مكاتيب غناء آيدول
علي السوداني لستُ من صنف الأوادم التي تعشق الشاشة الصغيرة، مثل مدمن معطوب كبده، وانزرعتْ قدّامه، كأس عرقٍ سمينة، لكنَّ قوة الاعلان هي التي سحلتني كي أزرع مؤخرتي فوق كرسي الانتظار. ثمة برنامج، تسميه الإفرنجة المستجدة عرب آيدول وأحسبُ وحسبتي ليس باثمٍ، أنَّ تعريبه وفق مدرسة قياس البصرة وما حولها هو محبوب العرب
شتلتُ عيناي بالشاشة، على مدى جمعتين وسبتين، ونطرتُ الثالثتين بشوق كاسر، وكانت متعتي تتناهشها مسألتان، الأولى هي إنني غالباً ما كنت أستمتع بأصوات شابة تعيد قراءة وصقل وتلاوة وتجويد أغاني الزمان الجميل، المنداحة فوق حناجر أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز وعبد الوهاب وناظم الغزالي ووديع الصافي وإسمهان وليلى مراد وصباح فخري ووردة الجزائرية ونجاة وشادية، أما الثانية فهي انغماسي القوي في الجانب الدرامي من البرنامج، الذي صارت تنمو قصصه وحكاياته وقفشاته ونكاته، الثقيلة منها والمهضومة، حتى كادت تنافس الهدف الأول للبرنامج، الذي هو اكتشاف أصوات عبقرية جديدة، وضخّها صوب مشهد الغناء والتطريب والسلطنة والتأمّل، بعد أن صارت حنجرة المغني الحديث، تنام في عضلاته وقفزاته فوق دكة المسرح، وصوت المغنية الجديدة، يلبط ويسيل مثل سمكة بنّية زلقة، في مفتتح الساقية المشعة السائرة بين النهدين الفائرين، ولا بأس من ظهور السرّة وتدويرة الفخذ، وتزغيبة الإبط، ونمو الشفتين مثل حبة كرز أحمر. عراقياً، كنت أظنّ أن رحلة خميسية مبروكة لبرنامج عرب آيدول، الى مدينة الثورة شرقي بغداد العباسية، سينتج عنها اكتشاف مائة صوت وصوت فذّ، في حفلة عرس واحدة، لكن شاشة الغناء والطرب العراقي، يبدو أنها سائرة الى الانقراض، بسبب هوى عمائم ولحى كذّابة، ألغت مهرجان بابل الدولي الكبير، بعد فتوى تحريم الغناء والرقص الاستعراضي على دكته العملاقة، في نفسه الوقت الذي أنتجت فيه هذه العمائم الدجّالة المنافقة، واحدة من أفسد وأردأ الدول القائمة فوق الأرض. العنصر النسوي في باب غناء أهل الرافدين، يكاد ينقرض، وربما استثنينا من المشهد، ظهور المغنية العراقية الكردية برواس، وحتى هذا الظهور المريح الذي انرشّت على محيطه، أعطار وروائح السياسة، لم يكن حضوراً منتظراً قوياً بباب المنافسة، حيث المغاربيات والشاميات والفرعونيات، يجدن الغناء والتطريب، على ألف سلّمٍ وسلّم.
في السياسة، قدّمت المطربة أحلام، ابنة بلاد ما بين النهرين برواس الحلوة، على أنها قادمة من أرض الجنائن المعلقة، ثم علا الحسّ القومي لأحلام، فاقترحت على برواس أن تقدم نفسها على أنها من دولة العراق، وكردستان جزء لا يتجزأ منها، وكررت قولتها القوية هذه أربع مرات، لكن الأمر لم يعجب المغني راغب علامة، المسوّر اليوم بشائعة الوزير والوزارة، فنطّ من شروده المؤقت، واتهم أحلام، المطربة المشاكسة المقبولة للعين وللقلب وللأذن، بتهمة إلقائها محاضرة سياسية فائضة. في باب كردستان، وفي معمعة حضورها، وخلطة السياسة بالفن وربما ب الاقتصاد طلبت المغنية الحلوة المغناج المريحة للنظر نانسي عجرم، طلبت واشتهتْ من برواس الطيبة التلقائية كما تلميذة ابتدائية، أن تعلّمها اللغة الكردية، من أجل أن تقوم ننّوسة بانتاج اغنية كردية تسيح من فوق حنجرتها المشعة حتى الآن. حزنتُ أيضاً ــ مع خلطة فرح ملتبسة ــ على خروج مزمار البرنامج، الأسمر البصراوي، أبو الصوت الراكز العريض الشاسع المساحة والتحرير والتسليم والتطريب، أسامة الحلّاق. أذهلني صوت هذا الغزال المغزول، وتلوينات حنجرته الطرية، وان كنت تمنيت عليه، أن يصعد من البصرة شمالاً، كي يصل الى خريطة أمّ البلاد، بغداد العباسية، دارة المقامات والبستات المذهلة، لكنه على ما بدا لي ولأذني ذات الصيوان الشاسع، قد فضّل النزول جنوباً، حتى كاد المنصت اليه، يتوهم بأن الفتى المغني المطرب، انما هو واحد من أهل الكويت، وأغنيته كانت مشتقة من منظر البحر وغنائه وسامعيه، من صيادي اللؤلؤ والمرجان وأصداف الحظ والنعمة والحلم، وانتقالته الأخيرة التي زرعته بباب اليمن السعيد والمكلّا وهوى زنجبار، فصار العراق والبصرة، أثراً باهتاً، ووشماً فائضاً فوق ظهره.
شخصياً، راهنت منذ البدء، وبقيت حتى الآن، قاعداً مستمتعاً منصتاً لذلك الصوت الشاميّ الأوبرالي المعجز، صوت فرح الدمشقية، ولأنّ قياسات البرنامج، كانت تهاوت منذ حلقته الحاسمة الثانية الصافية المصفية، الغربال المغربلة، وتم وضع مصائر المغنين، في حلوق الهواتف ورنّاتها وعكرة بوصلاتها، فلقد وضعت كفّي على قلبي، وخفتُ على مشوار فرح الجميلة، حيث التلفونات في دمشق وضواحيها الآن، منصوبة ومؤقتة على رنة مدفع كاسر، وترنيمة طفل مفتقدة، وشهقة أمّ مرتعبة. بقي من المشهد، الناقد أبو عيون الصقور الصائدة، حسن الشافعي. حسن في دورة البرنامج هذه، لا يشبه حسن العام الفائت. لقد بدا الفتى الفرعوني، حميماً رحيماً مسالماً، بنظّارة سميكة خلّصت وجهه من بعض غلظة، وعظيم جدّية. أزيد ظنّي هو أنَّ الأمر يتصل روحياً، بخاتم الزواج وتداعياته التي رسمت على وجه حسن، قناعاً أبوياً، يسرّ الناظرين والمتسابقين والمتسابقات، ويجعلهم ينامون ليلهم الشحيح، يغنّون الياليل والياويل والياعين، وأرجلهم طامسة راسية في سطل ماء بارد عملاق.
/5/2013 Issue 4497 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4497 التاريخ 7»5»2013
AZP20