مكتوب أخضر

مكتوب أخضر
عائشة عطية النعيمي
تطلين أشجار فستق تفاجئ الأحداق بين المنعطفات. خضراء داكنة تحشو الفراغات في لوحة المدينة المسترخية. مثلها أنت خضراء مدهشة. دبيب أمالي كان أن أصبح متلازمة الفكرة والطريق لك. كنتُ الألم، وكنتِ نشوة التملصِ منه، ثم غدونا بركة تتسارع أمواجها عبر حصاة التحرش لأعماقنا. دربُنا كان الشارعُ الممتدُ تحت قنطرة القطار الأخضر، كان يحملُنا من ضفائرَ جدلّناها على عجل وعلى أبواب العمر يلهث في اللحاق بنا. نمرغ في اكتشاف أنف الدهشة. هناك سنابل على الطريق، وهي خضراء أيضا. خضراء جداً. أعلم أنني كنت ومازلت أشعبية الفضول. تستفيق لدي حليمات التذوق لأدعس إحداهّن معتصرة حليبا ًابيضَ لزجاً. عيناكِ فقط كانتا تشتركان بهذه المؤامرة المحاكة ضد تلكم السنابل التي تاهت عن موطنها، فحلت رحالها مطمئنة في المكان المحصور بين مركز شرطة الغزلاني ومتوسطة الشعب،كاسرةً اللحام مابين السلطة والعلم. يداك تترفعان بنعومة من أن تندسا في قطع عنق كائن حي حتى ولو كان سنبلة مهجرة.
كنت احتار في كل هذه الضوضاء الهادئة الساكنة في عينيك. أتعبأ فيهما حتى أعيا ثم يزداد استغرابي وأنت ترمين منافذ وجعك أمامي، كمتعبد أمام قديس، عندها يصيبني دوّار تبادل الأدوار ثم يتعقد المشهد عندما أرفع رأس النّدية لأصب كل ماتعلمته منك أمامك.
في ذلك العام كنا نتأبط ذراع أحلامنا بهلع، فعطب ما علق على الدروب.تنتفض منه بخوف أقدامنا. الشوارع بدأت تضيق بأحلامنا، وحديقة ناظم الطبقجلي تعدم كل يوم زهرة من شجيراتها، وبدأت الرمادية ترتدي ملابسنا. كانت كفي تضغط على كفك لتتأكد من أنك مازلت تقبضين عليها بأصابعك الخمسة، وان نبض شريانك مازال صاخباً باطمئنان. كنا اثنتين، بل قولي كنا مئات ننحشر في صندوق نملأه أحلاماً تاهت عنها عيون الخلق ألف ليلة وليلة. تفرش لنا لياليها ونحن عائدتان في الطريق، ست الحسن تسير بغنج وراء الحمال الذي سيغدو سيد القصر، وهناك عجوز شمطاء تراقب وتتعاقد مع الشيطان. لاأذكر معك ملامح شارع أو حي بل عالم صنعناه من عيون الجاحظ المستشعرة للنادرة والطرفة. كان الطريق يسير بنا على عجلة خرافية تحذرنا منه أجاثا كريستي، ويحدثنا فيه بإسهاب فيكتورهيجو، ويدوخنا بتحليلاته تولستوي.كم احن لتلك العجلة. للشوارع رائحةً تغنيها عن مدلولات الأسماء الناشفة. نعود من احتفالية مهرجان الربيع، وكل تتوج الأخرى ملكةً على موكبِ تختاره. كان الشتاءُ قاسياً حد الروعة والصيف صيفاً بلا جدال. يفرضان حكمهما على الجميع، لكنهما يتركان لنا الطريق منطقة حرة مفروشة بما يستوحيه مزاجنا من ألوان. لاأدري متى وكيف غدا الطريق طريقاً والشتاء تنصل من قسوته، والصيف ضعُفت قيادته وإذا الأحباب كلّ في طريق ؟ لم أبحث عنك في قاعات كلية ألآداب، ولم أستعن بأجاثا كريستي. علمت أن الشوارع أصبحت مثقلة بالأسماء، وأن حذاءنا الذي كان مختوماً عليه لايُرمَ قبل سنة دراسية على استخدامه . فقد أثاره على الدروب، وان السندباد تجاوزت عليه مجندة لقيطة وأمرته أن يحرق مراكبه ليصبح نجماً عارياً في معتقل أبي غريب. لم ابحث عنك. قالوا انك في أمستردام أو ربما في بروكسل. اعذريني فانأ لاأفهم في الجغرافية ولا أحفظ أسماء المدن الخارجة عن طوق خارطة ألواق واق والذنب ذنبك، فأنت لم تذكري أن السندباد تاه في جزر تدعى أمستردام أو اختطفه طائر الرخ إلى بروكسل. تحدثت ذات ليلة مع نجمة لمعت فوق رأسي، وكم كانت خيبتي عندما وجدتها طائرةً متلصصة على النجوم، فأنا لم أعد أثق بالنجوم كثيراً.. هل في بلدكم نجوم ؟ وهل تجلس الجدات على أعتاب الدور تنقي حبوب الحنطة من شوائبها ؟ للأمانة ماعادت عندنا جدات البارحة سألتني أحداهّن لم تكن رفيقة طريق عنك متخابثة. قلت
عمن تسألين ؟
قالت
عن تلك الفتاة ذات العينين السوداويين والفم الفستقي. أجبتها مكابرة
كل صديقاتي هكذا
ولم تعلم هذه الماكرة انه لاملامح لك. لأنك كنت جوىً وطائر حنين،أنا لاأستجدي ملامحك لأنني لاأعرف حساب الخطوط والآثار المرسومة على جسد الزمان. ألا تعلمي أن الفاسدين سرقوا حتى هذه ألآثار وباعوا الزمان في مزاد لايملكه سواهم ؟ يقال أنك أصبحت أما وأن لك من الأولاد أربعة. هل تترنحين معهم في شوارع مدينتهم ؟ وهل سيُمنح السندباد سمة دخول ليؤثث شوارع مدينتكم بصقور الحضر ساحة صقور الحضر غدت ركاماً لمصرف متهدم ؟ وهل ستمنحين أولادك فرصة التخفي بالدخان الأبيض وراء سيارة الدخانية كما كانت تطوف بنا مساءً؟ حيث لم يكن لنا عدو سوى البعوض سأحزن كثيرا إذا لم تسمحي لهم بذلك . هل تعلمين أي نوع من الدخانية تستطيع أن تدوخ البعوض الساكن في أرواحنا ؟
زرت مؤخرا طبيباً اجتماعياً. قال متأسفاً
أنت معرضة للانفصال عن الواقع. بعد أن علم اختلاط القياسات الحسية لدي، لقد أصبحت أشم رائحة الكذب من كل القنوات الكلامية، واستبق الأحكام وأصاب بالصداع عندما يمر يومي هادئاً. ثم فسر ذلك إن دماغك بدأ يصاب بسوء الفهم للمؤثرات الخارجية، فهو ينصّب أدواته الدفاعية في مواقف خاطئة ..
لقد فلتنا من غواية الهاتف النقال، فلقد كنا نرفض كل من يحاول أن يروض ذلك الحصان المتوحش فينا. أليس كذلك ؟لأننا مهووستا ورق.أنا أضع وجهي على الرسالة وأراك كما يحلو لي.أجلس دوماً أمام شباك بلا فضاء. منتظرة ساعي البريد الذي لن يصل أبدا، وأعلم أن الطوابع قد انتحرت بسرية معلنة، وأن نجومها بحثوا عن مصادر أخرى للشهرة، فملكة الحضر أصاب قدميها التصحر، ويقال انه سيعاد تصنيعها كأقداح شاي بعد أن يعاد معمل زجاج الرمادي المتشظي إلى العمل، أما حمورابي، فقد ظهر ب new look في ملصق الانتخابات المتنافسة على بوابية محكمة أربعة إرهاب، بعد أن قدم مسلته رشوة لأستبعاد خصومه من التشريعيين الجدد.
ها نحن نتحدث ثانية في طريق، ولكنه ليس طريق القطار الأخضر، فالقطار لم يعد أخضرَ والقنطرة غدت نقطة عسكرية. لم ألوِعنق سنبلةِ لأن مدينتنا لم تعد تنبت السنابل.
قال لي طبيبي البارحة
لقد تفاقم عندك تشابك الأمور، فأنت لاتميزين بين الأحياء والأموات.
ما أسعدني بهذا فمكاتيبي لم تعد حبيسة الضلوع، لكنها سترفرف في الأثير بلا طوابع ولا حدود.

/6/2012 Issue 4217 – Date 4 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4217 التاريخ 4»6»2012
AZP09

مشاركة