من حكاية سندريلا إلى حكاية ليلى والذئب
من أجل ألاّ يقول التاريخ غداً ما أشبه اليوم بالبارحة
هادي نعمان الهيتي
مثلما يحلو لنا – نحن المصابين بداء السكر- ان نلتهم قطع الحلوى في السر والعلن كذلك يحلو لمجمل العراقيين، بعد ان عاشوا طويلا تحت وطأة الاستبداد ان يتحدثوا عن الديمقراطية وان يعيشوا في ظلها، لذا فأن جل القوى السياسية في الساحة العريضة، اليوم، ترفع علانية مبدأ الديمقراطية بين شعاراتها الاساسية، ذلك ان العراق على امتداد العقود الثمانية الماضية لم يذق طعما للديمقراطية الا برأس اللسان.
واستعراض تاريخ العراق السياسي المعاصر يكشف ان للعراق تراثا ديمقراطيا زاخرا غير انه ظل ذخيرة نظرية وظلت الحياة الديمقراطية، على اساس ذلك، املا يطوقه الالم.
وها هو الالم اليوم، مع تزايد ارتفاع الشعارات يحبط بحياة العراقيين وهم يتساءلون في حيرة عن ديمقراطية تتقدم نحوهم مع اصوات المدافع ودبيب الدبابات وهدير المدرعات، ويزيد من حيرتهم ان الذين يرددون الشعارات الديمقراطية يشيرون بالاصابع وكأن الديمقراطية اتية لا ريب فيها بلمح البصر.
وهكذا كان العراقيون شديدي الاستبشار بالجديد، ما ان يتلقفوا شعاراً انسانيا حتى يضعوه في الاحضان ويحسبوا انه كــــــــائن – واقعي- لا محالة. لذا كانوا اول شعب يقدم التضحيات الجسيمة، بما فيها الارواح، من اجل الافكار، الا ان فكرة لم تحقق لنفسها بينهم تطبيقا باستثناء تلك التي فرضت وجودها عنوة، فعاش العراقيون حياة قاسية ومريرة على مدى العقود الاخيرة من دون ان يلمحوا للديمقراطية حضورا.
رفض الاستبداد.. والمستقبل
صحيح ان سقوط التمثال قد تم بمعادل امريكية بحيث فات على الشعب التحكم بأمر كان يريد تحقيقه بنفسه وبتضحية منه، الا ان هناك امرين يقللان من هول هذا الشعور، الاول: ان العراقيين سجلوا عبر العقود الاربعة الاخيرة وقائع وحوادث تفصح عن رفضهم للاستبداد وكل رموز الدكتاتورية، وانهم بهذا سجلوا مواقف متفردة كان سقوط التمثال نتيجة مباشرة لها. اما النقطة الثانية فهي ان امام العراقيين مستقبلا يشكل اختيارا لهم كي يبرهنوا ان بوسعهم بناء حياة تحترم الانسان وتأخذ بالحرية على اساس ديمقراطي، حيث ان عليهم ان يثبتوا وجودهم على الارض ويحولوا من دون ان يقول لهم التاريخ، باستنكار، ما اشبه اليوم بالبارحة.
ومع هذا لا يبدو ان العراقيين ينشغلون كثيرا، اليوم بمن يقدم لهم طبق الديمقراطية، لأنهم يرون انها جاءت اليهم من طي السحاب ومن حيث لم يحتسبوا على غرار ما تحقق للفتاة الصغيرة سندريلا يوم حظيت بالزواج من الامير التي ضرب معها الحظ ضربته.
ولكن يبدو ان العراقيين لم يحسبوا حسابا لحكاية اخرى هي حكاية (ليلى والذئب) التي ما تزال حية في اذهان الدنيا والتي اراد كبار الكتاب إعادة صياغتها من جديد في مؤتمر عال واسع بحيث لا تتوهم ليلى ان الذئب الراقد في فراش جدتها هو جدتها الحقيقة، اذ هو يضمر للصغيرة ان تصبح وجبة طازجة له ان هي ظلت تتوهم.
ثقافة الديمقراطية
والديمقراطية اذا كانت سلوكا يكتسبه البشر ضمن ثقافة بعينها هي ثقافة الديمقراطية فان العراق لم يكتسبها الا على الصعيد النظري.
وعلى هذا يمكن الحكم ان العراق على استعداد لتأهيل نفسه لثقافة الديمقراطية في وقت وجيز، فمع انه لم يتخرج عن ثقافة الديمقراطية، الا انه تخرج في مدرسة الاستبداد وهذه الاخيرة هي الاخرى تؤهل لحياة الديمقراطية، ولمبادئها ومتطلباتها.
ولهذا يراد لكل الجهود التي قدمها العراقيون، وكل المواقف التي سجلوها ان تؤول الى حياة جديدة تقوم على العدل، والحرية، والمساواة، والمشاركة في المسؤوليات بعيدا عن اي من انواع التعصب الديني والتطرف المذهبي والتشديد القومي، وان تستند مجمل الفعاليات في المجتمع الى اسس ديمقراطية. واذا كان اسقاط التمثال قد انجز في هنيئات قليلة فأن بناء الديمقراطية يتطلب الكثير من الجهود، ولا سيما ان العقود الاربعة الماضية قد شهدت متغيرات فكرية وعاطفية وسلوكية، منها ما جعل المجتمع العراقي اكثر تحفظا واشد حساسية ازاء الكثير من الاطروحات، بما في ذلك ما يطرح اليوم على الساحات.
ومن جانب آخر فان النظام الديمقراطي ليس وثيقة يمكن استنساخها او بضاعة يمكن شراؤها، بل هي تتطلب جهودا مضنية من اجل بناء معادلة متوازنة بين المجتمع وبين سلطته بحيث يلتزم الجميع بالضوابط الدستورية والقانونية النابعة من مصلحة المجتمع ويمارس الجميع حرياتهم، ويعملوا بكفاءة، وتتاح لهم المساواة، ولا يجبر احد على القبول بفكرة او ايديولوجيا معينة او ان يتقبلها لقاء مصلحة ذاتية، ذلك ان الديمقراطية هي مبدأ له قيمه ومعاييره وله اساليب في التطبيق تبدأ من الفرد وصولا الى المجتمع، وان المجتمع الذي لم يكتسب المهارة على الاخذ بالديمقراطية فانه يمكن ان يمر بمعضلات معقدة، بل يمكن ان يفقدها عند منتصف الطريق.
الديمقراطية هي الحل
والديمقراطية بمبادئها واساليبها في التطبيق مخرج حيوي من كثير من المشكلات، وهي انجاز يتطلب العديد من الانعطافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا المطلب هو اخطر المطالب واصعبها، ذلك انه اذا كانت الديمقراطية قد ترددت على كل الافواه، اليوم، بما فيها الافواه المرتبكة، ودعت الى الاخذ بها كل الاطراف بما فيها تلك التي تفلت منها اثناء الحديث عن الديمقراطية تهديدات عنصرية واستبدادية فان هناك خشية مرعبة في ان نجد من ينظر الى الديمقراطية على انها في نعومتها مثل ريش الحمام، او ان نجد من ينظر اليها وكأن لها انيابا ومخالب، ذلك ان الديمقراطية ليست هذا ولا ذاك، وهي غير قابلة لان تصبح حقيقة اجتماعية على الارض الا عندما تتحول الى ثقافة في المجتمع هي ثقافة الديمقراطية، اي ان تصبح جزءاً من شخصية الفرد وشخصية المجتمع، وان تكون مبادئ في الحرية وتطبيقات لها، او ان تكون افكارا يستتبعها سلوك فردي، واجتماعي.
ومن هنا، فان رصد العقود الاربعة الماضية يكشف ان اجواءها كانت بالنسبة الى السلطة، عملية تحقيق للاستبداد والحكم الفردي في الوقت الذي كانت فيه بالنسبة الى المجتمع تجربة مريرة في البحث عن الحرية والعمل من اجل الديمقراطية… وكانت بالنسبة الى السلطة، ايضا محاولة لبلورة ثقافية التسلط.
انحسار التراث النظري الديمقراطي
واذا كان للعراق تراثه الديمقراطي النظري والايديولوجي فان المدد التي شهد فيها الحياة الديمقراطية في العصر الحديث هي مدد عابرة، الامر الذي دفع الى ظهور تيارات فكرية منذ النصف الاول من القرن العشرين تطالب بالديمقراطية وتعمل من اجل توفيرها، وهي تؤكد ان مجمل مشكلات العراق السياسية والسكانية والادارية والتنظيمية، بما فيها المشكلة الكردية ترجع الى غياب الديمقراطية، وان حل تلك المشكلات رهن بتوفير الديمقراطية.
ولكن مجمل القوى الوطنية التي التزمت بالديمقراطية او دعت اليها لم تكن تمتلك مقومات بناء الشخصية الديمقراطية ولم تستطع بناء ثقافة للديمقراطية بقدر كاف.
كما ان المؤسسات الرسمية ظلت تعمل من اجل بلورة ثقافة للتسلط، او بناء ثقافة شكلية تتخذ من الديمقراطية وجهها الشكلي مع اغفال ماتنطوي عليه من روح. وقد جندت مؤسسات الاعلام والدعاية والحرب النفسية وغسيل الدماغ ومؤسسات التعليم، والمؤسسات الاخرى للسلطة من اجل تكوين ثقافة مضادة للديمقراطية، من خلال تبرير الاستبداد وتشويه روح وتعطيل تطبيقاتها السلوكية لذ ان الديمقراطية الديمقراطية ترتكز على اشتراك كل الافراد والقوى في تحمل مسؤوليات التفكير والعمل، وعلى ممارستهم انماط المشاركة البناءة، وعلى توفير حرية الرأي والتعبير ومجمل انشطة الاتصال، وعلى تأصيل سلوكيات الديمقراطية في مجمل جوانب الحياة العامة للمجتمع، كما ان الديمقراطية تعني انهاء كل الدعوات المتطرفة والمتعصبة التي تطلقها بعض الاطراف استغـــــلالا لظروف معينة.
ان ثقافة الديمقراطية تقدم الضوابط المبدئية والسلوكية للعمل السياسي والاجتماعي للافراد والجماعات والقوى، وهي، بالاضافة الى ذلك تشكل تحصينا للمواطن من المتقولين وذوي الشعارات المستعرة من الذين يطمحون الى تسلط من نوع آخر وتحت واجهات شتى، من بينها الدعوة الى الديمقراطية تحت شعارات متعصبة، مع استغلال ترقب المجتمع الى تغييرات جديدة..
ان ثقافة الديمقراطية هي مشروع نهضوي لا يمكن ان تنهض به الا القوى الوطنية التي حملت من مشروعات نهضوية، اما تلك التي جاءت بأطروحاتها ردود افعال، فمن المحتمل ان تنتهي بمثل ما ابتدأت الى مواقف انفعالية لن تكون في صالح المستقبل.
{من المصادفات الجميلة ان تقع مسودة هذه المقالة بيد هيئة تحرير (الزمان) بعد بضع سنوات من انجازها بقلم الكاتب والاكاديمي الكبير هادي نعمان الهيتي واذ تعتذر له على تأخر نشرها فانها تجد فيها فائدة وحرارة وكأنها كتبت للتو فيما العراق يشرع بصفحة انتخابات جديدة في اطار آليات هذه الممارسة. وتقدم (الزمان) المقالة آملة ان يستفيد القراء من معلوماتها وتحليلاتها.