من السياسي إلى الاجتماعي
حسن حنفي
والآن جاءت مرحلة إعادة البناء. فقد استردت الثورة روحها في الميدان بعد التحامه من جديد ضد أحكام رموز النظام وضد حل مجلس الشعب وضد إلغاء قانون العزل السياسي. تعود روح الثورة بعد أن عم الإحباط على مدى عام ونصف حتى بدأت تقوى الثورة المضادة، ويستعد النظام السابق لالتهام ما تبقى من الثورة. الآن اطمأنت الثورة على نفسها بالرغم مما حدث لها. وتعلمت من التجربة السابقة ألا تثق بأحد إلا بنفسها، والا تعتمد على أحد إلا على نفسها.
والآن وبعد نجاح مرشح الثورة ضد مرشح الفلول واطمأنت الثورة على حاضرها، كيف تطمئن على مستقبلها؟ كيف يمكن بحكمة وروية أن تأخذ الثورة مسارا جديدا على وعي منها وليس مسارا تحدده لها الثورة المضادة باسم المرحلة الانتقالية أو خارطة الطريق أو التحول الديمقراطي والدخول في دهاليز الدستور أولا أم البرلمان أولا، استفتاء شعبي على تعديل دستوري، انتخابات فردية أم بالقائمة، صراع القوى والأحزاب السياسية على عدد الكراسي في البرلمان بمجلسيه، الشعب والشورى ونسيان أهداف الثورة، اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وكيفية تمثيل القوى السياسية فيها، بالانتخاب من البرلمان أو بالتعيين من المجلس العسكري بالتشاور مع كافة القوى السياسية. وأُدخلت الثورة في دهاليز السياسة. وتصارعت القوى الثورية فيما بينها. ودخلت في مناقشات بيزنطية دولة دينية أم دولة مدنية؟ والنظام السابق يسترد قواه ويستعد لانتخابات الإعادة بمرشح جندت الدولة كل ما تملك لتأييده. وجعل كل برنامجه الهجوم على مرشح الثورة، وتخويف الناس من مرشح الجماعة.
والآن، الخوف مرة ثانية أن يقع الرئيس الجديد في دهاليز السياسة، ودهاليز القوانين، ودهاليز المحاكم بالدخول في مناقشات بيزنطية أخرى حول اللاءات الأربعة التي أفرزها الميدان إبطال حل مجلس الشعب وهل هو دستوري أم لا، الثلث أم الكل، وهل التوقيت عن حسن نية أو سوء نية، بين يوم وليلة أو قد يستغرق عدة سنوات، وهل قرار المحكمة الدستورية العليا بالحل أم فقط إبطال القانون الذي قام عليه، والحل بيد المجلس العسكري، وهل يمكن مراجعة قرار القضاء أم أنه واجب النفاذ طوعا أو كراهية؟ وكيف يمكن حل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وهي منتخبة من مجلس الشعب الذي يمثل إرادة الأمة ووضع لجنة معينة من المجلس العسكري مهما حدث من تشاور قبلها مع مختلف القوى السياسية في مصر؟ وكيف يمكن اختيار مجلس الأمن القومي من المجلس العسكري وحده دون استشارة باقي المؤسسات ومنها مجلس الشعب والحكومة؟ وكيف يوضع قانون بمنح حق الضبطية القضائية لقوات الشرطة العسكرية ويصبح من حقها إيقاف المدنيين؟ ومازال فقهاء السلطان يدافعون عن التعديل الدستوري الثاني حفاظا على الأمن والاستقرار في البلاد. ولما كان الرئيس الجديد بلا سلطات واضحة فإنه ينشغل بهذه المماحكات النظرية ولا يشعر به الناس. ويصاب الثوار بالإحباط من جديد. ينسى الرئيس الثوري الثورة فتنساه الثورة، وتندب حظها أنها لم تجد من يمثلها إلا مرشح الفلول أو مرشح الجماعة. وقد نجح كراهية في الفلول. وأخذ مرشح الفلول هذا القدر من ملايين المصوتين بفارق مليون واحد أو أقل كراهية في الجماعة. والمبطلون والمقاطعون لم يتجاوزوا المليون. فمازال الطريق الثالث سلبيا وفي البداية. وقد يكفر الثوار بالثورة بعد أن استبعدوا منها مرتين. وقد يزداد الحنين إلى النظام السابق. ويستعد أنصاره هذه المرة استعدادا أكثر للانقضاض على الرئاسة، والمطالبة بانتخابات رئاسية جديدة يضمنون فيها الفوز.
فما العمل؟ الطريق للخروج من دهاليز السياسة هو التحول من السياسي إلى الاجتماعي، والانتقال من المماحكات القانونية إلى تحقيق مطالب الشعب وأهداف الثورة. هو الانتقال من الديمقراطية القانونية إلى الديمققراطية الشعبية المباشرة، الطريق الذي أخذه عبد الناصر بالرغم من ضعف المؤسسات الدستورية وخضوعها للحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي، صاحب الأغلبية المطلقة في كل الانتخابات البرلمانية والاتحادات والنقابات. تحقيق مصالح الجماهير وأهداف الثورة لا تحتاج إلى كل هذه المماحكات القانونية الصورية التي يختلف عليها فقهاء القانون. إنما تحتاج إلى قرارات جمهورية تمس حياة الناس حتى يشعرون بالثورة في حياتهم اليومية رفع الحد الأدنى ووضع الحد الأعلى للأجور، رفع المعاشات، وضع خطط عاجلة للتنمية لإيجاد فرص عمل للعاطلين، وضع خطة قومية لسكان المقابر والعشوائيات، الإسكان الشعبي أو مدن العمال كما حدث في الستينيات، وضع خطط عاجلة لحل أزمة المواصلات بإقامة الكباري العلوية أو سلسلة من الأنفاق السفلية تمنع اختناقات المرور، ووضع مظلة وطنية للعلاج الشعبي كحق مكتسب لغير القادرين، ووضع خطط عاجلة لمحو الأمية وإقامة المدارس في الأحياء الشعبية واستخدام المساجد والكنائس إذا ضاق الأمر، ضبط الأمن وزرع الاستقرار في الطريق العام حتى يشعر الناس بالأمان، زيادة الإنتاج والعودة إلى التخطيط من أجل تنمية مستدامة في خطط خمسية يقودها القطاعان العام والخاص. بهذه الطريقة يظهر الإسلام الاجتماعي وليس الإسلام الصوري القانوني في الولاية والخلافة وتطبيق الشريعة والحدود والحلال والحرام والغطاء والمنع والستر الذي يصل إلى حد القهر. وتستعيد الثورة في تاريخها الطويل منذ يوليو 1952 حتى يناير 2011 أساسها النظري الشعبي الإسلام والثورة. فلا الثورة ضد الإسلام كما حدث منذ أزمة مارس 1954 ولا الإسلام ضد الثورة كما يُروج ضد الجماعة لتشويه صورتها وإدخال البلاد في صراعات مفتعلة بين الديني والعلماني، بين السلفي والحدثي، بين المحافظ والتقدمي.
وإذا كان الرئيس الجديد بلا سلطات التي مازالت في يد المجلس العسكري جامعا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فإنه يستطيع أن يسترد كل السلطات بالعودة إلى الشعب. فالشعب مصدرالسلطات، إلحاقا بشعارنا الوطني في ثورة 1919 الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة . المجلس الرئاسي المتعدد الاتجاهات بين الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين والقوميين والماركسيين، والحكومة الائتلافية التي تمثل كل القوى السياسية، واسترداد أموال مصر المهربة إلى الخارج والتي مازالت تهرب حتى الآن من أجل تمويل خطط التنمية الشعبية.
ولا يعني ذلك أن الطريق سهلا. فمازالت التحديات أمام الرئيس الثوري الجديد قائمة. المجلس العسكري ومن ورائه الجيش الذي ظل أثيرا بالحكم على مدى ستين عاما. ولأول مرة يتعامل مع رئيس جمهورية مدني من حقه تعيين وزير الدفاع. وقد كانت تركيا منذ الثورة الكمالية تحت إمرة العسكريين، هم الذين يعينون رؤساء الوزراء والوزارات والذين بيدهم السلطة الحقيقية. وبعد تسعين عاما عادت تركيا إلى الحكم المدني وأصبح العسكريون تحت إمرتهم. أما جهاز الدولة الذي مازال مع النظام السابق خاصة بأجهزته الأمنية والتنفيذية خاصة وزارة الداخلية فإنها في حاجة إلى وقت حتى تتعود على أنها جزء من الدولة وأن مهمتها المحافظة على الأمن في البلاد وليس أمن النظام. يحتاج الرئيس الجديد إلى وقت حتى تتحول الدولة الأمنية إلى دولة وطنية، ودولة الفرد إلى دولة الشعب، ودولة النظام إلى دولة الثورة. الحاضر يحتاج إلى وقت كي يتحول إلى ماضي. والثورة تحتاج إلى وقت كي تصبح مسار المستقبل. ما لا ينسى هو دم الشهداء بصرف النظر عن التحول من السياسي إلى الاجتماعي. فالشهداء هم وقود الثورة، وما يجب هو إرجاع الرئيس المخلوع إلى سجن طرة بدلا من التمارض المستمر كي ينتقل إلى أفخم الأجنحة وربما استعدادا لتهريبه إلى الخارج. التخلص من القديم هو شرط بناء الجديد. وما قبل الثورة إن لم يتم التخلص منه فإنه يتحول إلى ثورة مضادة تلتهم الثورة، ولكن ليس ما يتولد عنها من ثوار قادمين.
/7/2012 Issue 4264 – Date 31 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4264 التاريخ 31»7»2012
AZP07