مَن يكتب النقد؟
مهدي شاكر العبيدي
لسْتُ متذكراً اليومَ مَاهيَّة الدوافع التي حَدَتْ بي أمس إبَّان زمن باتَ بعيداً نسبياً ومتوافقاً هو والعام 2003م، وفي يوم قائظ من شهر آب، لأنْ أجرِّرَ أقدامِي في تلك الظهيرة التي تلفح الوجوه بشواظها اللاهب، نحو مقر نقابة الصحفيينَ العراقيينَ الكائن سابقاً في منطقة الصرَّافيَّة ، بعد أنْ كنتُ أجولُ في شارع الرشيد وفي الحيِّز الذي يدنيني من منطقة الباب المعظم، فافتعلتُ لي شغلاً ألتمسه في النقابة، واصطنعْتُ أمراً مهماً يخصُّني، متصوِّرا ًَ أنَّ النقابة هي الأجدر بأنْ يُناط بها وتوكل لها مهمَّة إنجازه وتذليل ما يحول دونه من عوارض ومثبِّطات ؛ فولجْتُ باب غرفة النقيب المرحوم شهاب التميمي، فطالعتنِي جمهرة من الحضور لم أميِّز من بينهم غير الصحفي العامل وشاهد الإثبات منذر آل جعفر، فأومأ إليَّ السيد النقيب ما أنْ استقرَرْتُ بالجلوس على أحد المقاعد ــ وبعد أداء المجاملات المألوفة في مثل هذه الملتقيات ــ قائلاً أ تعرفُ أو طرقَ سمعكَ ذات يوم اسم الشاعر الناصري عناية الحسيناوي ؟، فأجبته فوراً نعم وأنَّ شاعراً من مدينته ذمَّه وهجا شعره في بيتٍ غدا في الأوساط والمحافل الأدبية أشهرَ من بيت امرئ القيس المفتتح به معلقته الخالدة
وهنا ضحك الجميع، وأشار المرحوم التميمي إلى مكان تصدُّر الحسيناوي من المجلس، فكانتْ مفاجأة لي بعد تناهي المُدَّة في طولها والمستغرقة وقتذاك اثنتين وخمسينَ سنة، لمْ أرَ فيها ذلك الشاب الحليق الشارب دوماً ، واليوم أطلقه إذ تقادَمَتْ عليه السنون، وتوارى عن عينيَّ بعيداً منذ إكماله دراسته بدار المعلمينَ الابتدائية في الاعظمية عام 1951م، ورجع إلى حيث إقامته بمسقط رأسه مدينة الناصرية ليتعيَّنَ في مدارسها معلماً ، وأذكر أنَّ من دفعته في الطلب يومذاك الأستاذ تايه عبد الكريم الذي انتقلتْ به الحال وتداول أمور البلد وصنع شيئاً ما لنفسه عبر ما توالى من الصراعات السياسية، فتبوَّأ منصب وزير النفط، وَحُلـِّئ منه بعد أنْ تناهَتْ مدَّته وذلك ليس بالأمر الشاذ، إنـَّما هو من البدائه غير القابلة للحِجاج والنقاش ومن طبيعة الأشياء في عراقنا العجيب ؛ وكان الحديث بيننا جارياً وقتها بلغة وسطى جامعة بين الفصيح والعامي كما يدرك القارئ اللبيب .
ولمْ يصدف أنْ كلـَّمْتُ أو تحادَثتُ مع الشاعر الحسيناوي خلال السنتين ِ اللتين ِ أدركتُ فيهما دفعته من الدارسينَ، واستنفدتا الشهور الطِوال من أيلول » 1949 حتى مايس » 1951م، كما لم أعرف له اهتماماً بالشؤون الأدبية، أو لم تكن حرفة الأدب قد أدركته وقت ذاك، واستوجَبَتْ منه أنْ يتخلق بأطوار الأدباء ويقفو سلائقهم ويتمثل بأطباعهم الغريبة من هِيام بالكتب وحرص على اقتنائها، ولو على حِساب الإخلال بلوازم مَن يعيلهم والتفريط بمتطلبات الأسرة، سوى أنـَّني سمعْتُ بعد سنين بأنـَّه أصدر كتاباً يحتوي تراجم لرصفائه أدباء الناصرية الذينَ عرفتُ منهم من خلال قراءتي لجريدة الهاتف أثناء فترتها الذهبية عندما كانتْ تصدر في النجف الأشرف، قـلتُ عرفتُ من ذلك الرعيل عبد الرزاق العايش، وعزران البدري، وعباس الملا علي، وحمدي الشرقي، ورشيد مجـيد ؛ وأخيراً مـن خـلال جـريدة الثبات التي استأنفتْ صدورها في العهد الجمهوري وحفيَتْ بكتاباتٍ سياسية وأدبية ممهورة بقلم الناصري ريسان سمير العسكري، الذي هجر الكتابة وطواه النسيان، ولم تغِبْ عن تجمُّعات الأدباء أصداء ما لهج به من ازدهاء وافتخار بكون مدينته باتتْ مصدراً للتيَّارات السياسيَّة ومبادِئ الأحزا، فأغلبُ مؤسِّسيها وقادتها هم من بنيها وفي الصميم منها .
كما أفضى لي صديقي الخطاط والشاعر المقل صباح التميمي بأنَّ المربِّي حميد ــ وهو عم المرحوم عزيز السيد جاسم والد زوجته ــ هجا شاعراً في الناصرية اسمه عِنايَة الحسيناوي، وذمَّ طريقته وصياغته، وإنَّ بيته الأشهر الذي طوى المسافات واكتسح الأندية ومجالس الأدباء وترنموا به هو
تسَافـَلَ الشعـرُ حَـتى صَـار يَنظِمُهُ قيسُ بنُ لفتة وَعِنايَة الحسيناوي
كان ذلك بمناسبة ما شاع يومها عن زيارة رئيس وزراء العراق طاهر يحيى لمدن الجنوب العراقي ومنها الناصرية، وأنـَّه زار معرضاً فنياً أقامه الشاعر الرسام والخطاط قيس لفته مراد، ولا أفقه صنائعه السبع الأخرى التي جلـَّى فيها ، وكانتْ عصارتها أنْ يموت ببغداد مِيتة بائسة بعد معاناته الطويلة من الإجحاف والهوان، وقبلاً صدع ــ كما قِيلَ ــ باقتراح طاهر يحيى إثر إعجابه بلوحاته ورسوماته الفنيَّة الرائعة، أنْ ينتقل إلى بغداد ويُعيَّن في جرائد الحكومة مصمِّماً .
فلا مِراءَ أنْ انقطع عِناية الحسيناوي وفرَّغ نفسه لمكالمة منذر آل جعفر بخصوص دواعِي قول مثل هذا الشعر القادح والذام والمتفكه أيضاً ، ووسائل انتشاره وشيوعه ببغداد، وحصاده الجني من هذه الشهرة الذائعة والصيت اللامع لشخص المهجو قبل الهاجي، ودونما جهدٍ مبذول وتهافتٍ عليهما .
وللمربِّي حميد قائل ذلك البيت الشعري المازح، وقصده منه المداعبة البريئة لا غير، ابنٌ دمث الأخلاق وعلى نصيبٍ كبير من الثقافة، كنتُ ألتقيه في محل صديقنا صباح الخطاط أحياناً ، كما جلسْتُ إليه يوماً بمقهاةٍ بغدادية، وجاء في حديثه معي أنَّ طه حسين هو الأديب العربي الوحيد الذي سبق غالبيَّة الكـُتـَّاب في إشهار الفلسفة الوجودية بين أوساط المشغوفينَ بالقراءة والمطالعة، من خلال إسهام مجلته الكاتب المصري بنشر المقالات والفصول التي يوافيه بها الكتـَّاب المنفتحونَ عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وأنـَّه عرض لنتاجاتِ أخَصِّ أدبائها ودعاتها في غير أكتوبةٍ ومقالة، ولا يعني ذلك تحبيذها للجيل الطالع وإغراءَهم بها، قدر ما يحكي ذلك تجرُّده وحيدته واعتصامه بما ألزمَ به نفسه من شريف المقاصد والغايات ؛ وثنـَّى على قوله بأنَّ أدباء الستينيات الكلِفينَ بالفلسفة الوجوديَّة والهَرفينَ بسبق وجودهم لماهيَّتهم، يبخسونَ دالة العميد بهذا الشأن، ويعزونَ الفضلَ في تعريفهم بالوجودية للكاتب الدكتور سهيل إدريس ومجلته الآداب وأعماله المترجمة ؛ فردَدْتُ عليه مؤمِّناً على ملحوظته ومستطيباً حديثه بأنَّ القلة من أولاءِ توافى إلى سمعهم اسم مجلة الكاتب المصري ، ومنهم مَن يفتكر في ردِّ الاعتبار إلى كتابات طه حسين ، بذريعة أنـَّه حداثوي ومعاصر، وما خبرنا من تينك الحداثوية والمعاصرة غير التنفج والادعاء .
والأديب الحقُّ أحوج إلى التواضع من دون أنْ يُضائل من نفسه ويزايله الاعتداد بمؤهلاته، ويعفُّ عن الزراية والاستلال من أقدار السابقينَ في حلبات الأدب وميادينه، ولا يزدري ما أسلفوه من نتاج بدعوى نكوصه عن مماشاة واقعنا، فذلك أدخلُ في وسمهم بقلة التهذيب منه إلى ما يبتغونه أو يتلهفونَ عليه من سلكهم في عِداد النقدة المثابرينَ ، وأنْ يعصِمُوا ذواتهم من الذيليَّة والتبابعيَّة، ويقفوا بوجه المشيرينَ عليهم بأنْ ينتقصوا وينالوا من الأدباء الحقيقيينَ باسم النقد، ويضنوا بنفوسهم على الأحقاد والضغائن التي تملأ الحياة الأدبية بعامِل هذا الحرص الشائن المقيت على الاستئثار بالصِيت الأدبي، من نحو ما حذر به زكي مبارك مريده الكاتب أنور الجندي، حين أنبأه هذا عن اعتزامه النزوح من قريته إلى القاهرة وممارسة الكتابة فيها أسوة بأدبائها، فنصح له بتحاشي مخالطتهم إذا لم يكن مطيقاً لشنئهم وتخرُّصهم، وقادراً على الاصطبار وتحمُّل ما يستهدفونه به من إرجافٍ وتغابن ٍ، فكيف بنا اليوم وقد سخـَّر الأديب قلمه لمقالات ــ باتتْ تعرَف في الوسط الثقافي بمقالات المُوْدَة ــ متكيفةٍ هي وأيِّ ظرفٍ سياسي طارئ لتوِّه، شاطباً على جميع كتاباته وترَّهاته السابقة ؟، فسقط فكره في النفاق السياسي وغدا بهلواناً كما يقول نزار قباني، كما تسافلتْ أكثر من صنعة أدبية على لغة المربِّي حميد في هجائيَّته المشهورة، فليس لنا إلا أنْ نتطلع لشاعر المستقبل القريب لينسج ما يسمِّيه العروضيونَ عجزاً يتمُّ به الصدر التالي
تسَافلَ النقدُ حَتى صَارَ يَكتبُهُ …………………………….
فيستحيل الكلام بيتاً شعرياً يشيع معه الظرف والفكاهة .
/6/2012 Issue 4215 – Date 2 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4215 التاريخ 2»6»2012
AZP09