من مذكرات الإستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي (6)

من مذكرات الإستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي (6)

قصة إختطافي ورحلتي في الطب والحياة

صدمة لزملائي

كنت على موعد في ذلك اليوم، الخميس، مع أعضاء الأكاديمية العراقية الوطنية للعلوم المؤسسة حديثًا. وعندما تخلفت عن الموعد ويعلم الجميع أن ذلك ليس من طبعي اتصل الأستاذ فرحان باقر عضو الأكاديمية بي على هاتفي النقال والذي كان بحوزة رئيس العصابة. تحدث معه الأستاذ فرحان وهو يهم أن يستفسر عن سبب تأخري وإذا بالشخص الذي رد عليه من الطرف العصابة ينهال عليه بشتمه ويسبه وهو يستخدم لغة سوقية جدا لم يعهد الأستاذ سماعها. استغرب من ذلك وتوجه إلى الدكتور حسين الشهرستاني رئيس الأكاديمية في ذلك الوقت قائلا أن هناك شيئا غريبا فلا أعتقد أن هادي هو الذي يتحدث ولا أي من أقاربه أو معارفه. تحدث الدكتور حسين مع رئيس العصابة الذي رد عليه بنفس المفردات وهناك علموا بأنني كنت مختطفا فكانت صدمة للجميع.

وفي عصر ذلك اليوم  كنت كذلك على موعد لحضور الاجتماع التأسيسي لمجلس أمناء الكوفة والذي كان من مؤسسيه معي الدكتور العلامة حسين علي محفوظ والدكتور علي العامري مدير مركز أمراض الدم في مستشفى اليرموك وآخرين. بدأ القلق ينتابهم بسبب تأخري عن موعد الاجتماع فاتصل بي الدكتور علي العامري من هاتفه النقال وإذا بالإجابة من الطرف الآخر كانت كسابقاتها من الكلمات البذيئة ولكن هذه المرة صرح رئيس العصابة بأني محتجز لديهم. عند ذلك إدعى الدكتور علي بأنه من مديرية الشرطة فكان الرد من رئيس العصابة عنيفا مقرونا بالتهديد. عندما أخبر الحضور بواقع الحال أخذ الجميع يلومونه بذكر أنه من الشرطة حيث أن ذلك سيجعلهم أكثر شدة وبشاعة معي. تأسف على ما قال ثم اتصل بهم ثانية وقال لهم الواقع بأنه زميل طبيب وهو في اجتماع ثقافي وليس هناك أية علاقة بالشرطة أو الدولة. أجابه رئيس العصابة: هل تريد أن نرسل لك يده؟ عند ذلك انهار الدكتور علي، كما حدثني لاحقا ولم ينم ليلتها وقرر أن يترك العراق وغادر فعلا بعد أيام قلائل.

اليوم الثالث الجمعة 30/4/2004 والتهديد بقطع الإبهام:

كان إفطاري الجبن العربي والخبز وكوب من الحليب ثم الشاي. أما وجبة الغداء فكانت مرق الشلغم مع الرز والتهمت كل ما في الصحون!!

دخل الرئيس عصراً وهو يزمجر ويتوعد وفي لحظة هياج هجم عليّ وأمسك بإبهام كفي الأيسر وهددا أنه سيقطعه ويرسله إلى زوجتي كي يجبرها على أن تدفع ما يطلبون من مبلغ. قلت له أنت تقطع هذا الأصبع الذي قدم ويقدم الخدمة الجراحية للمرضى لا سيما مرضى محجر العين إذ ليس لهم من يخدمهم بما أقدم لهم. فأجاب بكلام بذيء جدا ضد المرضى ثم أردفت بأن ذلك يمكن أن يشمل عائلتك أو أقاربك وأعاد نفس الكلمات ضد أهله وأقاربه. ترجاه أعضاء العصابة الآخرون أن يتريث وأن يعفو ويمكن أن يدفع أهلي المبلغ المطلوب. ترك يدي وهدأ وغادر الغرفة متوعدا. وهنا خطرت ببالي قصة الطفلة التي اختطفت في تلك الأيام ولم يوافق أهلها على دفع المبلغ الذي قررته العصابة التي اختطفتها، حينها قطع المجرمون ثلاثة من أصابعها وأرسلوها للأهل. فلم أكن بعيدا عن احتمال أن يقوموا بقطع الابهام كما هددوا.

دفع مبلغ

في الليل جاءني الطيب ليطيب خاطري وحدثني عن الصعوبات في المباحثات مع الأهل بشأن المبلغ الذي كان يجب أن يوافقوا عليه.  بينت له بالتفاصيل ما يمكننا دفعه. وتركني وأغلق الباب.

بالرغم من كل ذلك قدمت لي وجبة العشاء من الخيار، الطماطم مع الفلفل الأخضر مع رغيفين من الخبز مع التفاح والموز. شكرتهم على ذلك.

وددت أن أذكر هنا بأني كنت أقرب من أي وقت آخر إلى الله سبحانه وتعالى طوال فترة احتجازي وقد أوكلت قدري لرعايته الكريمة وكانت دعواتي في الصلوات وما بينها مستمرة ما كان يجلب لي الشعور بالاستقرار والاطمئنان النفسي. جالت في خاطري أبيات الشعر الذي كان والدي رحمه الله يرددها:

كن عن أمورك مُعرضا

وكِل الأمور إلى القضا

فلريما وســع المـضـيق

ولـربـما ضاق الفـضا

ولــرب أمـر مــتعب

لـك فـي عـواقبه رضا

الله عــودك الجـــميل

فـقس عـلى ما قد مضى

رعاية صحتي:

كنت في تلك المحنة لا أعلم كم سأبقى من الأيام أو الأسابيع أو الأشهر وأنا أسيرٌ في هذا البيت لذا كان عليّ أن أحافظ على صحتي قدر الإمكان. رتبت برنامجا يوميا للرياضة. لم يكن لي أفضل من برنامج الرياضة السويدية التي تعلمناها من معلمنا المحبوب الأستاذ حسين السبع في مدرسة ابن حيان الابتدائية في الكوفة في خمسينات القرن الماضي. بدأت تطبيق البرنامج يوميا وحرصت على ألا أحدث أي صوت عند ممارستها. وكانت هذه دعما لحالتي النفسية ولصحتي البدنية.  اليوم الاخير السبت 31/4 /2004.

جاءني عند الصباح العضو الطيب وكان يبدو أن لديه أمرا مهما جلب لي الفطور وكان خبزا وجبنا ثم ألحقه بالبيض المسلوق مع البطاطا في الساعة الحادية عشرة  وأنا مستغرب من تلك الرعاية غير المعتادة. بعد ذلك جاءتني وجبة الغداء وكان فيها الرز والطماطم ومرق الشجر (الكوسة) وكان مخلوطا مع الحمص ولم نكن نقدم ذلك النوع من المرق مع الحمص، وبعدها تفاحة ونصف رقية، لم آكلها لأنها لم تكن صالحة.

لم يعد رئيس العصابة  طول ذلك اليوم ولله الحمد.

من هم المجرمون

كان عدد المجرمين ستة حسب تعرفي على أصواتهم  ووجوه بعضهم . يحضر مع الرئيس ثلاثة منهم أو أريعة في كل مرة يدخلون غرفتي. كانت لهجة أفراد العصابة متباينة فالرئيس والعضو “الطيب” كانت لهجتهما توحي بأنهما من سكنة بغداد. وكانت لهجة أحدهم لهجة تكريتية والآخرون من الرمادي. ومن مهنيتهم العالية في التعامل الأمني  فيما بينهم واستخدام كلمة سيدي وكذلك سلوكهم في حراسة الغرفة والسماح باستخدام الحمام، كانت لي قناعة تامة أنهم من ضباط وأفراد الأمن السابق.

جلس معي مرة أحدهم وهو العضو “الطيب” الذي كان يجلس معي في الغرفة ويحدثني عن نفسه. قدرت وزنه بين 90-100 كيلوغراما وبطول بحدود 170 سم مع بطن مكتنزة.

كان دائما يحمل هاتفه النقال المجهز بكاميرا في محفظة مثبتة على حزامه. أخذ صورتين لي وعرضهما عليّ قلت له  أريد أن تأخذ لي صورة وأنا مصفد بالجامعة وهكذا فعل ورأيت الصورة على هاتفه وأنا مصفد والابتسامة على وجهي.

وعد بأن يرسلها عن طريق البريد الإلكتروني في وقت لاحق ولكنه ليس مغفلا ليعمل ذلك ويساعد الشرطة في أن تتعرف عليه. بدا هذا “الطيب” يلعب معي لعبة الطيبة والمصارحة “الأخوية” حينما حدثني عن حياته الماضية وأنه قد أصبح جزءا من هذه العصابة بدون رغبته ولكن حظه السيء والصداقة السيئة أجبرته على السير في هذا الخط. وقال إنه عمل في السنوات الخمس الماضية في الخارج وبالأخص في سوريا ولبنان. لم أسأله عن نوع العمل الذي كان يقوم به. ثم قال إنه عانى من حياة قاسية في الماضي، وقد سجن بجريمة لم يقترفها  وبقي في السجن لمدة 18 شهرا، كانت ستة منها في سجن انفرادي. وبعد ذلك التاريخ صرح بأنه رجل نزيه لم يتصرف بشكل سيء من قبل.  صمت بعد ذلك للحظات ثم قال بحسرة وبصوت منخفض: دكتورأي إنسان شريف يدخل السجن سيخرج منه ويصبح بالرغم منه مجرم محترف. ثم أبدى أسفه لما تمر به زوجته وولده علي! وبعد هذا التصريح عن حياته وفلسفته وصلت لي الرسالة بما أوحى الرجل عن نفسه.

الشخصان الآخران اللذان كانا في البيت ويظهران أمامي بدون حذر كان أحدهما بطول حوالي 180 سم و90 كغ مع شوارب سميكة توحي بماض أمني أكيد وكان يبدو أكثر حيوية جسمية من الأول وهو الذي يبدو أنه زوج المرأة في المنزل أو أخوها حسب ما قدرت حيث إنه هو الذي كان يجلب لي وجبات الطعام. أما الاخر فكان بنفس المواصفات الجسمية وكان جافا وهو الذي أبقاني في اليوم الثاني حتّى العاشرة والنصف صباحا بدل الثامنة بدون إفطار وكان معي نصف قنينة ماء فقط.

مشاركة