من ذا الذي يتعظ؟

من ذا الذي يتعظ؟

 

 

مكي الغانم

 

   من الموروث المشهور عن العرب أن أحد شيوخهم قال ” السعيدٌ من اتعظ بغيره .. والشقي من اتعظ بنفسه “, لكنه .. حتى ذلك الشيخ نفسه لم يعرف أحدا في حينهِ .. شعبا كان , أم حكاماً , أم نخباً سياسية واجتماعية ودينية ممن لم يتعظوا حتى بأنفسهم , ولو عرف مثل هؤلاء كما هو حال العراقيين اليوم لأتم مقولته هكذا : والأشقى من لم يتعظ بها .. نعم .. لقد كان الشعب العراقي بجميع أطيافهِ ونخبهِ المختلفة وحكامهِ هو الأشقى.. إلا من رحم ربي فعلم الحال.. وراح يرشد أو يغرد خارج السرب, أو يسبح ضد التيار فدارت عليهِ الدوائر وقصمت ظهره الاقدار . نعم .. وكم كان الأمل يحدو بنا في أن يكون الشعب العراقي قد أخذ العبرة الكبرى مما مر بهِ من مآسٍ ونكبات متتالية إبان ثلاثة عقود دموية قاسية وحروب في عهد النظام السابق , وكنا نعتقد بأنه.. أي الشعب وواجهاته السياسية التي عانت الويل والثبور, سيستلهمان الدروس الناجزة من كَمٍ لا حصر له من الظلم والحيف.. الفقر والجهل.. الموت والخراب, فيسعى الجميع بحرص بالغ لاقامة عراق حر تعددي ديمقراطي موحد, عراق يعمه الازدهار ويسوده الخير والعدل والرخاء والاخاء, عراق تحفظ فيه كرامة الانسان وتصان فيه حقوقه المشروعة, وكنا نعتقد أن هذا الشعب قد دفع ما يكفي من الاثمان, وأنه قد سدد جميع الفواتير اللازمة من أجل نيل حريته والعيش بكرامة ورخاء وأمن وازدهار. لكن ما جرى وعلى مدى اكثر من عشرة أعوام  كان مخالفاً لتلك التوقعات والطموحات, بل كان سلسلة متواصلة من الكوابيس والمآسي التي أفرزتها متلازمة الوسواس القهري وعقد الشعور بالمظلومية التي تحكمت بسلوك النخبة التي تصدت لقيادة البلاد, وتمكنت منهم حين تمكنوا من أدوات الحكم المختلفة, وراحوا يستخدمونها بأسلوب ثأري يعتمد اقصاء وتهميش الاخر, في غمرة تنافس محموم على تقاسم مغانم السلطة, وما كان ذلك لينجح إلا بمداعبة عواطف الجمهور كل حسب توجهه من خلال أستخدام الشعارات الطائفية والعرقية, والطرق المستمر على سلبيات واخطاء المرحلة الماضية, وصياغتها بأبعاد تضع الاخر في موقع المتهم, فتؤلب قطاعات واسعة من الشعب على بعضها, فكانت تلك هي البداية لنهاية المشروع الوطني الواعد بأقامة العراق الجديد.. العراق الديمقراطي الأنموذج شرق أوسطياً كما ألمحت اليه الارادة الحقيقية وهي الولايات المتحدة الامريكية, فتعززت المشاريع الطائفية والعرقية, وتشققت عرى الشعب العراقي وأواصر وجوده الموغلة في القدم, وراحت القيادات الممثلة للشعب الكردي العراقي تروج لأحلام وطموحات تتخطى قدرة الوطن على استيعابها, فيما عكف بعض من قادة مكون على تعزيز امساكهم بالسلطة من خلال حشد المكون الاخر طائفيا, عن طريق تذكيره المستمر بمعاناة الماضي, واخافته من تكرار التجربة السابقة في حالة تخليه عن قياداته الحالية (المنقذة )  وعودة العدو المتمثل بالمذهب الاخر, الذي تم تحميله وزر أفعال حاكم جائر لا ينتمي الا لطموحاته الامبراطورية , رغم انتمائه الى المكون الاخر , ومع ضغط  هذا التأليب السلطوي تصدعت المكونات, ومع تنامي شيطان السلطة لدى بعض قادة الاحزاب واغراءاته القائلة باحقيتهم الكاملة في الاستحواذ على السلطة بمقدراتها ومزاياها المختلفة, تحت مبرر يمزج بين حجم المظلومية, وبين أن المكون  يمثل الأغلبية, وانتقل الصراع الى مرحلة الاعمال العدائية المتمثلة بأعمال القتل والتفجير والتخريب كرد لا بديل عنه من قبل قوى خسرت السلطة المطلقة , قوى تنتمي في الغالب الى المكون الاخر الذي شعر بالاضطهاد الممنهج , والاقصاء المتعمد رغم وجود من يمثله في العملية السياسية, لكنه ظل يعتقد أن ذلك التمثيل لم يعد مجدياً او مجزيا لهم لانهم يشكلون الاقلية في عملية سياسية قائمة على النهج الطائفي والمحاصصة , ومع ازدياد الشد والاستقطاب الطائفي تحول الصراع  عام 2006 و 2007 الى حرب طائفية مفتوحة , انتهت بعد دفع العراق لالاف الشباب من خيرة أبنائه شهداء محرقة الطائفية المتوحشة , وتكبده خسائر مادية لا حصر لها .. ثم سادت فترات من تململ النار تحت الرماد لكن تلك الحرب لم تنتهِ .. وظل الصراع خفياً ينتظر الفرصة السانحة لعودة غيلانه الكاسرة .

 

   أما على الطرف الآخر من المشهد السياسي العراقي , فأن مصفوفة مكون متجانسة شكلا ومضموناً من أحزاب وتيارات دينية تصدرت واجهات المشهد ضمن تشكيلات ائتلافية هشة تتقارب في وحدة الاهداف والغايات, وتختلف في رغبة كل منها في تسيد الساحة السياسية للمكونها عن طريق القضم من جرف الاخر, ضمن عملية تزاحم محموم للاستحواذ على السلطة, وهي وان لم تستطع الحد من الاندفاع الكردي المضطرد نحو ما يشبه اقامة دولة داخل الدولة تمهيدا لمشروع قادم, فأنها استطاعت اقصاء الكثير من الاصوات للمكون الاخر المرتفعة بتهم دعم الارهاب وتبنيه, كما استطاعت تدجين آخرين, بينما لم تستثنِ بعضها من التهميش من خلال التدافع السلطوي الخفي, حتى آلتْ الأمور الى تصدر أحد أحزابها للمشهد السياسي بشكل متزايد, حد التفرد بالحكم والقرار تقريباً, ثم بدأت مظاهر التفرد الشخصي تتبلور ضمن نطاق ذلك الحزب, وبدأت مظاهر الاقصاء والتهميش تسري على الكثير من قياداته وملاكاته المتقدمة, وكاد العراق أن يقع في حيز الدكتاتورية الفردية المطلقة مرة أخرى, رغم وجود هيكلية ديمقراطية شكلية تتكون من رئيس جمهورية غائب لمدة عام بسبب المرض, وبرلمان كسيح مسلوب الارادة, وقضاء يشكك أغلب الفرقاء في نزاهته أو حياديته, لكن الاحداث المتسارعة التي حدثت والهزيمة الميدانية لقطعات مهمة من الجيش العراقي, والتي كان من نتائجها سقوط الموصل وتكريت وعدد لا حصر له من الاقضية والنواحي والقرى بيد قوى ارهابية تكفيرية, وعجز الحكومة عن دحر الارهابيين واستعادة المدن السليبة, قلبت المعادلات السائدة, واجهضت الكثير من المخططات. أن الخلاصة.. وبعيدا عن موضوعة السرد التاريخي او القصصي هي.. أن الأقطاب المغناطيسية  المؤثرة في المشهد السياسي العراقي والتي ادعت تمثليها للمكونات الرئيسية كانت متنافرة بشدة وتعمل من منظور مصالحها الحزبية والجهوية رغم ارتدائها لعباءة المكونات , وكان كل منها يسعى الى تحقيق مطالباته بسقوفها العليا , بما لا يستوعبه جسد الوطن أو مقدراته المتاحة , فغاب الوطن عن طروحاتهم ومشاريعهم وتلاشت ملامحه في دوامة من صراع القوى المتنفذة و المهمشة , رغم انها تشترك أو تتمثل في ادارة العملية السياسية والحكومة بدرجات متفاوتة , لقد تعامل الجميع , وعلى مدى أكثر من عشر سنواتٍ خلت , كما فعل ابن نوح حين أصر على عدم ركوب السفينة , واختار أن يأوي الى جبل يعصمه من الماء , فلجأ كل من تلك الأقطاب الى جبل يقيه من الطوفان .. فكان أن ذهب مكون الى غالبيتهم وانكفأ من انكفأ منهم على توطيد امساكه بالحكم , وتحصن الاكراد في اقليمهم مهددين .. متوعدين بممارسة حق تقرير المصير واقامة الدولة الكردية , بينما ذهب مكون الى خيارات الممانعة والمواجهة السلمية أو المسلحة. وظلت الدولة تعاني من ذلك الصراع الخفي تارة والمعلن تارة أخرى , وترنحت مؤسساتها تحت وقع الاختلاف والتشظي, لكن أحدا لم يعترف بأن أفة التشظي والاختلاف تلك قد تمكنت من الجسد العراقي ونخرته .. حتى تهاوت حصونه ومدائنه الكبرى في شمال وغرب العراق بسرعة قياسية لتسقط بيد مجاميع ارهابية اجنبية غازية, ثم توالت الانهيارات حتى خرج ما يقرب من ثلث الاراضي العراقية من تحت سيطرة الحكومة المركزية , وفيما بدا العجز الحكومي واضحا في استرداد ما تمت خسارته, ظلت المجاميع الارهابية تندفع في تقدم بطيء, ومعارك كر وفر على مسافة لا تبعد اكثر من مائة كيلو متر من بغداد, فيما اتجهت أذرعها الأخرى لاحتلال مدن وقصبات أخرى على أطراف حدود اقليم كردستان , وتوغلت فيه حتى شكلت تهديدا حقيقيا لمدينة اربيل عاصمة الاقليم .. وكانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر بعير السلطة سواءً في بغداد أو في أربيل .   أن الموعظة.. ورب ضارة نافعة.. لو أن عقول النخب السياسية قد استوعبت الدروس المستوحاة من كم المصائب التي حلت بالعراق, والمصاعب التي عانى منها الشعب طيلة فترة الغي الذي مارسته تلك النخب بأصرار أدى في النهاية الى الكارثة الكبرى التي باتت تهدد وحدة العراق ووجوده. تلك السقطة الكبرى التي جاءت كنتيجة حتمية لتغطرس الولاة , وتعنتهم وانحيازهم التام لتوجهاتهم الجهوية المغلفة بالطائفية أو العرقية .. أننا الآن أمام اختبار اللحظات الحاسمة, الاختبار الحقيقي لوطنية الجميع وحرصهم على اجتاز حاجز الانهيار النهائي من خلال تبني نهج وطني يرتقي ليضع سلامة العراق ووحدة أرضه ومصالح شعبه في المقام الأول.. ويهبط بالمطالبات الجهوية الى الحد الادنى, خاصة ونحن نقف الأن عند خط الشروع الأول من جديد, بعد تكليف رئيس وزراء جديد. –  فصار لزاما على الحكومة العراقية القادمة أن تخرج من قبو الطائفة  الى باحة الوطن الرحبة المتسعة لجميع أبنائه, بعد أن تكون قد استوعبت الدرس القاسي الذي يؤكد عدم امكانية حكم العراق بحزب واحد أو فصيل واحد أو مكون واحد , أو أن يتم حكمه من قبل شخص واحد بعد سقوط النظرية التي كانت تهيء لولادة القائد الرمز الجديد, وبعد أن تهاوت صورة مختار العصر التي روج لها الكثيرون من أذناب السلطة, ومرتزقة الاعلام المجير أو المأجور.. بعد الهزيمة العسكرية المريرة التي كانت نتيجة حتمية لسوء الادارة والفساد المستشري في جسد الدولة واعتماد المفاضلة الجهوية والمحسوبيات في تقلد المناصب الادارية والعسكرية بسبب التزمت والتفرد بالسلطة والقرار.. *  وعلى القيادات الكردية أن تتعامل مع الوقائع التاريخية التي تؤكد وحدة هذا الوطن بحدود داخلية تتسع كثيرا .. أو تضيق قليلا  , وأن تعي الواقع الذي افرزته نظرية الشد المستمر, والبريكماتية الكردية العالية كبديل عن النظرة الى مجمل الوضع العراقي البائس, وأن تعي أن ما تم تشييده من بناء ونمو اقتصادي انما هو عملية ” زرق ورق ” طبقا لنظرية عبعوب , وهو لا يرقى الى مستوى اقامة دولة مستقلة منفصلة , لا لقصور في امكانيات الكرد , بل لأن أقدارهم قد وضعتهم في منطقة رمال متحركة , وانهيارات أرضية يمكنها أن تبتلع كل ما يبنون. وأنه ليس لهم من ضمان سوى وجودهم في عراق حر تعددي فيدرالي موحد يحترم حقوق جميع أبنائه .

 

– أما ما يخص المكون الاخر فأن عليه أن يعترف بواقع العراق الجديد, وأن الحقب التاريخية الماضية لا تعود, وعليهم أيضا ان يخفضوا سقوف مطالبيهم لتغدو واقعية يمكن تنفيذها, وأن ينخرطوا بممثليهم الحقيقيين في العملية السياسية, وفي مفاصل الدولة المختلفة ,وأن يبعدوا العناصر المتاجرة بدمائهم ومصيرهم من تجار السياسة والحروب أو ممن يسمون بمكون الحكومة ومن لف لفهم .

 

  نعم لقد صار لزاما على الجميع سنة وشيعة وأكراد أن يخفضوا سقف مطاليبهم الفئوية الى الحد الادنى لكي يتمكن الوطن من تلبيتها.. من خلال تشكيل حكومة عراقية رصينة وفاعلة, وأن يرتقوا ويسموا بأنفسهم الى مستوى العراق.. كل العراق ليسمو بهم..  ويتجاوز المحنة

 

وقبل الختام لنا عودة الى سفينة نوح مرة أخرى .. فمثل العراق اليوم كمثل سفينة نوح , حين علم القوم أنها ستبحر في لجة طوفان هائج , وحين علم الجميع أنها لا تستوعب أكثر من حمولة 100 وحدة قياسية على محك تجربة أكثر من عشر سنوات خلت .. فأنه لم يعد من الصواب أو من المقبول أن يصر كل طرف فيها على وجوب تحميلها بجميع نفائسه التي قد تساوي نسبة الــ 100 بالمئة من استيعاب السفينة أو تتجاوزها, فيبخس حق الاخرين في تحميل نفائسهم, وهنا تسقط مشروعية الغاية الجزئية وتتهاوى أحقية المنطوق .. في مواجهة بديهيات المنطق, وعليه يتحتم على كل من مكونات العراق الرئيسية الثلاث أن يرضى مرحليا بتحميل ما لا يتجاوز الــ 30  بالمئة من مطالباته بحسب الاهمية والمستعجلية , لكي لا تغرق السفينة , ثم لا بأس بالتفكير في ما تبقى من مطالبات مشروعة تباعا , حين تهدأ العاصفة, وينحسر الطوفان, وحين تستقر السفينة على شاطئ الأمان . دونما إملاءات ترهق ما تبقى من الوطن .. وتذهب به أدراج الرياح .. فهل من متعظ .؟

 

مشاركة