اضحك للدنيا
لؤي زهرة
لا أعرف لماذا تذكرتُ الحاجّة أم عبد وأنا أطالع كتاب خوارقَ اللاشعور للدكتور علي الوردي والكتاب يدورُ حولَ نسف فكرة ( مَنْ جدَّ وجدْ ومن زرعَ حصدْ ) فهناك أسرار كامنة وقوى خفية في شخصيةِ الأنسان هي التي تؤهله للتميّز والنجاح أو الفشل والخذلان . وسوف أقص عليكم حكاية الحاجة أم عبد ونذكر محاسن موتانا وموتاكم وخوارق اللاشعور.. أم عبد أمرأةٌ بصرية توفي زوجها وكان عمرها أنذاك خمسةُ وستين سنة بالتمام والكمال وشعرت بالوحدة والوحشة لفقد زوجها أبي عبد رحمه الله ، فكنت أسمعها تقول دائما : ( البيت يأكلني وأشعر بالوحشة بعد عين المرحوم و أرى صورته في كل مكان وذكرياته تلاحقني داخل حجرات البيت وعلى الجدران وفي اثاث منزلي وأحيانا المحُ صورته في كوب الماء واستكان الشاي ، حتى المرآة حين انظر اليها فأنها تعكس صورته لا صورتي ) وجاءت الى بيتنا لتعيش معنا على أمل أن لا يطاردها شبح المرحوم ، في نفس ذلك الوقت كان الحاج علي رحمه الله وهو من كبار التجّار ، بحوزته أملاك كثيرة لا حصر لها وقد توفّت زوجته الغالية التي لا يستطيع نسيانها ابداً فهي تلاحق فكره وذاكرته ويرى صورتها في الحيطان والدولاب ومع الزاد تقفُ غصة في فمه رحمها الله . كان الحاج علي والبالغ من العمر 75 سنة صديقا ودودا لجدي رحمه وكان يتردد عليه دائما و يتسامران خاصة بعد وفاة المرحومة ﻷنه يشعرُ بالوحدة والوحشة مثل أم عبد تماماً، وذات يومٍ لعب القدر لعبته حين جاء الحاج علي الى بيتنا وكان في وقتها البيت فارغاً من ساكنيه الا من ام عبد و جدي الذي كان يمارس هوايته المفضلة وهي الإستحمام . قامت ام عبد بواجبات الضيافة لضيفنا الحاج علي بحرص واضح ، وجلسا يتحدثان ويبثان شكواهما للآخر ويتبادلان شعور الوحدة القاتلة ومأساة وحشة الفراق ، في اليوم التالي خلعت ام عبد ثياب الحداد و نظارتها ( جعب استكان ) ووضعتْ مُبيِّض بشرة لتُخفي تجاعيد وجهها وصبغت شعرها بحنة الفاو وظفرتهُ ( قصايب ) ومسحت شفتاها بالـديرم لتبدو شفاهها حمراء طبيعية وأخرجت من حقيبتها الكبيرة عباءة خليجية لتبرز مفاتنها التي اختفت بعد وفاة المرحوم ابي عبد . كانت عينا أم عبد ترنوان نحو باب بيتنا وتزداد دقات قلبها كلما قرع طارق ، حتى وصل الحاج علي بهيأتهِ الجديدة حيث حلق لحيته وقلّم شاربهِ وصبغ شعرهُ وارتدى دشداشة ( زبدة ) تلمعُ حتى بالظلام .
وارتفعت وتيرة زيارة الحاج الى بيتنا وفي كل مرة كان يأتي بهدية صغيرة لها وكنت أرى أم عبد مشغولة بترتيب نفسها وتنظيف المكان قبل مجيء غريمها وكانت تبحث عن حج لتدخل بها الى غرفة جدي حين يأتي الحاج علي فهي من يقدم الشاي والكيك وأحيانا تبادر بتقديم الفواكه والصحون والسكاكين على دفعات متتالية وأحياناً تبحث عن ذريعة مفضوحة لعلها تحظى بنظرة من الحاج علي ، بعد عدة أيام تقدم الحاج الى خطبة أم عبد ليضع حداً لقصة حب سريعة وسرعان ما تم الزواج وإنتقلت أم عبد للعيش في بيتها الجديد وطوى النسيان أخر صفحة من صفحات المرحوم أبي عبد ، وعاشا عيشة سعيدة هانئة ، بعد سنتين توفي الحاج علي فأستورثتْ كل أملاكه هنيئا مريئا ، لكنها حزنت عليه حزنا شديدا اكثر من حزنها على أبي عبد فلم تمكث بعده الا سنة واحده وتوفيت رحمهم الله جميعا ، فتحولت كل أملاكها الى إبنها عبد وبناتها سعاد وميعاد ولا زالوا منعمين بصحة وسلامة و هناء ورخاء وأملاك وأطيان لا حصر لها ،
بعد هذه القصة الحقيقية هل مازلتم تؤمنون بالمثل القائل من جدَّ وجدْ ومن زرعَ حصدْ ؟!