نقد تجارب شعرية من ثلاثة أقطار
نقطة صغيرة تختزل الكثير من الدلالات
عدي العبادي
بغداد
في تاريخ الشعر العربي الطويل وعلى اختلاف ألوانه وتطور كل حركاته هناك قاعدة شبه أساسية ظلت محافظة على شبابها رغم كل التطورات المذهلة التي حدثت للشعر كالدادئية والتفكيكية و السيميائية التداولية وهي خصوصية حجم النص ولم يخرج أي قانون يحدد للشاعر طول او قصر قصيدته فنجد نصاً طويلاً جدا يعبر عن حالة بسيطة ونجد نصاً قصيراً لكن يختزل الكثير من الصور وهذا ما نلاحظه في قصيدة (وَاحَةُ الخَواطِر) للشاعر المغربي استيفات الوالي بن محمد وقد جمع اكبر عدد ممكن من الصور في نصه يقول استيفات
بائِعُ الحُزن يُضَايِقُني
وَ أنا كَفيفٌ
أبْصَرتُ
على رَصيفِ الحَاضِر
كَم كانت تلك السّنواتُ
مَاتت الرُّوحُ
لِتَحْي من جَديدٍ
الشعر كلام مركز يمكن تحليله وخلق عدة مواضيع منه ونلاحظ ان استفيات خلق لنا صورا كثيرا في أبياته هذه كي يعطينا مساحة كبيرة لاستخراج الكثير من السرد مع مع المحافظة على البيئة اذن نستطيع ان نقول ان الشعر خلاصة الكلام لما يحمله من معان يتحدث الشاعر في مقطعه عن نفسه وهو يمثل دور الراوي ويخلق مفارقات تجعل الصراع ينشب داخل نص حين يصف نفسه بالكفيف وقد أبصر على رصيف الحاضر ان المفارقات في النص تعطيه حيوية وتجعل منه في اطار متحرك يقول الشاعر المغربي
استيفات في مقطع ثان من نص وَاحَةُ الخَواطِر
من انت — واين كنت
عَبَرتُ بين ألأعَاصِيرِ
الى جَنّتكِ
فَهل تُمْطِرُ تلك الغُيُومُ
لَتُزيحَ صُخُورألإفْتِراضِ
يَهْتَزُ الغَديرُ زَبَدًا
شخص مجهول
يتحدث الشاعر بصفة الراوي عن شخص مجهول يوجه له الخطاب الشعري بحبكة ادبية جميلة بعيدة عن السرد واختزال اكبر عدد ممكن من الصور وكما معروف ان قصيدة النثر يمكن لها ان تتحرك حسب ما يريد الشاعر تقول الناقدة سوزان برنار أنَّ قصيدة النثر هي: +قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور…خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية؛.
ولقصيدة النثر إيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، والتي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، والحالة العامة للقصيدة. اذن يمكن للعناصر ان تجتمع كي تخلق نصا موحدا في هذا المقطع يظهر جانب الإحساس هو أعمق في ما يملكه المبدع عن سواه ويصور لنا ما يحس به لنا الشاعر وما يملك حس مرهف يشعر بما حوله ولن روحه الشفافة تدرك أحاسيس لا يمكن للانسان العادي أي يملكها اذ انه لا يملك فن التعبير نجد تفوق المبدع ان المخاطب هنا شخصية العسل التي ابتكرها ووجد خطابه الشعري لنا ومن حقه إدخال كل شيء يمر في خياله ويمكن وضع كل حدث ضمن خانة الإبداع واذكر مرة قال لي احب الاصدقاء انه يملك كل ادوات الشعر عنده مخزون كبير من المفردات لكنه يعجز ان يكتب بيتا واحدا الشعر قلت له انت لا تعرف سر اللعبة لقد استطاع المبدع استفيات ان يصل لما يريد او يقنع المتلقي بما يريد
قد تكون هناك فكرة في مخيلة الشاعر يبني عليه نصه او موقفا يصادفه وتحدث ما يسمى بالجدحة الأدبية فيولد نصه او هناك مواضيع عدة تتراكم في مخيلته يحولها لنص المهم ان هناك نتاجا ادبياً أدبي يطرح إمامنا ونحن نعايش معه وفي قراء لقصيدة الرمل خديعة الوقت للشاعر السوري محمود عبد اللطيف وجدت مفارقات كثيرة ومنعطفات إبداعية تجعلك ملزماً بالخوض في غمار الحدث الأدبي وقد ارتكز على الموسيقية السريعة حتى تشعر انك تقرءا شعر التفعيلة مع ان قصيدة النثر بعيدة كل البعد عن الوزن ولنلمس الجوانب الجمالي في الرمل خديعة الوقت يقول محمود عبد لطيف
و الشفق الندي
ارتسام الكحل في عيني بدوية
هرب العطش إليها
من فرط الارتواء
ان لغة الجمال تظهر من المطلع الذي يصف به شاعرنا عيون البدوية والبدويات مشهورات بجمال عيونهن بسبب الخمار تظهر جمال عيونها
وقد استطاع لطيف ان يصف بضربة شعرية جميلة عمق الجمال حين عبر عن هرب العطش هذه الصورة التي تغزو شعره مع اني لاحظت في اغلب كتاباته فيها صعودا ونزولا وهذا الارتباك عند لطيف قد يكون سببه تنوع القراء الشعرية يقول الشاعر في مقطع اخر
للنعش ..
و سؤال التراب .. رعدٌ في الروح
يهدر بـ الويل
أي أنثى تلك التي غابت ..
بـ بعضي
و بعضي أحترق ..
لا اعرف ما الذي جعل الشاعر يوظف كل هذه الصور هل يريد ان يتجه لكتابة القصيدة الصوفية وإحياء هذا الأدب ام ان هناك دواخل او نزوع نحو لا معقول فهو بعد ان تكلم بلغة الجمال نرها يتحدث عن المقدسات كالروح والتراب ان عملية تفكيك النص وقرأته من الداخل تجعل الناقد يعتقد الكثير حول الشاعر لكن انا قريب من لطيف وهو صديقي فمع اني اعرف دواخله لكن في كل كتابة عنه استطيع ان اكتشف ما يرمي له وقد شعرت بالتغير في كتابته يقول في قصيدته التي أتناولها الان
و لا تمر .. على شفة البحر
كـ تفاحة الخطيئة عشقنا ..
قضمته البلاد ..
يظهر هنا جانب الترميز بهذا يكون النص حمل ثلاثة مدلولات الجمال والقداسة والترميز وحين ندقق في المدلول الأخير نعرف ان محمود عبد اللطيف اشتغل في كل محور على تفرد فخلق لنا مادة ادبية تحمل ثلاثة إبعاد مع التركيز على الجانب الفني ان هندسة القصيدة لا تخلو من النقط وهي إشارة جميلة تختزل الكثير عند المتلقي كما فعل الشاعر جان دمو حين كتب قصيدة عبارة عن كلمة واحدة و ربما اعتمد ادباء الغرب على سخرية الضربة بل حتى الرسامين امثال سلفر دالي يقول محمود في مقطع ثان في قصيدته
يلملم ريشه المبلول بـ دمع طفل
ما زال يحلم .. بـ حذاء جديد
تتكون الصورة الشعرية في هذا البيت بالمنعطف الذي أشرت عليه حين قلت ان هناك جوانب اخرى فهو يصور لنا المد الانساني والحرمانا ان الشعر يتعاطه مع القضية ويتفاعل معها ونص لطيف بكل هذه الأطروحات اصبح نصا كونيا فقد اكتمل كل مواده نحن نجد ان شاعرية بودلير تنعطف في كثير من نصوصه لا اقصد ان لطيف اقتبس منه شيئاً لكن اقول ان لطيف يملك رؤيا بودليرية مع اني كنت اتوقع انه سيكون اقرب للشاعر الكبير محمد الماغوط ابن بلده او ادونيس ويبق للمتلقي حرية البحث والتنقيب في قصيدة الرمل خديعة الوقت
في السابق كان الشاعر يكثر ويطيل في السرد كي يوصل صورة للمتلقي الذي ينتهي اليه الخطاب الشعري ويوضح ما يريد ان يقوله وكان هناك قصائد طويلة جدا لا تحمل غير فكرة واحدة وقد تكون بسيطة لا تستحق كل هذا العناء ولكن مع غزو الحداثة أصبحت القصيدة الواحدة تحمل عدة صور بل هناك بيت يحمل اكثر من صورة ولعل هذا التغير جاء بصالح المتلقي فقد اصبح في حالة تعايش مع النص وطبعا بعد زاد في التشويق دخول الترميز الذي يعطي مساحة اكبر من التفكير والتدقيق نجد اماما نصا الشاعر والرسام العراقي فهد الصكر المعنون ترنيمة للرحيل من خلال العنوان نعرف هناك مقطوعة من الألم يحاول الشاعر ان يعزفها لنا
يقول فيه
اغفري بيَ الطفل!
الحنينَ
حين تشاكسُه الدموعُ
في أولِ محطةِ منفى …
متعاكسان
في اول الكلمة من هذا المقطع نجد الشاعر يطالب بحبيبته ان تغفر له فتتكون فكرة انه قد اخطأ بشيء ما ولكن في كلمة ثانية يقول بي الطفل
وهنا نجد صورتين متعاكستين في مقطع واحد هو يعتذر وهذه صورة مستقبل ثم يصف نفسه ان في داخله طفلاً ثم يصف الطفل بالمشاكس والحنين وكل هذا التناقض يدور في محور واحد مع الحفاظ على بنية الفكرة المطروحة يقول الصكر في مقطع آخر
المعلقُ على أعوادِ المشانق
ليصنع حلما وليدا ؟؟!
على شمّ نسيم دجلة
وأنهر الجفاف
ما اعجب كل هذا التناقض في هذا البيت حين يتحدث عن المشانق التي ترمز للموت وكيف انها تصنع حلما وليدا أي انبثاق الحياة وهذا يذكرني بقصيدة السياب الموت والميلاد ان خلق صراع داخل بنية النص قد يحرك محوره ويجعله متفاعلا اكثر من غيره لأن الصراع يولد طاقة الاستكشاف عند المتلقي ويحرك في داخله الرغبة في الغوص داخل اعماق النص اكثر للتعرف وهذا ما جعل الشعراء يتجهون الى طرق كثيرة لابتكار الغرابة كي يجذبون الانتباه فجان دمو كتب قصيدة كانت عبارة عن كلمة واحدة وهي ربما فقط وكل هذا في سبيل كسر سقف السائد والخروج بشيء مغاير
يقول الشاعر فهد الصكر في مقطع ثان من قصيدته
اغفري بيَ عطشَ الشفاهِ
وهي تشاهدُ مغادرةَ
قطارِ الوطن
ترتقي صورة جديدة وهي الحنين للوطن بعد ان كان الخطاب موجها لفتاة تحول للحنين الى وطنه او ربما كان الشاعر يكتب كما كان الشعراء العرب في السابق وقد انتهج الشاعر منهج الشعر العربي القديم حيث كانوا يبدؤون القصيدة بالعتاب او الغزل كي تجذب المتلقي ثم يقوم الشاعر بسرد القصة ورغم كل التطور الذي مر بالشعر لكن هناك نسج اعتاد عليه الكثير ومع هذا فالصكر من شعراء الحداثة لكن اعتقد ان فطرته الشعرية جعلته يكتب ما كتب و في كل الاحوال فقصيدة النثر تعطي حرية كاملة للشاعر تقول سوزان برنار أنَّ قصيدة النثر هي: +قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور…خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية؛. وهذا ما يجعل كل شيء ممكن في النثر الذي اطلق العنان للكاتب ووجدنا في قصيد الصكر ترنيمة للرحيل حرية واضحة في التحول من الحب الوجداني الى وصف الشاعر داخله الطفل وانتهى بنا المطاف الى الحنين الى الوطن وهو يغادره ومع كل هذه التحولات لم نعرف ما كان في داخله وصعب فهم ما ترجمه الشاعر من احاسيس نظمها في مقطوعة نثرية في مقطع ثاني من قصيدة الصكر
في أولِ محطةِ منفى …
في أولِ نورسةٍ
ترقصُ على أهدابِ
فراشةٍ خجلى
أضاعت دربَ الزهورِ
هنا نجد نوعا من التداخل بين قصيدة النثر الحديثة وقصيدة التفعيلة لكن لغة الشاعر ليست واضحة بما يكفي لكي تصنف ضمن توصيفات الشعر الحر او قصيدة النثر او هي نسج بين الاثنين لأن هذا المقطع يشبه الى حد كبير قصيدة التفعيلة واذكر اني قرأت في تعريف الخلط بين النثر والحر ما نصه إنَّ إشكاليات قصيدة النثر العربية تبدأ من المصطلح، إذ أنَّ كثيرا من النقاد والباحثين لا يميزون وبين (الشعر الحر)، حتى أنَّ بعضهم أخذ يتحدث عن ريادة نازك الملائكة لها في حين أنَّ الملائكة كانت من أشد خصوم هذه القصيدة. أما علاقة قصيدة النثر بأنموذج الشعر المنثور الذي ظهر في الربع الاول من القرن العشرين، فهو محل إشكالية أخرى. ّإذ يذهب قسم من النقاد إلى أنَّ الاثنين لا يعدوان أن يكونا تسميتين لنمط كتابي واحد، في حين يرى آخرون أنهما جنسان مختلفان كل الاختلاف، لأنَّ لكل منهما خصائصه وهذا الرأي هو الأصح.. اذن يصعب علينا التمييز بين الاثنين وبالمقابل نجد حيرة تجاه نص الصكر الذي لا ينتمي بمباشرته لجنس قصيدة النثر الحداثوية ولا ينتمي لقصيدة الحر في ترميز بعض مقاطعه ومع هذا كله نجد امامنا نصا يحل في رقعة ادبية اشتغله عليه الشاعر و اخرجه من حيز الداخل الى المتلقي الذي سيحدد مع نفسه هذا النص( حر) أم( نثر) تصنيع وهناك جوانب تركت للباحث في دواخلها حرية التفتيش كي لا أضيع عليه متعة التنقيب واكتشاف الدلالة لأنه يجد متعة في التعرف عليها بنفسه.