من بيت مشتّت إلى بنيان مرصوص – خالد صديق عبد العزيز – مراد داود

الدولة الجديدة للعراق

من بيت مشتّت إلى بنيان مرصوص – خالد صديق عبد العزيز – مراد داود

إن سعادة الأسرة تزداد كلما كان بيتهم أكثر تنظيما وترتيبا. ولا شك أن هيكلية الدار الموفقة معماريا تعزز التوافق فيه والاتفاق عليه. والدول في عصرنا هذا هي بيت الشعوب، ولذلك إذا شهد البيت سوء التفاهمات أو واجهت أفراده تحديات في التعايش فيما بينهم، فمن الضروري التمعن في هيكلية وهندسة بنيانه وتحليل مسببات فقدانه ذلك الترتيب. وبشكل عام، ما يواجهه العالم على خلفية أحداث العصر، هي أيضا نتيجة أزمة الفكر الإداري.

حيث لم تستطع التجربة الدولية، لحد الأن، من تقديم أي مثال متكامل وموفق لنموذج الدولة الناجحة في مواجهة التحديات والأزمات. وتتساءل العقول النيرة باستمرار، عن النموذج الملائم لهندسة الدولة الذي يسمح لها باختيار السياسات السليمة في إدارة وتنظيم شؤونها من إيجاد السبل الواصلة بين المكونات المختلفة التي لم تعد متحالفة، أو بين تلك المناطق التي تفرقها الفجوات التنموية. وفي سياق البحث لما هو أنسب، تتجلى بشكل واضح لجوء بعض الدول للتحول من النظام المركزي إلى اللامركزي ، بل وتسير بعض منها  نحو المنهج الاتحادي، أو تتحول من منهج الأنظمة البرلمانية إلى الدولة الرئاسية. ولكن بسبب  التجربة وعدم الاطمئنان، تتولد  الرغبة لدى بعض الدول بالعودة إلى ما كانت عليه سابقا ، فتتكرر هذه الحركة في الدول  ذهابا وإيابا.

ولذلك، ومع الأعتراف أن معظم المشاكل التي يواجهها العراق لها أسبابها الداخلية بالشكل الأكبر، من خلال عدم الجدية في إيجاد الحلول الناجعة لتلك المشاكل، فإنه من المفيد إعادة النظر في النموذج الإداري الذي تم تبنيه (بشقيه اللامركزي أو الاتحادي (. ولكي يتم ذلك، لابد من مراجعة تحليلية نحو فلسفة النظام اللامركزي أو الاتحادي لفهم أسباب عدم نجاحه (إن صح التعبير) أو عيوبه. على الرغم من أنهما يعتبران النموذج الإداري الأمثل التي تتوجه إليها الدول هربا من المركزية المستبدة.

إن المسألة الجوهرية في ترتيب بيت المؤسسة أو الدولة هي تحديد الأولويات بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. وتستند فلسفة اللامركزية والفدرالية إلى الفلسفة اللبرالية التي، باختصار، تطالب بالتحرر، من خلال تحرير الفرد من القيود.

تحديد مسار

وهي تضع الفرد في المركز، إيمانا بأن من حقه تحديد مسار حياته، وثقة على أنه قادر على إتخاذ القرارات السليمة. وذلك يضع المصلحة الفردية فوق المصلحة الجماعية، ليس إهمالا بالأخيرة، بل اعتقادا بأنه إذا تصرف جميع الأفراد بواقع المسؤولية والعقلانية في خياراتهم ستتناغم جميعها بشكل تلقائي لتتكامل بها المصلحة العامة. في النتيجة، انبثقت من هذا التصور عدة نظريات ونظم بما في ذلك فكرة اللامركزية.  القناعة بأن “أهل مكة أدرى بشعابها”، في قراءتها الليبرالية، تدافع عن إعطاء أقصى ما يمكن منحه من الصالحيات والإمكانيات إلى أصغر جزء إداري، وتهتم بحماية تلك الامتيازات تحت مظلة القانون أو الدستور أمام (حتى وإن كان أحيانا ضد) السلطة المركزية. أصبح من البديهي لما قطعته البلدان (ذات المستويات التنموية المرتفعة) من أشواط متقدمة أن تتبنى القناعة بأن نظامهم بالضرورة يؤمن النمو والازدهار للبلدان النامية أيضا. وبفضل الجهود الجبارة للمؤسسات الدولية العظمى تم نشر هذه النظريات الإدارية والسياسية، الا أنه وبالرغم من محاولات تطبيقها، فإنه لا توجد إلا قلة من نماذج دول “العالم الثالث”  التي تميزت بالاستقرار والرفاه. دون ذكر وجود بعض المؤشرات السلبية المحبطة نتيجة الانتقال السريع من المركزية الى اللامركزية.

إن إدراك أسباب هذا الواقع يحتاج إلى فهم أكثر للملامح الرئيسية التي بنيت على أساسها التجربة الإدارية الحاكمة والتي يمكن تلخيصها بثالثة أبعاد:

أولا؛ قصر النظر تجاه الأسباب الرئيسية للمسائل الراهنة، والتي عادة ما تكون جذورها مخفية. الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب من وجود مدرسة التخطيط الاستراتيجي التي تتجاهل التاريخ العريق وما يحتويه من شذرات متناغمة.

ثانيا؛ قياس النجاح بمدى ما تم تحقيقه من النتائج الظاهرة، الأمر الذي يؤدي إلى التركيز على المدى القصير.

ثالثا؛ المنفعية في التعامل مع الأخر، والتي انبثقت منها ثقافة التنافسية والتشجيع على التميز عن الأخر. وبالنتيجة نعيش في النظام العالمي المبني على قيم المصلحية، من خلال تهمش الطرف الأخر، أو ضمن السلوك المتسارع غير المدروس يحرص على بناء المستقبل دون أخذ الماضي بعين الاعتبار. وتظهر الأنانية الحاكمة في جميع المجالات والقطاعات، من المصالح في العلاقات الدولية إلى التنافسية على حساب الأخر وإلى ترجيح الفردية على حساب المجتمع ككل. أو التوجهات الانفصالية في البلدان الغربية، حيث تطلب استقلال المناطق الغنية كي لا تتحمل كلفة التضامن مع باقي المناطق الأقل حظا. كل ذلك يؤدي إلى قلب المعايير في تحديد أولويات المصلحة العامة، فأصبح “الدار قبل الجار“ شعارا جاذبا للبعض، مما ينتج عن هذه العقلية نشوء الصراعات  داخل الدول والأنظمة.

يمكن تمثيل النظام بالهرم والحجر. حيث إن المركزية هي مثل الهرم المتألف من حجر كامل غير منقسم والذي يظهر كأنه بنيان قوي، الا أنه في حقيقة الواقع يفتقد إلى المرونة اللازمة للتكيف مع احتياجات الموقف أو الزمن.

وبالمقابل فإن اللامركزية تبدو وكأنها هرم مكون من اللبنات التي وضعت بعضها على رأس بعض لتشكل مستويات الإدارة. وترتبط اللبنات فيما بينها من خلال الالتزامات والمسؤوليات المتبادلة. ويمكن التعبير عن الفدرالية بنفس العلاقة غير أن قوة الالتزامات والمسؤوليات المتبادلة فيه أضعف. لكن في كليهما العامل الأساسي الذي يجعل الأجزاء ترتبط مع بعضها البعض هو عمق العوامل الداخلية والخارجية التي تدفع تلك اللبنات إلى التماسك وتشكيل كتلة موحدة. لكن نظرتها المصلحية تؤدي تدريجيا إلى أن كل من هذه اللبنات تضع مصلحتها فوق مصلحة الهرم. ولا يخفى على أحد أن في الدول التي تعاني من عدم التنسيق بين المناطق أو من تضارب التوجهات، سيؤدي هذا الوضع بالضرورة إلى سوء التوازن وضعف التنمية الشاملة.

أي بمعنى آخر، كلما ضعفت العوامل الجامعة لتلك المكونات يُفقد التناغم وتزداد حدة الانفصالات أو تتفكك الدولة ككل. في النتيجة يمكن القول أنه لا المركزية ولا اللامركزية أو الاتحادية (رغم ميزات الأخيرتين) تؤمن بشكل مرجو، الاستقرار والتنمية المتوازنة والعادلة بين الجميع. لأن المركزية واللامركزية كلاهما تحكمها مبدأ حماية المصلحة الخاصة أمام المصلحة العامة، حيث يرجح في الأولى مصلحة (المركز) العاصمة أو النخبة على حساب باقي المناطق أو الفئات. وفي اللامركزية، تميل المناطق إلى وضع مصلحتهم فوق مصلحة المركز وباقي مكونات البلد.

إننا بحاجة إلى أن نفكر وبكل جرأة في إيجاد فلسفة بديلة، والى إنشاء نموذج (الدولة الجديدة) الذي ينبثق عنها. فمن المهم أن نقبل أن اللامركزية (أو الأتحادية) هي ليست الهدف النهائي في الهروب من المركزية، بل إنها محطة الأعراف، ومطلوب منا الأستمرار في الإصلاحات النظامية من أجل الوصول إلى بر الأمان. إن ملامح الحلول المثالية موجودة في فلسفتنا وثقافتنا منذ الأزل والتي تنصحنا أن “الجار قبل الدار”. وفي هذا المنظور، هندسة النظام الجديد تشبه إلى حد كبير هيكلية الألعاب الخشبية الصينية حيث تتمسك اجزاؤها  بعضها ببعض بدون أي إرتباط ملحوظ بل بفضل روابطها الذكية. وبفضلها تشكل البنيان المرصوص الذي لا يتفكك حتى ولو إنقلب الكيان على رأسه. إن تبني وتطبيق هذه النظرة على نموذج الدولة يمكن أن يتم على مرحلتين: أولاهما؛ انتهاج العمل التوعوي لتبني هذه الفلسفة الجديدة من قبل القيادات.

وبالتالي يتحتم تغيير النظرة في ترتيب الأولويات لدى الجميع، من السلطة الإتحادية إلى الحكومات  المحلية، والأخذ بعين الاعتبار المعنى الحقيقي لمصلحة الجار إيمانا بأنه سيعود نفعا متبادلا للدار.

أما المرحلة  الثانية؛ فيمكن تعديل الإطار الدستوري والقانوني لتعزيز التعاون الأفقي بين الحكومات المحلية من أجل تقوية  الروابط بين المناطق. وعلى سبيل المثال يمكن إعطاء الصلاحيات بالتفويض المؤقت أفقيا بين الحكومات المحلية وممارسة التخطيط المشترك، إضافة إلى فتح منصات التعاون مثل الاتحادات الخدمية على غرار بعض البلدان.

ممارسة التفاوض

كذلك ممارسة التفويض المتبادل في بعض الصلاحيات بين المستوى المحلي والمركزي، وكل ذلك من أجل خلق ثقافة التضامن وتبادل المعرفة، بعيدا عن تلك التنافسية التجاهلية، بل وحتى التنافرية. كذلك نحتاج الى إعادة النظر في فسلفة السلطة الاتحادية وموقفها لتكون مركزا جاذبا لكل الأطراف. ومن ثم إعادة التصميم المعماري، إن صح التعبير، كي يكون المركز وسطيا وليس فوقيا. (ويفيدنا تبني التصور الجديد للحُكم الأعلى)؟؟ أن يكون حَكما حكيما وليس حاكما متحكّما والذي أمام وجود حالات الاختلاف يتصرف كمعلم أكثر من معقب (معاقب)؟. وأكيد أن كل ذلك يحتاج الى التفكير والابتكار، ومما لا شك فيه أن الأرض الذي سُّن عليه أول قانون وضعه الأنسان، وخُطّ فيه أعرق عهد عادل لسياسة الأوطان له المقدرة على أن يُبدع أبنائه في إيجاد ونشر نموذج ملهم ومشجع.

إن المقال السابق “العراق: بيت الأعراق على الأعراف” قد أشار إلى مشكلة تناسبية النظام الحالي والثقافة السياسية والإدارية الحاكمة مع طبيعة العراق.

ونود أن نشارككم في قناعتنا أن الفلسفة المتداولة في اللامركزية والفدرالية لا تشجع توحد الصفوف ولا تعزز التمسك، كما انها لا تؤمن بالتنمية الحقيقية والعادلة على مستوى البلد. يأتي ذلك على ظهر كل الصراعات السياسية والطائفية والأثنية التي ذكرناها سابقا. الأمر الذي يضعف العراق هو الأثر المشترك لهذين المشهدين المقصرين، السياسي الطائفي الأثني من ناحية، والقانوني الإداري من ناحية أخرى.

دعونا أن نعرف ونعترف أنه من الصعب تصور مستقبل العراق المستقر والمستديم في ظل حصره بين مطرقة التقاسم الطائفي والسياسي وسندان النظام الإداري الذي يعزز الصراع التنافسي في الصلاحيات والإمكانات. وكما دعونا إلى اكتشاف حكمة وفوائد تواجد المكونات المختلفة في العراق، ننادي اليوم إلى كشف نعم التمسك ونفع التعاون بين الوحدات الإدارية والسياسية. وفي الختام، أمام تحديات العصر، والتي سنركز عليها في المقال القادم، علينا أن نمتلك التصور والتخطيط الفعال لبناء العراق الجديد كبنيان المعارف المرصوصة، لا كبيت الغرف المنفصلة. لأن:

إذا ضَعُف وسقط سقف الجار

فما النفع أن نحتفل نحن في الدار؟

فإنّ ما أصاب الجوار من مأساة الأمطار

قد يمطرَ غدا علينا بالأحجار.

وإذا صارت السكينة في الجوار

نشم في كل صباح ريح الأزهار

لو اتفقا ووحّدا التمر والجوز المسار

لا خوف والجوع امام الاعصار…

مشاركة