مكاتيب عراقية خمسون جميلات
علي السوداني
ومن الكتب ما يركب فوق قلبك، ويخنق صدرك، اذ ما كدتَ تقرأ صفحاته الأُوَل، حتى ترفسه محفوظاً الى زمان الصبر والتصبّر، ومنها ما ينزل عليك، عسلاً وراحة، مثل نسمة عليلة، تثلم من دبق ريح شرجي البصرة، في عصرية قيظ ساكت . تحت يميني منذ يومين ونحو ليلة، كتاب خمسون عاماً في الصحافة ومؤلفه هو الصحفي الذي ينقش الحروف بلغة الأديب، الماهر العارف الموهوب، زيد الحلي. الكتاب كان من الصنف الثاني الذي أتيت عليه قبل ثلاثة سطور من الآن، وهو من النوع الذي تقرأه، ومع كل عشر صفحات، تأكلها عيناك من جسده، تركض شطر نهايته، فتحزن لأنك ستنتهي بعد قليل من اتمامه، لذا عليك وعليكم بقراءته، قليلاً قليلاً، حبّة حبّة، زنقة زنقة، مثل أكلة طيبة عزيزة ممطولة قدّامك بماعون صغير. ما أعانني على انجاز قراءة الكتاب، بسرعة قياسية، تقع حتماً خارج قياسات التنبلة خاصّتي، هو ذلك الاهداء المذيّل ببصمة زيد، والذي صرفتُ عليه نصف سطلة دموع، وأربعة باكيتات سكائر، وما تبقى من احتياطي قهوة العائلة . في هذا الكنز المبين، ثمة الكثير مما قرأتُ وسمعتُ وشاهدتُ وربما كتبتُ. بعض وقائع الدفّتين، كنتُ سمعتها من على موائد ثقة، وأُخرى أدركتها، وثالثة، تلذذت بها، لكنني زرعتها في باب القيل والقال، حتى جاءت، مشعّة موثّقة راسخة بائنة، قائمة على بينونة وبيان. قصص وحكايات وعجائب، لطائف وملح مملوحة، ظرائف وتنكيت، واقعات حلوة، وأُخيّات مثل علقم، امتدت على طول وعرض الكتاب، رسمها زيد الذي عرّش فيها على خصلتين حميدتين ثمينتين التواضع والاخلاص، وهما مشتقتان من جذر التربة التي أنبتته، ومن وجع المهنة التي أدركته، فكان البيدر عالياً، والحصاد طيّباً، حتى مع دفتر خسارات غليظ. من سيرته الحسنى، أنه لم يدخل مزاد النوح والمظلومية، ولم يكن مثل ذاك الذي كان حارس مرحاض، أو كانس مرامد من أعقابها، أو مصفّف حروف ترتّق شقوق السروال، فلما انثقب قاع السفينة، وصار الشقُّ أعظم من الرقعة، رمى الولد الشاطر نفسه صوب أمواه الجرف، وصاح بالقوم يا قوم، وحقّكم، لقد كنتُ معترضاً ومعارضاً، وكتبتُ مرة، قصيدة مزيونة منثورة، جئت فيها على زفرة نيوترونات، من شهقة كاتدرائية صدئة، واستطراقات ضفدعة في صندوق بريد، وساندويجة نحاس، ترفرف في حلق تنّين، وصبيّة من هيولى، تشخب دم القمقم، وأقوات مرمّلة، وسرابيل مسربلة بسخام ديموزي
الأنا ــ أعني أنا الكاتب ــ كانت حاضرة بقوة، لكنها من منزلة الأنا الخلّاقة المبدعة، غير المنفّرة، بل هي من بمقدور راميها وقائلها، أن يحفرها في كلّ صفحة من هذا السفر، من دون أن يتبعها ــ وقاية أو تقية، أو الثالثة التي لا تُقال ــ بجملة أعوذ بالله من قولة أنا. حكايات لذيذة، ومصادفات قدرية مسعدة، هيّأت زيداً، ليكون مثل عكازة أعمى، استدلّ بها الطريق، سعدي الحلي وياس خضر وحسين نعمة وعلاء بشير وآخرون، الكتاب رسمهم، فأحسنَ رسمهم . ستجد أيضاً في باب محاسن الكتاب، اعتذاراً عن هذه، وعذراً لتلك، وصفحاً، وندماً على حماقات وشهوات مزروعة بباب أول الفوران ومنها مقترف تضييع وسام العادي الذي سترون حكايته الموجعة، تنام على حسرة سمينة ببطن الكتاب.
/4/2012 Issue 4182 – Date 24 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4182 التاريخ 24»4»2012
AZP20
ALSO