هروب مانيلا

هروب مانيلا

تحرك الباص في بطء . كان الشارع العام مزدحما بالسيارات والعابرين فضلا عن الأصوات والفوضى التى تخلفها وراءها . أبواق العربات ‘ حشرجة المركبات الكبيرة . وكذلك أحاديث متفرقة هنا وهناك .

شعر أنتوني بضجر غير محتمل وهو يجلس في مقعده ورأى الحاجز الزجاجي . يتابع المشهد اليومي لمركز المدينة من تلك الزاوية . فهو كأي شخص ريفي تعد لديه تلك المشاهد غير مألوفة لذا كانت عيناه تتفحص كل شيء من حوله.

من الآن ستبدأ رحلتي ؟ لا شك بأنني سأجدها في هذه المدينة الكبيرة ؟! ردد في نفسه ثم استل من حقيبته الجلدية التي بدت قديمة ومكسوة بالغبار صحيفة وأخذ يقرأ بترو وتمعن ‘ ثم ما لبث أن ارتدى نظارته .

كانت هيئته متعبة وشعره مجعداً وكذلك ثيابه بالية .حذاؤه مثقوباً من الامام . حقا كان منظره مزريا ويدعو للرثاء.

بعد مرور نصف ساعة و امام أحد الفنادق التي بدت من النوع الرخيص وهو عبارة عن مبنى قديم . ابيض الجدران . مكون من خمسة أدوار وذات باب كبير رمادي ، ترجل أنتوني من الحافلة وسار بخطوات متعثرة حاملا حقيبته بيده اليمنى والصحيفة مطوية في يده اليسرى ‘ دخل إلى مبنى الفندق . هناك بعض النزلاء يجلسون في الإستراحة يحتسون المشروبات وهي تضج اهلة بالثرثرة . فمنذ دقائق حل المساء وبدت السماء في الخارج بالهطول واحس بقشعريرة تسري في أنحاء جسده المتعب ‘ تقدم نحو المكتب الذي يقع في وسطه ‘ هناك سيدة عجوز تجلس ورائه . تقلب في سجل أمامها ‘ القى عليها التحية ثم سألها عن سعر الحجرة للإقامة عدة أيام رفعت إليه عيناها وقالت ان هناك ثلاث غرف فارغة ‘ واعطاها بطاقته الشخصية وراحت تملي المعلومات في سجل كبير ثم قالت بصوت رقيق اليك حجرة 16 شكرها واتبع الخادم الذي جاء لحمل الحقيبة .

وضع الخادم حقيبته على أرضية الحجرة التي بدت مرتبة بشكل أنيق مما أثار الإعجاب بداخله ‘ وشعر بالارتياح فهو لم يزر المدينة منذ عدة سنوات يوم كان صبيا جاءها مع أبيه لشراء بعض الأدوات التي يحتاجها في عمله ، بقيت المدينة تشكل له هاجسا يطمح لسكن فيها يوما ما وينزع عنه أغلال الريف وقيوده، كان يستمتع بالقصص التي يحكيها له صديقه سميث بائع الشاي الكثير التردد على محال وشركات المدينة ، يرتشف القهوة معه ويطالبه بالمزيد عن الروايات الساحرة لوجوه غير وجوه سكانه المتعبين، الغارقين في الفقر والبؤس ، لقد مل من الحياة الروتينية المهيمنة على كل شيء ففي الفجر ينهض إلى العمل برفقة أبيه ليعود مساء منهك القوى ، ينام على وسادته ويمارس عادته في حلم السفر والفرار من الأرض التي يسكن فيها ، يوم قال لأبيه بأنه يرغب في ترك حياة الريف ولجوء للمدينة نهره واعتبره متمردا على العادات والتقاليد ، حزن وامتلئ بالكأبة وأخفى تمرده الذي يدعي به أبيه ،

خرج الخادم وهو شاب في العشرينات من عمره ، يعمل بشكل جيد ، وجلس أنتوني على حافة السرير يفكر فيما يفعله بعد وصوله إلى المدينة ‘ هل يذهب إلى مراكز الأمن للبحث عن مانيلا إم ينتظر ريثما يتأكد من عدم وجودها في تلك العناوين التي يحملها في جيب سترته ‘

قبل يومين من مجيئه أخبره سمث ان يبحث عنها في الحانات والشوارع فقد لمحها قبل أشهر في أحد البارات مع رجل طاعن في السن وكانا بمظهر السادة النبلاء ‘ فكان الرجل يبدو عليه من أصحاب الجاه ‘ وهي الشابة الفاتنة ذات سطوة ساحرة ، عندما سمع أنتوني ذلك الحديث صعق وعادت إليه روحه الهاربة وعاد الدم يجري في عروقه واستعد للبحث عنها فهو جزء من المتسبب بكل ما وصلت إليه ‘

فقبل ثلاث سنوات توطدت بينهم علاقة عاطفية ‘ فهي ابنة جارهم الفلاح الأحمق الذي يكن له كراهية بالغة ووالدتها السيدة ديلان كانت امرأة رقيقة قلب ‘ تعاطفت معهم رغم رفض الأب والبغض الذي يكنه لانتوني فقد بقيت على علاقة طيبة معه ومع عائلته ليأتي اليوم الذي تقرر فيه مانيلا بالهرب من عائلتها واللجوء إلى المدينة وتخلص من سلطة ابيها الظالمة ‘

عندما أراد تزويجها من رجل كبير السن لا يستحقها ثارت غضبا وقررت الفرار دون عودة ‘

بقى عند ذاك أنتوني حائرا ماذا يفعل ؟! لم ينم ليلتها ، بكى بشدة كطفل صغير ابعد عن أمه بقوة ، بحث عنها في الأماكن التي اعتادا الذهاب إليها في ساعات الخفاء عندما يهربان من جحيم العمل القاسي والتوبيخات والشتائم من قبل الأهالي ،

هل يذهب وراءها ويترك حياة الريف ‘ لكن ماذا عن عائلته وعمله ؟! بعد اشهر تنسى حادثة هرب مانيلا في ارجاء الريف ويغلق عليها الستار لكن كانت بمثابة إثبات الحرية والذات بالقوة ، تكررت حوادث هروب الفتيات هناك ، مانيلا حررتهن من السجن الذي يقتات على احلامهن وطموحاتهن في التحضر ،

نزل إلى استراحة الفندق ليتناول طعام العشاء ‘ كان يتضور جوعا ومعدته تبعث بأصوات ‘ لم يبق سوى رجلين أحدهم عاكف على كتاب يقرأه والآخر يدخن سيجارة ‘ خطر له ان يسأل أحدهم عن عنوان احد الحانات التي من المحتمل ان مانيلا كثيرة التردد إليها ‘ .. اقترب من الرجل القريب منه وحياه قائلا : طاب

مساؤك هل لك القدرة بأرشادي إلى عنوان تلك الحانة ‘ ثم أعطاه قصاصة الورق التي أخرجها توا من جيبه ‘

رد عليه الرجل التحية وأخذ يتفحص العنوان ثم قال بنبرة جدية :

اجل ‘ فتلك من أشهر الحانات هنا في مركز المدينة تقع على بعد شارعين من هنا .. يا إلهي ‘ لا أصدق هكذا قريبة من هنا سأتناول طعامي واذهب بسرعة . ردد هذه الكلمات بذهول وشكر الرجل وعاد إلى كرسيه ليتناول طعامه الذي وضعه الخادم منذ لحظات .

التفت إلى السيدة فرأها تتطلع إليه ‘ ابتسم لها بشيء من الخجل ‘

خرج في جو عاصف ، يحبك معطفا رمادي قديم حول جسده ، اجال بعينيه ، يفترس أماكن وجودها ، لو يشفق عليه رب الغيب ويعثر عليها قبل أن تتحلل اوصاله المرتعدة في ثياب رثة ، تحت شجرة الصفصاف الكبيرة وجو ربيعي جميل كانا يعقدان لقاءهما السري ، همسات ناعمة ، قبلات حارة خاطفة ، ضحكات منخفضة خوفا من إن يراهم أحد ويخبر أباها المتحجر القلب ،

قتلت قبل شهر ؟ أجل قتلت ، فقد طعنها شخص مجهول وهرب ، رباه ، لم لا يكون الخبر مجرد دعابة ، حلم عابراً ، هلوسة مجنون ، لو بقي متأملا عودتها كان أفضل له من معرفته بمقتلها، خفق قلبه بألم ، كسكين غرزت بداخله ، أنفاسه تتقطع ، يعود بمسعاه الخائب ، يتلاشى مرة أخرى .

سرور العلي – بغداد

مشاركة