نصّ سردي -2-
هالة من رماد
مهدي علي ازبيِّن
أودّعه . تطأ قدمي الرصيف . أسير على بلاطه الأملس . ينزاح زجاج البوّابة على الجانبين . أحمل حقيبتي بيد ، و أداري عورة قميصي بالأخرى . تنطق النظافة في زوايا الفندق . يستقبلني المشرفون عليه . يدوّنون بعض المعلومات . أشهر بطاقتي المهنية ، وعين محدّثي تستكمن ثغرة أناقتي . فقد غدا الزرّ المفقود نقطة الضعف في هندامي .
– تشرّفنا استاذ .. سنجلب لك العصير
يغمرني الفرح ، حين يهلّل في جوفي العصير ، ويداعب خلاياه . تذهب الغشاوة عن الرؤية . تستعيد بصيرتي عافيتها . أوقّع على أوراق
– لن أمكث طويلاً .. هي ليلة احدة
يلتقط موظّف الخدمة الحقيبة . يطلب مني مرافقته إلى غرفتي . يطلعني على تفاصيل المكان المترف ، ويبدي استعداده على تلبية طلباتي
– ما عليك سوى الاتّصال بالهاتف .
أتمدّد على الأريكة . أسعى لربط هاتفي على شبكة التواصل . أفتح صفحتي على (الفيس) ؛ فتطالعني رسالة منها ..”ستقام لي جلسة احتفاءً بمنجزي” .
هل أحسدها .. هي في سنة واحدة من النشر يُحتفى بها ، و أنا أنشر لسنين طوال ؛ لم أحقّق مثل هذا التكريم . أذكر حين قرأتْ أول نصٍّ لها أمام الجمهور ؛ نشرت صورها وهي تجلس منكمشةً لصق مديرة الجلسة . أتفرّس بالملامح .. أتلمّس إشارات الإنفعال ، أفرز الصور .. أتدبّر قراءتها ، فتنطق آثار السهر في انتفاخ وسادة العين . تنكبّ على الورق ، تمثّل دور المتوجّس من خطر كامن ، تلجأ لإغماض عينيها كي تدرأ الشرّ ، تخفيه ، تبعده عن لوحة التلقّي داخلها . يرشف الخجل ُ الوردَ من وجنتيها ؛ فيلقيها على خلفية الإمتقاع .. “ترتجف الورقة في مرجل الإنفعال ، وتصطكّ الحروف على لساني .أتضاءل في حمّى الارتعاش . تغدو ملابسي الملتصقة بجسدي فضفاضةً عليّ” .
تثني على تعليقٍ لي
“تملّكني الرعب ، تباطأ لساني ، أو ابتلعته . تداخلت بدايات الحروف مع مخارجها ؛ فهرب صوتي مني . أمست المنصة حاجزًا يتعاظم ، يحول بيني و بين الجمهور الممعن بترقبه . أحلّل قصديات النظرات الموجّهة نحوي . هل تدقّق في ملامحي أو في تسريحة شعري ، أو في خطوط أناقتي ؟ كل واحد (أو واحدة) ينظر إلى جزءٍ يلفت نظره .. أتوقعه ينصت إلى خطابي ؛ فهل تطرق معاني النصوص أبواب الأذهان ، أم أنها ستنشغل بمثيرات خارج النصّ . حينما أرمق الحاضرين .. أفهرس النظرات . أفكّك شفرات رسائل العيون . تتداخل إيقاعات البصر .. منها البلاهة ، البلادة ، التصنّع ، التعجّب ، الانبهار ، الدهشة ، الإعجاب ، الشهوة ، الرصانة ، الاهتمام ، الاحترام ، الشرود ….
النتيجة جيدة .. تداخلت معها مجاملات أطّرها البؤس . بعدها سعت وسائل الاعلام إليّ . وحرصت على الإلتقاء بي . أنا مغتبطة ، و أشعر بأعراض النجاح .. ولكن هناك ما يزعجك” .
أكـــــبح جــــــماح أنفــــــاسي ، و أخرس الانفــــــعال .
– الأمر يتعلّق بقلبك الواهن ؟!
تصمت .. ألوذ في ظلّ معتم .. أفرز الأخماس بالأسداس . أعضّ على شفاه الغضب ، و أترك تعليقي من غير حروف ..
– لو امتلكتُ سلطةً عليك ؛ لحجرت عليك .
تضحك
– الحمد لله .. فهذا لن يحصل .
أرسل إليها حروف الحيرة
– كيف أتصرف معك ؟
فتنحو إلى الإسترضاء
– أعدك .. سأذهب إلى طبيبي غدًا .
يرنّ هاتف الفندق .. ألتقط السماعة
– أستاذ .. السيارة في انتظارك .
– شكرًا .. دقائق و أنزل .
أعدّل من هندامي ، ولوحة قميصي تعاني من خدش أراه يكبر ؛ ليصبح شرخًا في تمثال أناقتي . أجلس على حافة السرير . أحدّق في وجهي الطافح بالتعب على صفحة المرآة . ألمح ساعتي . أقدّر سماحة الوقت حتى قيام الساعة – الأمسية . أستلقي على همس الراحة الصادرة من الفراش الوثير . تطالعني ثريّا .. تتراقص في حناياها جنيّات الضوء . أُغمض عينيّ على وقع اهتزاز بدن طيارة .. أو عجلات عربة طوارئ في مصحة..!!
“أبشّرك .. لقد ذهبت إلى الطبيب ، أجريت الفحوصات الدقيقة .. و أبلغني خطورة وضعي الصحي .. ولكن بالعلاج و اتّباع برنامج دوائي و غذائي ؛ سأكون في مأمن ، ولن تصدّق ، إنه يعزو ذلك إلى الإجهاد المفرط ، وضغوط العمل ، و الرتابة في الحياة .. وهذا يتطابق مع تحليلك لحالتي .. و أوصاني بالتخفّف عن كلّ ما يجهد القلب ، و إن تطلّب الأمر التوقّف عن العمل ، و الابتعاد عن الإنفعال و تغيير مكان السكن ، و اقترح عليّ بشكل مفاجئ .. (لِمَ لا تذهبين إلى العراق ؟) .. ههههههه”
أقلّب الحروف بدقّة . تنتابني ألوان الإنفعال .. تتقاطع في تقاسيم اللحظة . تناولني المسرّة بيد ، و بالأخرى تشدّني إلى متاهة الهمّ ، تبشّرني بأن الطبيب لوّح لها بمناديل الأمل .. و أغتمُّ لأنه اشترط عليها الالتزام و السير على مسارات تنأى بها عن نهاية صادمة ، وهذا لن يحصل
؛ فهي قد تجامل و تسمع الآخرين لأيام .. ثم تعود إلى أحضان الفوضى .
– أنا لا أجيد تطبيق التعليمات .
وهي تعلم هذا ، و تعرف عن حالها أكثر من الطبيب …. كم تحاورنا .. وتصل معي إلى قناعات جديدة للاهتمام بقلبها .. أسألها
– لِمَ اختار طبيبك العراق ؟
تضحك
– لا أدري .. هو نطق ، ولم أطلب منه توضيحًا .
– ألا يعلم بمتاعبنا و معاناتنا ، وصعوبة العيش في أجواء يتسيّدها الموت . هل يريد التعجيل بنهايتك ، أو أنه يرى حالتك ميؤوسًا منها ، وقارنها بحالة المهددين بالسكتة الحياتية .
تضحك .. و يرتبك نبضي “لماذا تسير في طريق تتعبها ؟” ..
مرة أخرى تعلّق على صورة لنا في المتنبي “أتمنى أن أكون معكم”. و لم يوافِها أحد بالترحاب أو الإشارة …
و أخرى
– لقد تعبت ، سأسمع كلامك ، و آتي إلى بغداد ..
تركت محل إجابتي فارغًا ، إلا من نقاط متواصلة . ثم سألتها
– ماذا تتوقّعين الإجابة
يسكنها بحث متخفٍّ ، فأندهها
– أخشى أن نقصّر معك ، و أنا تعمّدت تجنب الردّ ، حين تمنيتِ وجودك في صورنا .
ينفعل الكلام على لسانها
– نعم لقد دهشت بالصمت !!
– وهل ترين إننا نرفض وجودك معنا ؟!
– أعرف هذا .
– ولكن كيف تتركين الأهل و الأصدقاء ، ونشاطاتك ؟
يتوقّف بثّ الرسائل ، ولا أخمّن هل انشغلت بأمر آخر أو ؟ ثم
– لقد عزمت على المجيء إلى بغداد ، ولكن بشكل سرّي . لا أودّ إخبار أحد ، حتى أهلي .
– لن أجـــــادلك . فقـــــــط فــــــكّري في الأمــــر جــــيدًا .
“كيف تتركين أهلك و أصدقاءك في حيرة . ستكونين غصّة لهم ؛ لأنهم يعتزون بك ، ويكنّون لك كلّ الاحترام . منزلتك ليس لها حدود لديهم” .
– أحلم بالمرور بشارع المتنبي ، و التنزّه في شارع أبي نواس . أحب السمك العراقي المسقوف .
– سآخذك إلى دجلة ، و أقول لك : السمك يرقد تحت الماء ، و لا يخاف البلل .
رنين يصلني .. و أنا لا أعرف من أين .. هل هو منبّه ساعة ، أو هاتف ؟ أصحو ، تتراقص الجنيات في سقف الغرفة ، فتعيدني إلى الفندق ، وهاتفه
– نعم .. نعم ، سأنزل في الحال .
أقيّم صورة وجودي في بوح المرآة ، فأجدها مرتبكة مثلي ، و تبتسم لثغرة القميص . أشدّ حزامي و همّتي . ألتقط حقيبتي الصغيرة . أضمّها إلى صدري . يهبط بي المصعد صامتًا . أصل إلى قاعة الضيافة . أسلّم المفتاح ، أطلب فنجانًا من القهوة ، و السائق ينتظرني عند البوابة .
كيف سأواجهها . قد تصدمها المفاجأة ، و تنفعل . ماذا سيكون انطباعها عني إن التقطت مجسات نظرها الخلل في قميصي ؟ فهي لمّاحة ، ومن المؤكد سيلفت نظرها اختفاء الزرّ ، سأحرج لتبرير الموقف . في الآخر أوضح لها سبب اختفائه ، هنا سينفلت زمام نفسها ، و يصبح خارج نطاق السيطرة ، فتنطلق ضحكتها المجلجلة ، يبهرني رنينها الطاغي في حروف الدردشة . سأمسك أنفاسي لأني أخاف عليها من المؤثرات و مآل الإجهاد على قلبها ..
– تفضّل استاذ
صوت أنيق لشخص بملابس أنيقة ، يضع فنجان القهوة بين يدي . يبادلني ابتسامة رقيقة فيها اندهاش . انتبهت على نفسي و أنا اضحك مع نفسي . حيّيته بابتسامة
– شكرا لك
القهوة ساخنة . تتهادى / تتصاعد منها خيوط البخار ، و تختفي .
– أدعوك لفنجان قهوة .
تأسرني طرافة المبادرة ؛ لكن هذه المسافات بيننا ، كيف نختزلها ؟!
– و أين يكون مكان الدعوة ؟
– في شارع الثقافة عندنا .. و أنت تعزمني على فنجان في شارع المتنبي ..
– أين أنت .. و أنا أين ؟
تضحك
– أ لم تقُلْ إن لكلّ مشكلة حلول عديدة ؟!
– كيف تطبّقينها ؟
تضحك
– أنت تحتسي فنجانك في بلدك ، و أنا أتناوله في بلدي .
تنفعل نافذة الدردشة بحروف ضحك متواصلة . أجاريها
– موافق بشرط