من دروس التأريخ
الرسول الأعظم والسكينة الإلهية
وقع بيدي كتابا قيما لشيخنا الجليل المرحوم الشيخ جلال الحنفي البغدادي. وتحت عنوان_ شخصية الرسول الاعظم قرانيا_.
وتناول الكتاب معالم شخصية رسول الله صلي الله عليهم وسلم وعلي ما اوردتها ايات التنزيل العزيز…
وقال كبير المؤرخين العرب الاستاذ الدكتور حسين امين في مقدمته للكتاب المذكور.. ما يلي:
1-وتتبع فضيلة الشيخ الجليل الحنفي تكوين شخصية الرسول صلي الله عليه وسلم قرانيا, واثبت الباحث الجليل بالبراهين القاطعة, مستقرئا الايات القرانية الكريمة التي ساندت الرسول صلي الله عليه وسلم وقومت شخصيته التي تكاملت بفضل الالهية المباركة…
ثم يذهب الاستاذ الجليل ليقول:
2-وتدل دراسة الشيخ الجليل الحنفي لهذا الموضوع الخطير علي دراية عظيمة في فهم القران الكريم, وابعاد معانيه واحاطته الواسعة بمدارس التفسير الاسلامية, كما جاءت استنتاجاته العلمية صائبة ومتميزة بالموضوعية والصدق والنزاهة. وتتجلي بسعة الافق العلمي..
ويذهب استاذنا الجليل الدكتور حسين امين الي القول في هذا الكتاب القيم..
3-ان هذا الكتاب ستكون له اهمية علمية كبيرة لانه سيعمل علي خلق مدرسة عراقية جديدة في دراسة القران الكريم ودوره العظيم في مسيرة التاريخ الاسلامي….
ومن المواضيع التي تناولها الكتاب- الرسول الاعظم والسكينة الالهية- وقد استوقفني هذا الموضوع لما فيه من الخصوصية لكل المؤمنين…
ما له علاقة كبيرة في حياة كل منها… فيقول الحنفي رحمه الله: السكينة التي جاءت في القران الكريم مشار الي ان الله عز وجل انزلها علي النبي والمؤمنين وقد تكرر ذلك nغير مرة- يراد بها الاطمئنان النفسي الي عروض الفرج بعد الشدة وقوة الرجاء واليقين بلطف الله وتداركه بنبيه والمؤمنين من عباده… وفيما يلي ما هناك من ايات وردت فيها كلمة السكينة في القران الكريم.. “ثم انزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين وانزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين”(التوبة/26) النص مسبوق باية ذكرت فيها الموقعة الحربية التي هي في “حنين” وذلك في قوله تعالي (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين).. فان الجيش الاسلامي علي كثرته تعرض في وقعة حنين للفشل اول الامر وعظم القلق في النفوس واستولت الخشية علي القوم من عدم كسب النصر في هذه المعركة فانزل الله سكينته علي المسلمين اي قوي رجاءهم بالنصر وشد من عزائمهم في المواجهة وطمأنهم علي العاقبة فذاك هو معني السكينة في هذا النص.. اول النص هو قوله تعالي “ان لا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم”..
السكينة المنزلة علي رسول الله هنا كانت في الغار وهي تعني جعل النبي مستيقنا من الفرج ومطمئنا الي النصر بما القاه الله عليه من الاستقرار النفسي ولم يرد في النص ان السكينة نزلت علي النبي وصاحبه لان النبي هو راس الامر الموحي اليه بالرسالة ولا يتسع المجال لشمول احد سواه بالسكينة في هذا المقام وقد جاء النص بقول النبي لابي بكر “لاتحزن ان الله معنا” ولم يرد بلفظ “ان الله معي”.. والقلق الذي يصيبه هو اضعاف القلق الذي يصيب من يكون معه وفي النص القراني ايماء الي ان النصر انما هو من الله فاذا نصرت الناس النبي ام لم تنصره فان نصر الله هو الذي يضع كل شيء في نصابه فقوله تعالي: “اذ اخرجه الذين كفروا” لا يعني انهم اقتادوه ومعه صاحبه ابو بكر الصديق رضي الله عنه الي خارج الحدود وانما كان يعني ان خطة اعدائه في مكة قامت علي اخراجه (1) واصرت علي احد الامور الثلاثة منها التخلص منه بالقتل او اخراجه او رده و حمله علي اعتناق ملتهم.. وقد جاء في شعر لحسان بن ثابت يقول فيه واصفا هذه اللحظات من ايام الهجرة:
الثاني اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به اذ صعدا الجبلا
ومن هنا كان حزن ابي بكر وطمأنة النبي له. اذ كان جماعة الكفار يمشطون المنطقة..
“هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا” الفتح/4
يشير النص القراني الي ان هذه السكينة نزلت في قلوب المؤمنين.. والقلوب في المنهج العقائدي الاسلامي -وفي كلام العرب- المعبر عن طبيعة المعقولات التي يعقلونها هي مصدر الفكر والوعي ومسؤولية اتخاذ القرار وكذلك هي مركز حمل الهموم ومواجهة المشاكل وتباعة الفكر والايمان فحين نزلت السكينة في هذه القلوب فقد استقر كل شيء في مكانه من الطمأنينة والراحة فلم يبق ما تقلق له النفس او يشغل البال.. اما زيادة الايمان فالمراد به تثبيته وتقويته لان الايمان مسالة معنوية لا حجم لها فهو اي الايمان اشبه بانتماء الانسان الي وطن معلوم مما يسمي في لغة العصر بالجنسية.. فان العراقي مثلا لا تزداد عراقيته ولا تنقص بالقياس الي حسن عمله او سوئه وبتعبير اخر ان زيادة الايمان هي بروزه بوضوح ورسوخه في اعماق النفس ولا علاقة للحجم والكمية بذلك.. وقوله تعالي “ليزدادوا ايمانا” يراد به التنويه بهذه السكينة التي جعلت من طمانينة النفس ما يؤدي الي التحسس بالايمان والقناعة به والانتماء اليه..
“لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم واثابهم فتحا قريبا”.. (الفتح/18)
قوله تعالي “فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم واثابهم فتحا قريبا” اي ان الله علم ما في قلوب المؤمنين من قوة رجائهم في رحمته وتطلعهم الي نصره فانزل السكينة عليهم اي امنهم من الخوف وقوي رجاءهم بالنصر.. وقد كانوا رضي الله عنهم وهم المنوه بهم في النص من بعض اسباب انزال السكينة الالهية عليهم.. وتكاد السكينة هنا تعبر عن معني اللطف والرعاية واسباغ الطمأنينة وراحة البال علي القوم اذ نزل الله سكينته عليهم…
ان نزول هذه السكينة كان جزاء للقوم ومكافأة لهم علي حسن موقفهم من رسول الله وصدق بيعته وصدق ايمانهم الذي وجده الله مكتنزا في اوعية قلوبهم وهي شهادة من الله بحق من كانوا مع الرسول في تلك البيعة التي سميت بيعة الرضوان اخذا بما ورد في النص بقوله تعالي “لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة”.. وهذا يدل علي ما منحه الله لنبيه من التوفيق في حسن اختيار الاصحاب والاعوان الذين كانوا سند هذا الدين وحماة الملة وورثة الدعوة الاسلامية.. “فانزل الله سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين والزمهم كلمة التقوي وكانوا احق بها واهلها وكان الله بكل شيء عليما”.. (الفتح/26)
اول هذا النص في الاية هو قوله تعالي “اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية”.. وهو بقية كلام قراني ذكر بشيء من التفصيل بخروج المسلمين الي مكة وقد منعهم الكفار عن دخولها ولم يأذن الله للمسلمين بقتال القوم اذ كان في مكة خلق من المسلمين فيهم الرجال والنساء وهم محتفظون بانتمائهم الاسلامي ولم تكن شخصياتهم وعناوينهم معروفة للمسلمين فلو وقعت الحرب بين الفريقين فلعل هؤلاء المسلمين سيصيبهم من الاذي ما هم غير مقصودين به فيشق ذلك علي النبي واصحابه حين يعلمون ان فريقا من المسلمين قد تعرضوا لاذاهم وهذا ما سماه القران “معرة” اي شيء يستعير منه من يصنعه.
وفي الاية حكم شرعي يقرر عدم الهجوم علي قوم من الاعداء اذا كان فيهم فريق من المؤمنين لئلا ينال هؤلاء المؤمنين ما ينال الكافرين من تقتيل وايذاء واسر وما الي ذلك..
ان نزول السكينة هنا كان علي الرسول وعلي المؤمنين الذين معه وقد يكون المؤمنون الذين في قلة مشمولين بهذه السكينة التي تعني انهاء المشكلة المحتدمة بين القوم اي كفار مكة والفئة التي يقودها الرسول صلي الله عليه وسلم بما كان لهم به من منجاة من اللجوء الي الشدة في المواجهة…
ان ورود “السكينة” في النصوص التي وردت بها انما كانت مقرونة بكلمة الانزال وان كان يعني مطلق التفضيل والمنة فانه كذلك يعبر عن نزول شيء من السماء علي الامة تشرح له صدورها وتطمئن به الي لطف ربها وتعلم انها ابدا محل الرعاية ممن ارسل اليها رسولها وبعث اليها نبيها نبي الخير والرحمة محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة والتسليم. والنزول من السماء يعني ظهور العطاء الالهي وتفشيه ووضوحه وعمومية الانتفاع منه..
اما قوله تعالي “فصل عليهم ان صلاتك سكن لهم” (التوبة/103) فان كلمة “السكن” هنا في معني السكينة ومعني الاستقرار والطمأنينة والفأل الحسن وترقب بشائر الخير والرجاء كل اولئك مما يتحقق عند نزول السكينة…
رحم الله شيخنا الجليل.. جلال الحنفي البغدادي واسكنه فسيح جناته.. واراد بهذا الكتاب تقربا الي الله سبحانه وتعالي ومتشفعا به الي رسوله صلي الله عليه وسلم. امين يا رب العالمين.
محمد عباس اللامي – بغداد
/2/2012 Issue 4127 – Date 20- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4127 – التاريخ 20/2/2012
AZPPPL