صمت الحروب والإقتياد نحو ضميرها
حيدر حاشوش العقابي
ليس من باب المجاملة، وليس من باب التنوير أن اعلق على مجموعة شعرية لأحد الشعراء، ولكن هناك من يجذبك نحو الكتابة العقلانية، وتطرح تشكيلاتها المرة، وبالتالي استحضار كل القيم الفنية التي يشتغل عليها الكاتب، فالكتابة هي الضوء النافذ نحو نافذة الوجع المتشكل من واقع مرير استثنائي بكل مقاييسه، ومن هذا المنطلق تبدو الكتابة انجراف تحت مظلة هذه المقاييس التي أشرت، مجموعة من القصائد حملتها مجموعة شعرية هي الأم هكذا اعلق جنائني للشاعر صلاح حسن السيلاوي، حيث يبدأ بتعليق قصائده بعد إن كانت مركونة في زوايا النسيان، وهو يعلن اكتشافاته في طرح متقن، عبر سلسلة من التداعيات الحقيقية، بواسطة اللغة المألوفة، اللغة التي تدخل ضمن استدراكات القارئ وتحليلاته للنصوص، والوقوف على كل صغيرة وكبيرة، مجموعة قصائد خصبة، زرعها السيلاوي فوق ارض صالحة للتنوير الشعري البعيد عن العتمة، فكلمات المجموعة تتشكل في نسق تصاعدي، او هو في مستوى من الشعرية المحملة بالشيء الكثير، من الإرهاصات، ومن الخيال المبرمج الذي يوافق هذا التعلق بالنصوص .إذ ليس هناك غموض فوق خريطة الشعر، وليس هناك استعارات خطابية، تقلل من تقاطر المطر المتساقط من هذه الكلمات، صمت، خوف مفاجئ، شفاه يابسة، مجرات، ياسمين، يختصر الشاعر كل هذه بواسطة الكلمات المنمقة التي يتغنى بها طربا، يقول السيلاوي
لي عطشي
ووجهك ذكرى شراع
في ذاكرتي
تنتفض أرياف العمر
وتنفتح لحظاته
كلما ذكرت يرتبك النهر
هنا نرى الانزياح الشعري الجميل المتكرر في أماكن أخرى من المجموعة، لكنه عقلاني إذ يفسر على انه امتداد للسنوات القلقة جدا، وهناك يكون الربط مثالي جدا بين صورتين، الصورة الأولى هي أرياف العمر، وبالتأكيد هي السنوات التي تمضي تباعا، وهي تحمل معها الغيوم المتراكمة، والسنوات الممتدة على طول هذه الغيوم، والذي كلما يتذكر هذه السنوات يرتبك النهر، وهو يقصد العمر، وهذه هي اللغة التي اقصد أن تعلب كلماتك وتوظفها باستعارات عقلانية لتشكل حدود النص، فالشاعر معروف بنمط كتاباته وفق هذا المنظور، وقد وفق تماما، ونجح بجعل القصيدة قرائية تسترسل وفق معطيات اللغة الجميلة التي يتهافت بها الشاعر، ليطرح الوجع الزمن، وتطلعات الشاعر نحو أفق يظلله الفجر، يقول
تتلفت تحت جفوني
اشتباكات الحرائق وزرازيرها
لكن خطواتي ملغومة بهلوسة الحروب
كم جميل حين يجثو على ركبتيه هذا الشاعر القلق، من كل شيء، من الساعات من الحروب، من وسوسة الشوارع، من اشتباكات الحرائق والحدائق معا، هو النزف الأخير، الوجع المقدس، النزوات الضائعة، الطريق الملغم بالحروب والأهوال، ومصارع الزهر، والاستجمام تحت مظلمة الصدفة، نحن في ارض ياصديق تشكو من كل شيء، من الاحتراق، من التمزق، من الغليان، من س المكان، وجيم الوحشة، قلقون نحن، نقتات على أحلام لذيذة أحلام منسية في جب الزمن الموغل في القهر، نحن قلقون من نهاية مفجعة، اذ لا مكان لنا في اللاجدوى، نرتب أوراقنا للرحيل عن سماء الآخرين، وليس لنا بوصلة لنشير لأخطاء الشارع المضاء بالبكاء، في مكان آخر نلاحظ توغل الشاعر في اللغة فكان أكثر وضوح، ثمة ضوء في هذا العالم الذي يذوب كشمعة، يقول
عندما يتقن الليل سواد قلبه
يفز ضلعي مثل شمعة
يوقدها نبي مخلوع
تنهمر الملائكة من دموعي
أليس هذا هو صوت الوعي، أليس هذا هو الشعر الذي نبحث دائما، أليس من حقه علينا أن نضيء مصابيح هذه المجموعة الشعرية الجميلة بكل شيء، أليس هناك مادة دسمة لوضع تأشيرات أصابعنا عليها، أليس من حق الشاعر علينا ان نكتب له هذه الاضاءات، إن السيلاوي يستحق الكثير الكثير، وهو شاعر مرهف الحس، مبدع، بفنه الراقي، وشعره الذي يقف عنده اغلب النقاد والمثقفين وهو جدير بالاهتمام والتقدير، فهو يرسم اللوحة الشعرية ويضع لها الديكور المناسب، حيث يكتشف الكثير من أغوار الذات، فهو يكتشف بقدرته الفنية مكامن التصدع أليس الشاعر هو مرايا المجتمع، وهو يرى أكثر مايرى الآخرون من تخوم الجوع والفقر، قلت رائع أنت أيها السيلاوي، رائع بما قدمت من نماذج شعرية كان الأجدر على نقادنا أن يمروا عليها كثيرا، فهي تستحق الإشارة، يقول الشاعر
عندما يتقن الليل سواد قلبه
تبيض سماء من فراشات طفولتي
طفولتي…
ياتماثيل الطين المعجونة بدموعي
ياقرى النمل
وهي تسرق النوم والعنب من أحضاننا
طفولتي ياتعويذة الحدائق
وفي مكان آخر يستحضر أصدقاءه الشهداء، وهم ينزفون دمهم احتراق الشارع، العابث بكل ماهو جميل، يقول السيلاوي
في مهب غيابك
أتعثر بأيام ترن انكساراتها
وأنصاف آلهة اسمع دوي أرواحهم
بملامح حزني
نعم الشهداء أنصاف الآلهة،
قلت أجثو على ركبتيك، لترى بوضوح هذا اللغز، وتحلل طلاسم الوجع الفضي فوق رؤوسنا، لماذا نترك أصدقاءنا دون وداع، لماذا نحبهم ونستأنس في مرايا حضورهم؟لماذا نخاف السقف فوق رؤوسنا، والشارع المليء بالخيانات والموت، لماذا يرحل كل شيء حتى السعادة، ونلثم هذا الفضاء البائس دمنا الغريب الذي يسقط كل يوم، على مصاطب العصر الموبوء، ونكتب أسماء الشهداء على جدران تتعفن من السخرية، سأكتب عن الوحدة في ظلام الجرح، سأكتب عن دقات الساعة في غياب النور، سأكتب عن موازين القوى العاطلة ومزارات عالمنا القائظ، عن الشيء المفهوم وعن الشي المبهم، وعن تأثير الموت المجاني في تصلب حروفنا، سأكتب عن الوجع، والبراءة والشهادة والطفولة، وعن اليمين وعن اليسار، عن كل شيء يلد، عن كل شيء يموت، سأقول شكرا إليك أيها السيلاوي وشكرا لغيثك، فطالما كنا بحاجة لهذا الغيث..وتقبل مني هذه العذوبة من نهار النايات
على شفتي السفلى ناي حزين
وفي وجهك ياصديق مرايا حروب
سأكرم وجهك الذي يتنازع عليه المطر الغرابة
سأخفيك من كل الألغاز الملغومة
في رئتيك لاوقت لنا..
سوى ساعات مملحة بالسواد
لاوقت لنا في أفق يتطاول على افياء الشجر
ليعلن الحصاد
لنحلم ياصديق
فالحب ضد التصحر..والتخندق..والموت والرقاد
الحب ضد أسلحة الموت الكاتمة
وضد كل التسميات المعطلة
الحب دمارنا الشامل
وحلمنا الشامل
ونافذة الحرية المثقوبة
برصاصة السواد