من مذكرات الاستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي (5)
قصة إختطافي ورحلتي في الطب والحياة
السعال الصادر من الغرفة المجاورة:
كنت أسمع سعالا غريبا جدا يصدر من الغرفة المجاورة. كان السعال حسب تقديري صادراً من شخص كبير السن. كان السعال يستمر أحياناً لعشر دقائق وكان مصحوبا بإخراج بلغم بكثرة والسعال فيه صدى وكأن هناك تجويف هوائي في داخل الرئتين. كان تقديري أن ذلك الشخص مصاب بالتهاب مزمن في القصبات الهوائية كنت أعتقد بأن ذلك الشخص مصاب بتوسع القصبات الالتهابي (Brochiectesis) .
كنت على وشك أن أسأل الشخص الذي كان يدخل الغرفة من أفراد العصابة هل أن والدك الكبير السن مصاب بهذا السعال؟ يجب عليك أن تراجع طبيبا اختصاصيا لاحتمال اصابته بتدرن الرئة. لكني لم أسأله ذلك وكان ذلك الخيار الأفضل حيث كان ذلك دلالة على مراقبتي لما يحدث في البيت وجمع معلومات عنهم ولهذا رد فعل سلبي علي. كذلك كما علمت بعدئذ إن ليس هناك والد ولا رجل مسن في البيت.
سمعت في اليوم الثاني حديثا بصوت عال لسيدة تتكلم على الهاتف ويتخلل ذلك الحديث نوبات السعال تلك فعلمت مصدره. كانت السيدة تتوسل بمن كان يتحدث على الجانب الآخر من المكالمة الهاتفية أن يبيعوا قطعة أرض تملكها كي يسددوا مبلغ الفدية التي طلبت منها. علمت عندئذ بأن هذه السيدة مختطفة مثلي وعليها دفع الفدية.
لمحة سريعة
رأيت بلمحة سريعة وبطريق الصدفة وأنا ذاهب إلى المرافق سيدة كبيرة السن مقوسة الظهر تستعين بعصا داكنة اللون وشعرها طويل وتقف بباب غرفتها المجاورة لغرفتي. لم أتمكن من رؤية ملامح وجهها لأني كنت حانيا رأسي عند المسير ولكن ما كونته عنها في تلك العجالة هو أنها سيدة تجاوزت الستين من العمر وهي بطول مائل للقصر ووزنها معتدل وهي ترتدي ملابس سود وكذلك كانت جواربها سوداء. أعطيت السيدة بعض الحرية في التجول داخل البيت بوصفها سيدة ويمكن أن تتعامل مع سيدة البيت وكذلك لأنها كما يبدو كانت هناك نزيلة لمدة ليست بالقصيرة ما يمكن حدوث بعض التفاهم مع أهل البيت. كانت السيدة المسكينة تسير في داخل البيت جيئة وذهابا وتطرق الارض بعصاها التي تتوكأ عليها فتحدث صوت طرق عال. حدثت مرة مشادة بينها وبين حارسها فكان يعنفها بصوت عال وهي تستعطفه كي يثق بما تخبره. استمر التعنيف وأصبح الأثنان أمام باب غرفتي وكأنها رسالة مبطنة لي كي أعرف أن دوري قادم في حال عدم الاستجابة كما يودون على الأقل هذا ما اعتقدته في حينها. وسمعتها وهي تتحدث إلى نفسها كما يبدو وهي تحلف الأيمان المغلظة بأنها تخبرهم بالحقيقة بأنها لا تملك أية نقود ولا “فلساً أحمر”. وفي مرة أخرجوها إلى الساحة الخارجية كما تبين لي من طبيعة الصخب الذي سمعته وطلبوا منها أن تتحدث مع أهلها على هاتف الثريا المرتبط بالأقمار الصناعية، الذي كان معروفا في حينه. طلبت من أهلها أن يبيعوا قطعة أرض يبلغ ثمنها مائة ألف دولار.
بالرغم من كل ذلك كنت أسمع بعض كلمات الاحترام لها وسؤالها ان كانت ترغب بالماء البارد أو الشاي. وعلمت بأن الرئيس لا يزورها عندما يأتي لزيارتي وكان السبب حسب تقديري أن الصفقة قد تم تثبيتها وعليها تحقيق ما طلبته العصابة فليس هناك من جديد في قضيتها. وبالمناسبة فأنها بقيت في الأسر بعد أن أطلق سراحي.
اليوم الثاني الخميس 29/4/2004:
جاءني صباحاً عضو العصابة الذي أعتقد أنه صاحب البيت وهو يبدو وكأنه من رجال الأمن السابق أو ما شابه وذلك من شكل شواربه الممتدة إلى حنكه من الجانبين وطريقة تعامله المهنية العسكرية وهو يسألني عن رغبتي في نوع البيض للفطور قائلا: هل ترغب أن يكون بيضك “عيون” أم مخلوط؟ لم أسمع بصفة عيون على البيض ولكني أدركت بأن المقصود بيض مقلي بدون خلط بحيث يبقى الصفار في منتصف البياض. اخترت العيون كي أتحاشى كون البيض المخلوط قد يحوي مواد مضرة!! بعد دقائق جلب لي البيض مع كوب من الحليب وكوب الشاي. أكلت كل ما موجود لما كنت أشعر به من جوع.
صفعات خفيفة
بعد قليل سمعت صخبا خارج غرفتي عندما دخل علي صاحب البيت بسرعة ووضع الجامعة في يدي وأحكم غطاء العين لأن الرئيس قد وصل ويجب أن لا يراني بدونهما. دخل الرئيس وهو غاضب وتكلم بكلمات نابية مع بعض الصفعات الخفيفة بأطراف أصابعه وقال مهددا بعد أن طلب مني عنوان بيتي سأجلب زوجتك وابنتك إلى هنا إن لم يُدفع المبلغ الذي طلبنا ثم غادر. مرت عليّ ساعات كانت من أشد الساعات ألما وخوفا على عائلتي فيما لو جلبوهم إلى مصير مجهول فيه الكثير من الأهوال. عند الظهر جاءني الشخص “الطيب” الذي يبدو أصغرهم عمرا ويتصف بالهدوء في كلامه ومشيته. خلع العصابة وفتحت عيني ثم فتح الجامعة والمهم أنه طمأنني بأن تهديد الرئيس ليس واقعيا بل هو مجرد نوع من الضغط علي كي أحقق مطلبهم. غادر الغرفة ليدخل بعد ذلك صاحب البيت حاملا معه صحون الغداء المتكون من مرق الفاصوليا الخضراء مع الأرز ورغيف من الخبز. لم تكن لي رغبة في الأكل ولكن ضرورة الحفاظ على قواي أرغمتني على الأكل. بقيت في الغرفة حتّى إذا حل المساء جلب لي صاحب البيت وجبة تتكون من الخيار والطماطم والخبز.
عند الليل جاء الرئيس ثانية وقبل أن يدخل علي دخل أحدهم بسرعة إلى الغرفة وثبت الجامعة وعصب عيني لئلا يعاقبه الرئيس حسب ادعائه. دخل “سيادته” وهو يزمجر ويتفوه بأرذل الكلمات واعتدى علي ببعض الصفعات وطلب مني أن أرافقهم إلى سطح المنزل. اقتادوني وأنا على تلك الحال والهدف أن أتحدث مع زوجتي بوساطة هاتفي. كانت لحظات عصيبة تلك التي سمعت فيها صوتها المليء بالألم. لم يسمح لي بأن أقول لها أي شيء سوى ما يملوه علي. قلت لها أن يجهزوا ما موجود في بيتي من الدولارات والذي كان يبلغ بحدود الثلاثين ألف دولار وكان ذلك كل ما أملكه وتأكدت بأنها تعرف مكان ذلك المبلغ. سحب الرئيس الهاتف مني بعنف وقال لها هل سمعت ذلك. يجب عليك تهيئة المبلغ حالا. وخلال تلك الدقائق سقطت العصابة من على عيني وكان بمقدوري أن أفتح عيني وأتعرف على كل الموجودين وكانوا ثلاثة مع الرئيس. ولكني وبمعرفتي بنفسية هؤلاء المجرمين أبقيت عيني مغلقتين ورأسي محني إلى أسفل وتأكدوا أني لم أحاول أن ألمح أيا منهم.
أنزلوني الدرج وكان من الممكن ان يدفعني أحدهم من أعلى الدرج ويقضي علي ولكن لله الحمد لم يحصل ذلك. أعادوني إلى مكاني ودخل علي الرئيس مهددا ومرددا للكلمات السوقية.
بعد أن استقريت في الغرفة علمت أن هناك محاورات مع العائلة بخصوص المبلغ المطلوب ويبدو إن العصابة بعد أن عرفت واقعي المالي قد وافقت على المبلغ “المتواضع” الذي طلبت من زوجتي تهيئته.