه للآخر وحسب ، ويفوتنا ان الآخر المعتدي لا يمكنه ان يملي إرادة التقسيم علينا ما لم نكن نعيش الإنقسام المجتمعي والسياسي فعلاً. وتجارب الشعوب الصامدة بوجه المؤامرات الامبريالية خير مثل على ما اقول. وامامنا تجربة كوبا وقائدها الاسطوري فيدل كاسترو. يعود تأريخ كوبا الثورية الى سنة 1959 ، اي بعد سنة من تفجير ثورة 14 تموز سنة 1958 وكوبا جزيرة تقع على مقربة من سواحل الولايات المتحدة الامريكية ، ونظرياً يمكن للاخيرة اغراقها في مياه المحيط. بيد انها بقيت صامدة – وللآن – في وجه المؤامرات الامبريالية. اما العراق فخلال تلك السنوات قد شهد العديد من المؤامرات والانقلابات والتدخلات الاجنبية والتي تكللت بالاحتلال الامريكي سنة 2003. السر في الاختلاف بين التجربتين : الكوبية والعراقية ، هي ان الامبريالية واجهت في كوبا شعباً متماسكاً لا يعاني من الانقسام ، خلاف العراق.

 

كيف نتصدى لفرضية التقسيم

 

لا يروق لي توصيف فرضية تقسيم العراق قدراً محتماً علينا ، فهذا يعني الاستسلام لهذا القدر ، بينما انا ما ازال متمسكاً بشعر ابي القاسم الشابي ، متحملاً وصفي بالرومانسية الحالمة.

 

اذا الشعب يوماً اراد الحياة     فلا بدّ ان يستجيب القدر

 

يحسن بنا – قبل كل شيء – ان نعترف بالإنقسامات المجتمعية برؤية منفتحة وواقعية ونتفادى اذكاءها وتأجيجها عن طريق التسكين وتطمين الجميع للجميع. ينبغي على كل المكونات الاجتماعية ان تراعي بعضها مشاعر البعض الآخر فلا يوغل اي منها في استعراض عضلاته ورصيده الجماهيري ، لان ذلك يستفز الآخر المختلف ويدفعه الى استعراض قوته بهذا الاسلوب او ذاك. وإذا كنا عاجزين عن التأثير في ارادة مخططي التقسيم ، فنحن قادرون على التحكم بانقساماتنا المجتمعية اذا شئنا فهي الحاضنة السياسية المثالية لمشاريع تقسيم العراق.

 

وأخيراً اقول ان الماكنة الاجتماعية والسياسية في العراق تحتاج الى التزييت (بلغة الميكانيك) تفادياً لاحتكاك اجزاءها ما ينتج عنه حرارة قد تسبب التحامها ببعضها الآخر والعياذ بالله ! ملاحظة : حررت هذه الحلقة قبل التمرد المسلّح في الموصل في 9 حزيران 2014 واتوقف عن مواصلة هذه السلسلة من الحلقات ، بإنتظار ما سيتمخض عن هذا الحدث من مسارات سياسية.