مكاتيب عراقية ـ لعبة من لعبات عبد الستار ناصر ـ علي السوداني
سأكتب الليلة مكتوباً، أوّلهُ أوشال السنة المرقمة ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون، التي شهدتْ شتويتها الباردة، نزول عبد الستار ناصر، على عمّان. كنتُ سبقته إليها بطفرة علوّها خمس سنين، هاجّاً شارداً شالعاً والبلاد بظهري، وجنطة زرقاء نصّ عمر بيميني. قبل البارحة بليلة مثلوم منها طبلة مسحّراتي، مات الولد المشاكس الوسيم ستّوري من دون إشارة أو مقدّمة أو نغزة تُشتمّ منها رائحة موت يقين. مات الزوبعي في كندا الباردة، وكنتُ أشتهي كتابةَ إنَّ الفتى قد مات بمنفاه الكندي، لكنني وجدتُ أن مفردة المنفى، قد صارت مبتذلة ودونية، إذ خلعها كثرة من الصحب، على أجسادهم المهدودة المهزولة، إبتغاء بطولة لم تُقتَرَف أبداً. شخصياً، لم أرَ ستار ليلةً يبكي أو ينتحب، حتى في المواضع التي تحلبُ الدموع السواخن من بطن العين. من صفات الولد المفقود، أنه لم يتورط أبداً، في لعبة حلّ وفك طلاسم الأسئلة الضخمة. عصرية رائقة، كنتُ أنطر ستّوري بمقهى السنترال المزروعة في صحن عمّون الوسطى. دلف ستّار وكان يحملُ بيمينه، واحداً من كتبه، وهي عادة لم تفارقه حتى النهاية. بعد ثلاث رشفات من فنجان القهوة، وشفطة دخّان قوية، فتح الولد الكتاب واستلّ من جوفهِ، ورقة أنيقة مقصوصة من صفحة جريدة، ولوّح بها قدّامي، على أنها واحدة من مبهجات الليلة. كانت المقصوصة هي مرثية ساخنة كنتُ كتبتها من أجل راحة روح صديقنا كمال سبتي. كان عنوان المرثية هو مات كمال سبتي.. ألشعراء خائفون قرأ أبو عمر وناصر وياسر، تلك المقصوصة العزيزة، ممسرحة وملوّنة بصوته الحنين، وكنتُ أنا منتجها، أنصتُ خاشعاً خائفاً متضعضعاً. أخذتُ مقطوعة الجريدة منه ودسستها في حقيبتي الأزلية، وقبل أن نفتح باب الطاولي العظيم، مازحني ومازجني ستوري بمخيال طفولة غير مفضوض، أن أكتب له مرثية حلوة، مثل مرثية كمال حال موته. لم يُدخلْ عبد الستار، كثير تبديل وتغيير على سنينه المشعة في عمّان. مقهى حسن عجمي بحيدرخانة بغداد العباسية المريضة، صارت هنا مقهى السنترال. حانة المرايا في مفتتح الكرادة هناك، تمَّ استبدالها بحانة الشرق وسط عمّان، على مبعدة شمّة طيبة من فلافل هاشم. ألطاوليّون والدومينيّون والوراقون من صحبة بغداد، صار نصفهم في عمّان، وما تبقى منهم، حلّوا على دمشق والقاهرة، وأمصار أخرى كان بمقدور الفتى ستار، أن يصل إليها، بوساطة سيارة رخيصة من كراج العبدلي، وجهتها دمشق، أو طيارة ممكنة، نزلتها بعد ساعة، ستكون قلب القاهرة. كان عبد الستار من صنف البشر الذي يفرش لك الأرض على وسعها، بالذهب وبالدنانير وبالسفر وبالأحلام الجسام، من دون أن يخلّف في قلبك الرهيّف، ندبة شكّ في أن بشارته تلك، ليست ثيمة مقترحة لواحدة من طوال قصصه، أو من قصارها. عبدالستار ناصر، مثل عبد الأمير جرص، كلاهما يشلعان قلب من يشتهي رثاءهما. عبد الأمير مثل عبد الستار، مات بكندا، وترك خلفه، تأريخاً مبهجاً من الشعر العفيف ومن الضحك، لذا فشلتُ يومها في منع نفسي من الضحك، وأنا على عتبة السطر الثالث من مرثيته الماجدة. هذان حقّاً صديقان طيبان ضحّاكان، لا يكلّفان قلبي إلّا وسعَهُ.
ستّوري صديقي سأنطرُ زمناً آخر، كي أكتب عنك مرثية حلوة، تماماً مثل تلك التي اشتهيتها من قبل. بصراحة مبينة، وبيني وبينك ستّوري الوردة، أنا حتى الليلة القائمة، لم أتيقّن من نبأ موتك. ربما كانت هذه الطقطوقة كم كان صوتك جميلاً ــ واحدة من لعباتك القصصية المدهشة، بعدها ستظهر على الناس المنذهلة الدائخة بكأسٍ عتيقة، من مخبئك البعيد، ضاحكاً ومنتشياً وملوّحاً للصحب أجمعين، أن اجمعوا أيها الكادّون والكادّات، كلَّ ما كتبتم عن غيبتي، وصفّفوه في كتاب ثقيل سيصدر بصحّتي، قريباً جداً.
AZP20
ALSO