نهاد آوجي عاشق المذياع المثابر

نهاد آوجي عاشق المذياع المثابر

فتى يتدرّب على قراءة نشرة الأخبار في ستوديو بيتي

كركوك – محمد حسين الداغستاني

على النقيض من هذه الأيام ، كانت الإذاعة في منتصف القرن الماضي تشكل الحلم الذهبي الذي يراود أذهان الكثير من الشباب الطامح الى الشهرة والتألق لِما كانت لها من سطوة بينّة على المجتمع سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، ولكونها أيضاً النافذة الفريدة التي يطلّ منها الناس على ما يدورمن حولهم، فحالما تأسست إذاعة بغداد في العام 1936  (وهي الثانية في الشرق الأوسـط بعد الإذاعة المصرية  – هنا القاهرة -) فقد إستقطبت نخباً من المذيعين الشباب الموهوبين ممن إمتلكوا الصوت القوي والشخصية المؤثرة والحضور المميز، فذاعت شهرتهم، وكان من أوائل الرواد عبد الستار فوزي وحسين الكيلاني ومحمد عبداللطيف، ثم توالت أسماء الذين أضحوا مصدر إلهام لقاعدة واسعة من التواقين للعمل في الساحة الإذاعية تدفعهم تلك القوة القاهرة المقترنة بالقدرة المؤهلة النابعة من عنفوان الشباب وإندفاعهم أمثال محمد علي كريم وحافظ القباني وناظم بطرس وعادل نورس وقاسم نعمان السعدي وحافظ الدروبي وعبد الحميد الدروبي وسعاد الهرمزي الذي يعتبره نهاد معلمه واستاذه وغيرهم.

في خضم هذا الفيض من الإعجاب والدهشة أي في نهاية خمسينيات القرن الماضي كان الراحل نهاد نجيب آوجي لا يزال طالبا في المرحلة الدراسية المتوسطة وكان واحداً من الفتية المهوسين بالعمل في الإذاعة، لذا فقد كرس جلّ تفكيره نحو ترجمة هذا الحلم الى واقع من خلال جهد مثابر دؤوب وبدعم لا متناهي لأسرته وخاصة والدته تلك المرأة القوية وذات السطوة والشخصية الفذة التي حرصت على توفير كل متطلبات التدريب الصوتي من أجهزة ومستلزمات لكي يمارس إبنها الأثير هوايته ويبني عليها مستقبله.

في تلك الفترة وكنت تلميذا في الابتدائية شاء القدر أن أكون زميلاً لشقيق نهاد الأصغر نبيل آوجي فأدخلني الى دارهم بعد أن سمحت الأسرة بذلك وربما كنت الوحيد الذي نال هذه الحظوة، وأتذكر المرة الأولى التي دخلت فيها الى الدار، فبعد أن ولجت الباب الرئيسي الى الرواق لاحظت بدهشة بالغة عدداً من الأجهزة الضخمة وغير الشائعة في ذلك الزمان مركونة في صدر صالة استقبال الضيوف فإستفسرت عنها من نبيل فقال (إنها الإذاعة البيتية المصغرة التي يتدرب عليها شقيقه نهاد ليكون مذيعاً !).

الصوت والالقاء

وهكذا أعتدت أن أرى نهاد يومياً وهو منهمك بشكل كلي في تدريباته في الصوت والإلقاء فيما كانت تقاليد البيت الصارمة تمنع من فيه الإتيان بأية حركة أو جلبة تؤثر سلباً على نهاد في تلك الأوقات وهو يقرأ نشرة الأخبار ومقالات الصحف والمجلات بصوته الرخيم الفخم ونبرته العالية وإلقائه المدهش، وبإصرار وثبات لا مثيل لهما وبتكرار الممارسة مرات ومرات دون كلل أو ملل رغم يفاعة عمره الفتي وهذا ما إنعكس على إختياراتي الحياتية فيما بعد،والإدراك التام بأن الجهد الكبير الذي كان نهاد يبذله لإجادة اللغة العربية وهو التركماني والسيطرة على مخارج الحروف واللفظ وتدرج الصوت هو الذي منحني وأنا الفتى اليافع الدرس الأول في الحياة، فقد أدركت بأن الأهداف الكبيرة لا تتحقق بمجرد الحلم وإنما يجب الوصول إليها بالثبات والإصرار على الإتقان والمران.

وضع نهاد نصب عينيه هدف الإقامة في بغداد قريباً من الإذاعة التي عشقها، لهذا فقد بادر الى الانتقال الى العاصمة وتقدم للعمل مذيعاً في الاذاعة التركمانية وكانت خبرته التي امتلكها من التدريب المرهق والمتواصل كفيلة بنجاحه الباهر في المقابلة فأنيطت به قراءة نشرات الأخبار دون أن يمر بفترة التدريب المقررة للمذيعين الجدد، فبرهن على موهبة مميزة وقدرة آسرة على العمل وهكذا إنتقل الى إلبث الرئيسي لإذاعة بغداد وأصبح مذيعا منذ العام 1964 الى جانب حرصه على إكمال دراسته الجامعية ليتخرج من كلية الاعلام بجامعة بغداد في العام 1973.

واصل نهاد مسيرته بدأب واضح فيما تلقيت بأسف بالغ نبأ إستشهاد شقيقه نبيل في إحدى جبهات القتال خلال الحرب العراقية الايرانية وهو يؤدي الخدمة العسكرية الالزامية بعد تخرجه هو الآخر من كلية الحقوق، وبدأتُ أتابع إرتقاء نهاد سلم النجاح محلياً وعربياً، فقد إنتقل مذيعاً في تلفزيون العراق وشارك في قراءة نشرات إخبارية رئيسية من تلفزيون وإذاعة الكويت ضمن إتفاقية تبادل المذيعين في 1989 ثم أسس مع عدد من زملائه جمعية المذيعين العراقيين في العام 1993 وترأسها لدورتين متتاليتين ليصبح فيما بعد رئيساً للمذيعين في قناة العراق الفضائية ومديراً لمركز الإنتاج البرامجي ومشرفاً على العديد من الدورات التدريبية التي رفدت الاعلام العراقي بطاقات شبابية زاخرة ليختتم هذا السفر الطويل بإدارته لتلفزيون توركمن إيلي وأخيراً رئيساً لتحرير الأخبار في قناة (الشرقية) الفضائية.

خبة مميزة

لقد تهيأت لي بعد إنتقال نهاد الى بغداد أن ألتقيه لعدد من المرات فالأولى عندما كلفني بإنجاز معاملة تمليك أرض معقدة لأسرته وذلك عندما كنت مديرا لإعلام المحافظة، ثم إلتقيته ومعه نخبة مميزة من مذيعي تلفزيون بغداد عندما أوفدوا كمذيعين طوارئ الى كركوك للتهيأ للبث من تلفزيون كركوك (وكنت آنذاك مديراً للمجمع الإذاعي والتلفزيوني في كركوك ) في حالة تعرض تلفزيون العراق الى القصف المعادي من قبل الطائرات الأمريكية وكان في منتهى السعادة وهو يشير لي متباهياً بين زملائه بأنني أحد أفراد أسرته. بعد ذلك إلتقيته وهو يتقلد درع رواد الصحافة العراقية في كركوك مسقط رأسه تثميناً لدوره الريادي في ميدان الصحافة والاعلام على مدى نصف قرن من الزمان.

 في أنقرة التي هاجر إليها في السنوات الأخيرة من عمره إلتقيت نهاد عدداً من المرات وكان ثالثنا أحياناً الدكتور شمس الدين كوزه جي، وأتذكر إني رأيت الدموع في عينيه في بعض هذه اللقاءات حالما كان يتحدث عن الوطن وما آل إليه الحال، وما تعرض إليه هو من ضغوط أجبرته على التخلي عن ذكرياته وداره وأهله وأصدقائه، وكان يلقي أسئلته بمرارة وأسى عن الإهمال الحكومي المقصود للرواد والمبدعين الذي أفنوا زهرات شبابهم من أجل رقي البلاد وسموها، وكان بعض عزائه يكمن في التذكير بمبادرة رئيس مجموعة الإعلام المستقل الأستاذ سعد البزاز بتقليده ومعه نخبة مميزة من مبدعي العراق في مجالات الفكر والثقافة والفن والاعلام والصحافة والرياضة قلادة الإبداع تثميناً لإنجازاته في ميدان الإعلام المرئيس والمسموع. وكان الأولى بلجنة الثقافة والاعلام في البرلمان العراقي أو ديوان الرئاسة أو أمانة مجلس الوزراء أن تخصص جوائز تقديرية للرواد بدلاً من سياسة الإقصاء والتجاهل لهم ودفعهم لترك بلدهم قسراً.  لقد أطلقت الصحافة والاعلام والدوائر والمؤسسات المعنية مسميات وأوصاف وألقاب شتى على نهاد نجيب آوجي منها ( الحنجرة الماسية ) و(شيخ المذيعين ) و(رائد الابداع العراقي)، إلا أنه كان يفضل أن يدعوه بعاشق الوطن الذي غادر الحياة ودفن في الغربة وهو بعيد عنه.

مشاركة