فكرة إستدعاء الإسطورة في حذام
موت بلا وصية – نصوص – جبار النجدي
يتأسس بناء نصوص مجموعة (حذام) على فكرة استدعاء منطقة الأسطورة طبقاً لما يفترضه الشاعر عبد الكريم كاصد نفسه (فجأة وجدت نفسي بعد موتها في منطقة أشبه بالأعراف، هي منطقة الأسطورة هذه المنطقة القائمة بين الحياة والموت).
إن قناعات كهذه قادرة على المضي بنا إلى الشكل الأكثر فلسفة من أشكال الحداد المتعلق برحيل زوجته حذام فهو يهب الرثاء معناه الحي متوجهاً نحو حياة الميت بالدرجة الأساس لا قبره ، وفوق كل شيء فأن موت (حذام) هو موت بلا وصية، نظراً إلى أن النصوص تنطلق من نقطة اللاعودة (الموت) وصولاً إلى فكرة العودة (الحضور) حيث يصير الميت حياً إذ يصبح الموت ناقلا لدلالة الحياة بمعنى أنّ الميت لا ينغمر كلياً بموته، وعندما نعيد النظر في المرئيات نجـــــد أنها نفذت إلى نتــــــائج غير متوقعة وهذا شأن الحداد في شعر عبد الكريم كاصد وهو الأكثر انفلاتاً من أحكام التــــــاريخ.إن الشاعر في نصوص المجموعة يستحضر شخصاً ولا يتحدث عن ذكرى موته، وبموجب ذلك فأن انشغاله كلياً يتعلق بتذكر الحياة التي عاشها وليس التذكير بها .. بمفهوم آخر انه نوع من الرحيل المشروط بشبح حي:
سأموت عند الفجر
قالتْ
واختفتْ في وردة جورية حمراء
إن نصوص مجموعة (حذام) تتجاوز ما هو خاص لتصبح تمجيداً للحياة وليس رثاءً لها، وهذا من شأنه أن يقلل من إفراط النصوص بالحزن الذاتي المحض، بل إن الحزن الناجم لبعض الشيء عن الذكرى هو أفقر تأثيراً من سحر الحضور لـ (حذام) ما بعد الموت. إن ارتداد حضور شخصية الميت يتوافق مع مضامين النصوص في المجموعة بوصفها ترويجاً لتجربة الحضور لا لتجربة الذكرى، فإذا كانت الذكرى تشير بلا أدنى شك إلى الموت فأن تجربة الحضور هي ضرب من العودة إلى الحياة مرة أخرى، ولذلك نرى أنّ النصوص تتصرف بملء إرادة الحضور التي تنأى بحذام عن ذكرى موتها لدرجة أنْ لا أثر لقبر في المقبرة لها:
في مقبرةٍ خاليةٍ إلاّ مني
لكني لم ابصرْ في الباب سوى شبحٍ
يبسم لي
ويشير إلى جهةٍ لا أعرفها
جهة ٍأخرى
نائية
حلّ الليل
ولم أصل الجهة الأخرى
غير أنّ ذلك الموت (الذي لم يعد موتاً) جدير بتوسيع أفق المخيلة لدى الشاعر للحد الذي يجعل من حذام شخصاً محسوساً لا يرقد في غياهب المجهول. إنها هناك (تنتظر دون أن تمل الانتظار).
إن الانتظار الطوعي لحذام يشكل المثل الأعلى للشعور بالحميمية تجاه الغائب الذي بوسعه أن يحضر حضور الكائن الحي وبالتالي فهي ليست ببعيدة عن معشر البشر، وهي بهذا إنما تمثل الصورة الأفضل للوفاء، وبمعنى أشمل فأن الموت برمته لا يشكل غياباً عدمياً لوجودها بدليل أن قصيدة (الوقوف على أبواب الليل) تسمح بوجود آخر لها يتمثل بممرات بيض وأبواب للخروج:
كنتِ سائرةً في الهواء
وكنتُ أسيرُ وراءك
حتى اقتربنا من النور
أبيض كان
ممراته البيض تمتد حتى السماء
وحقيقة الأمر أن نصوص المجموعة لا تسترجع ذكرى بل تسترجع حضوراً، لكنه حضور يقارب المحتمل لا المستحيل، إن حذام لا تحضر كمثل حضور الطيف.إنّحضورها يقارب حضور الشعر سواء بسواء ولأن الشاعر لا يقوى على تحمل غيابها فأنه يجعلها حاضرة في شعره، إنها تحضر بوصفها وجوداً شعرياً وحضوراً لا يشاركه فيها حضورٌ آخر، لذا فأن قصائد المجموعة لا يمكن اعتبارها نصوصاً رثائية بقدر ما هي محاورات مع شخص يستحيل المجيء بجسده ولكنه حاضر على الدوام:
بالامس
أتيتِ
وكنتُ وحيداً
أتطلعُ في القبر
حملتِ الأزهار إليّ
وقلتِ:
كفى حزناً
ان من بين الخيارات المستحيلة في المجموعة هذا الغياب المحكم الشد بالحضور، وهو حضور دائم الانتظام يتحرك خارج الحياة وملحق بها في الآن ذاته، بهذا المعنى تتحقق منزلة الحضور التي بوسعها أن تجمع القرائن بين ملامح المرأة (حذام) وتجليات ظلالها وروحها الهائمة التي (ترعب الظلام) .
ان التخييل (يلعب بحرية) منتجاً عبر اشتغالاته أشكالاً شتى لـ (حذام) التي تهيم بين ظلال الأشياء المتشابكة اشتباكاً أسطورياً مع الروح الغائبة وتجلياتها المبثوثة في الأمكنة والموجودات جميعها:
ظلالٌ تحاورني في المساء
ظلالٌ أحاورها في المساء
ظلالٌ أصافحها وتصافحني
ظلال
ظلال
ظلال
ظلالٌ أسير بها ذاهباً آيباً في طريقٍ طويل
ظلالٌ تسيل
على قدميّ
على راحتيّ
وتطــــــلع لي فجــــأةً مــن جدار
إن نصوص المجموعة ليست إلا ثمرة لحضور شخص تأبى معطيات التخييل ضمن اشتغالات الشاعر عبد الكريم كاصد أن تجعلها في عداد الذكرى، عبر الانهماك بتطويع معايير الحضور لتقف بمواجهة الموت ، وكــــأن حضور حذام مقيماً في موتــــها .


















