نصّ سردي -1-
هالة من رماد
مهدي علي ازبيِّن
تهمس خطواتي عند مدخل القاعة ، وتتوقّف ؛ لتحنّطني في إطار الباب . أمدّ بصري من قوس رائق المزاج . المنصّة تتآلف مع شاغليها ، و المقاعد ساكنة بكرنفال الهيآت . لا أميّز التقاطات أذني من عصافير الكلام . أراها تتحرك بهالة من هدوء . توجّه كاميرتها بين المنصّة و المقاعد . تنفعل شِباك عينيّ ، وتتحفّز مجسّات الإحساس ، تطابق أبعادها مع نسختي الافتراضية . أدقّق النظر ؛ لأصافح هيكلها .
ألتمس رصيد صبر ، حين تجتازني عيناها ، ثمّ تمسح الزوايا ، تؤرشف بوميض عدستها ، تصل عند الواقف تحت الباب / أنا . يبتسم النور من بين أناملها . أرسل حزمةً من شعاعٍ ، تستفزّ عينيها ؛ فتتستّر بالخجل ، تطرق ؛ لتراجع اللقطة . تتأمّل . تزيح خصلاتِ شعر غلب عليهن الفضول . ترفع رأسها . تستقيم باتجاهي . تتراخى ذراعها ، و تنزاح الكاميرا على جنبها . تخالط نظراتها الإبتسامة و التعجب . تهدل عيناها ببهاء العبارة “كيف عبرت الحدود ، و تجشّمت عناء السفر . لِمَ لمْ تخبرْني بقدومك؟”
تقف إزائي .
– كيف عرفت بالأمسية ؟
فتفلت من طرف لساني حروف تحت جنح التساؤل
– ألمْ توجّهي لي دعوة عبر (الفيس بوك) ؟
تبهت ملامح البوح على شفتيها
– نعم .. أرسلت لجميع الأصدقاء ؛ وذهبتْ إليك من دون قصد .
أعاكسها بمرآة الكلام ، أضعها في بؤرة الحرج .
– لقد أتيت ، ألا تودّين حضوري ؟
تمدّ لي يد المودّة .. تتحرّك شفتاها . .
– بالعكس ، لكن لم أتصوّر …
يتغيّر صوتها
– الرجاء ربط الأحزمة ، بعد قليل سنهبط في عاصمة ال……… .
تنتشلني أسلاك صوت المضيّفة . أنفض غشاوة الحلم عن بصيرتي ؛ لأجدني في دهليز مبطّن ببياض صارخ . أنا غير مشمول بتعليمات الأمان . لم أُرخِه منذ أن ربطه لي جاري . هذه أول رحلة أتورّط فيها . فأنا أعاني من رهاب الأعالي . قرّرت السفر على متن طائرة مضطرّاً ، كي أصل قبل موعد الجلسة . كم تمنيت أن تلغى الرحلة ، فأحصل على عذر للتراجع . ارتعب الهواء في رئتي ، حين ألفيت نفسي مع آخرين في متاهة المطار ، أتوسّط طابورًا ، ولا مجال للتباطؤ أو النكوص .
تخلخل توازني حين دهم هذا الكائن المعدني بصري ، وشلّ تفكيري . أراه اسطوانة جبارة تجثم على أرض صلبة . كيف يحمل هذا التجويف المبهم كلَّ هذه الأجساد ، كيف تحشر الناس فيه مع آمالهم ، وينطلق بهم في مخاطرة ، يحبس أنفاس وجودهم على هاوية العدم ؟ لا أصدّق أن هذه الكتلة ستحلّق في الهواء ، وترفعنا معها وتوصلنا بسلام .
افتقدت شجاعة اتخاذ القرار و أنا ألجُ هذا التجويف . تمنيت أن لا أجازف ، لكن لا مجال للعودة ، فهناك صوت هامس خلفي ، يرجوني الإسراع ، و وجوه أحسبها جميلة ؛ لو التقيتها في مكان مترع بالسكينة . قد تشوّشت الرؤية ، و فقدت التركيز . أصوات .. لم أتذوّق طعم حلاوتها الباذخ ترافق أكفّ بضّة ، و عيون تمسح بعسلها بطاقة السفر ، ثمّ تشير إلى رقم المقعد . أتحاشى تفاصيل هذا النفق المرعب . تدسّ الأيادي الحقائب في خانات علوية . تتزحزح الأجساد بخطى متململة ، و تشغل أماكنها .
أتهاوى ببطء ، أنهار في حضن المقعد . يستقبلني بارتعاش ، أو هو يأخذ اهتزازاته من ارتجافي . أغطّ ملتصقًا ببطانته . أتمتم بالشهادة و الفاتحة ، أقرأ ما تيسّر من المعوذات ، تمسك يميني بمسند المقعد ، و شمالي تحكم قبضتها على تلابيبي .
ينطلق صوت السمّاعة ، يتلو التعليمات ، فيغمرني التوتّر ، و تأتلق إشارات حمر في الواح التلقّي ، تُستثار الحروف حين يطلب ربط أحزمة الأمان قبل الإقلاع . أتابع يَدَي جاري و هو يقيّد وسطه بالحزام . أرمقه . ألملم خيوط ابتسامة ، تتيه في ملامحه الأجنبية . يحيّيني
– hello
أسأل “كيف يمكنني فتحه ؟” ؛ فيمدّ كفّه ، و بالإبهام ينفصل الطرفان . تشرع المحرّكات دورانها ، يرافقها الصفير ؛ يتعالى للتأهّب إلى مواجهة الخطر ، و الدخول في معمعة المجازفة ، فنحن نضع مصائرنا أمانةً لدى شيء غير عاقل . تنفذ نصال زعيق المحركات و هديرها إلى مفاصلي ، تنعكس في اضطراب ضربات قلبي و هو يلوذ ، يودّ الهرب مني و اللجوء إلى مخبأ مجهول . ينبض هاتفي في جيبي مع التوجيه بغلق أجهزة الهاتف . تلتقط كفّي الجهاز و كلانا فاقد اتزانه .. كم عانيت لتذكّر مفاتيح التحكم.
تتواتر دورات المحركات بسرعة منفلتة ، فتضعني في هون الرهبة ، و تتناوشني مطارقها ل(تسحن) روحي ، و توقف تواصلي مع العالم . تتداخل الكلمات ، وتتقطّع مع احتباس أنفاسي ، و الجسم المعدني يتسارع على مدرج المطار .
تتشبّث يدي بالمقعد حين تفلت الطائرة الأرض ، ترفعنا بنحو شاقولي إلى الفضاء ، فتنفتح أشداق مشرعة على احتمال الفجيعة ، لساني يهذي من دون رقيب . يلج أذني صمت لا مرئي ، يثقل سمعي ، ويملؤه حفيف هواء متسارع . يلكزني جاري
– mouth your open
أعمل بنصيحته ؛ فتنزاح الغشاوة عن سمعي . لحظات تستقرّ الطائرة في مسار أفقي ، فتستعيد نفسي ثقتها بنفسها ، و بالطائرة . أزوي نظري يمينًا ، فأرى عيونًا تلتمع بندى الابتسام . يرقبون طقوس الهلع وهي تهصرني . ابتسم محيّيا . أبادرهم
– لا تصدقوا ما رأيتم . إني أمزح لتلطيف الأجو..
و قبل أن أتمّ العبارة ، تنخسف كتل الهواء ، لتفزع الطائرة ، وتلقي بها في هوّة لا قرار لها . ألتمّ على بعضي ، أبحث عنّي مستنجدًا بأي شيء فتتداخل القهقهات بألوان و مستويات متقاطعة
– صحيييييح .. أنت تمزح !!
ألتفت إلى جليسي ، و بلغة مصطكة الحروف
– أنا لست خائفًا
– clear
– أنا مرتعب جدًا .
يضحك
– donit afraid..its fine
أسأله
– هل تسافر بالطائرة دائمًا ؟
– yes
– أمّا أنا ، فهذه أوّل و آخر مرة .. إن شاء الله
يقترب من النافذة ، و يشير إلى الأسفل . يرغّبني بجمال المشهد . أسترق نظرة خاطفة بطرف عيني ، و أغمضها ، إن معالم الخارطة أسفلنا ثابتة ، وراكدة . هل تعطّل هذا الوعاء المعدني ، وكل هؤلاء محشورين في أحشائه . يبــــــــــــقى كلّ شيء منقبضًا ، ومتيقّظًا في حالة إنذار ، وتوقّع أســوأ احتمال . ستحلّ أخطر اللحظات ؛ ألا وهي اصطدام هذا الكائن الأخرق بمدرج المطار . كيف سيهبط من علٍ ، وبسرعته الفائقة . إن حدث طارئ ؛ فلن نعاني كثيرًا . هنيهة .. و نكون في العالم الآخر .
يصدح صوت في أرجاء الطائرة
– تهيؤوا للنزول
ألمح طائرات رابضة ، و أبنية تشي بأننا في أحضان الأمان ، تتغافى أصوات المحركات ، وتسبت . يطلق المسافرون سراح أجسادهم من المقاعد . أفزع إلى جليسي بعيون فزعة ، فيبتسم بشفاه الوداعة .
– the game over
لم اشعر بهبوط الطائرة ، ولا احتكاك إطاراتها . شلّ التشنّج ذراعي اليسرى ، وتيبّست قبضتي القابضة على صدر قميصي . يساعدني يميني لحلّ الإشكال ، أدلّك عضدي و ساعدي . أنتزع أصابعي المضمومة ، ابدأ بفكّها من أسر التخدير . أحرّر الخنصر المتخشّب ، أفكّ انطباقه ، تطقطق مفاصله ، يستوي متقوسا . أتبعه بالبنصر ، ثم الوسطى و السبابة ، فيبزغ زرّ القميص باسمًا في باطن كفّي .
أدلف سيارة أجرة ، أبلغ سائقها عنوان فندق ، و أنا أداعب ثقب الزرّ المغدور . كيف أعالج الأمر ، هل أشتري قميصًا جديدًا ؟ و الجديد يتطلّب كيًّا ، و أنا أنزعج من سطوة المكوى على طيّات القماش ، و وشيش احتراق البلل الهارب إلى بخار يحرج الأنوف ، و لأني حسّبت لاختزال عودتي بضغط حجم رحلتي ، فقد اقتصرت على قميص واحد . سأعود مع الفجر إلى بلدي عن طريق البرّ ، حتى لو اقتلعت كلّ الأزرار .
أنتقل بالسيارة إلى مكان الدعوة . أفتح باب القاعة . تجول عيناي . تتوجسان لتطابقا خلفيات رؤوس النسوة مع أبعاد نسخة مرسومة في مخيّلتي . أكرّر المحاولة .. لم يبتسم وجودها بوجه كآبتي ، وفي سورة الحلم ، تتراءى لي كتلة وداعة يكلّلها الخجل ، تشرق عيناها بابتسامة عليلة . تستقبل حواسي همسها ؛ فتتنمّل خلايا جلدي .
– سأراجع طبيبي ، ففقد أنذرني قلبي المتقلّب المزاج .
تنزعج الحروف على شفتي
– رفقًا به .. إنك ترهقينه
– ماذا أصنع ؟ فأنا أحبّ عملي ، و أقرأ كثيرًا ، و أكتب انفعالاتي ، و أشارك في أنشطة مختلفة و ..
تتوقّف حين تحدّق في ملامحي ، وتقرأ سطور الزعل . و أنا أتقنّع بالوجوم ، فأطرق مسامير الإستفزاز على لوح مشاعرها
– هل لديك أقوال أخرى ؟
تصعق المفردة في مهاد انطلاقها ، وتغصّ بزوايا العبارة . تطلق نحوي فراشات الإستفهام . أباغتها بشبكة القسوة
– لو أن لقلبك نقابة تدافع عنه ؛ لاشتكى منك .
تفلت قهقهة خجولة ، فأصدّها ، أقيّدها
– إنك مجرمة بحقّه .
يغصّ الحوار بعبرة طارئة . يحلّ الصمت .. ثمّ يتشجّع لساني
– لقد أعياني الخوض في هذا الحديث . لماذا تسحبينني إلى أمر مللناه . إنك لا تسمعين الكلام ..
– لن أعدك ، لكني سأحاول
– هذا من سوء حظّ قلبك ؛ أن يوقعه القدر العاثر تحت رحمتك ؟.
– اممممممممممممممم
– إنه بحاجة إلى بديل ، أو يزرع له مساعد ، ليقفا على خدمتك خمسٍ و عشرين ساعة في اليوم .. أو أكثر .
تضحك بانفعال .. يصلني صدى قهقهاتها المجلجة عبر نافذة الدردشة .
– وهل للقلوب قطع غيار ؟
يقاطعها صوت أجشّ ، فيقطع انسياب أمواج حنونة تزحف على أمداء قاحلة في النفوس .
– تفضّل (استاز) .. وصلنا الفندق .
أخرج من غلالة أحلام اليقظة . تحطّ عيني على بناية يرزح زجاجها تحت طغيان لامع . أشكره بلساني ، ويشكرني حين أنقده أجرته . أسأله عن رضاه بها ..
– (منيح أستاز) ..



















