مقهى الشرق والكوميديا السوداء
انور عبد العزيز
الموصل
اصدار جديد للمبدع عبد الوهاب خليل الدبّاغ (1956) في ق . ق . ج وسبق ان صدرت له مجموعة سابقة من نفس التجنيس عن (دار الهلال بدمشق) سنة 2011 وبعنوان: ريش الديك…
(مقهى الشرق) من اصدارات الموصل لسنة 2014 في او من ثمانين صفحة من القطع المتوسط بتصميم غلاف جميل معبّر للفنان عمر طلال . حوى الاصدار سبعاً وخمسين قصة قصيرة جدا انهاها بـ (تغريبة اندلسية) مهداة الى عبد الرحمن الداخل (الرجل الذي اسس لوحده في الغربة.. دولة) وجاءت التغريبة كاهداء بشاعرية نثرية وليس مما يمكن ان يحسب على فنون القصة القصيرة جدا وحتى انه لم يدخل (التغريبة) في فهرست قصص المجموعة…
ليس جديدا ان نذكر ان القصة القصيرة جداً صارت واصبحت وترسخت كفن من فنون السرديات القصصية بل وحظيت بتجنيس تميّزت به بعد ان اقرّتها غالبية من النقاد ومعها الذائقة القرائية للمتلقين.. وليس جديداً ايضاً ما اتفق عليه كتابها ومعهم النقاد والقرّاء على ان ق. ق. ج. هي فن اختزال القول، فن الاقتصاد في الكلمات الى حدّ كبير.. وانها – وحسب التوصيفات – اشبه ما تكون بومضة او نتفة او اضاءة سريعة او توقيع او مفاجأة لغوية او التماعة، او… او… وعديد من توصيفات تتجمّع كلها في معاني التركيز والاختصار والتكثيف لاصعب الحوادث باقل القليل من الكلمات… ثم هي في عمومها من المتضادات وتنافر الحالات الانسانية ومن غرائب المواقف التي مهما بدت كاريكاتيرية، فان الهدف منها ابداً ليس هو السخرية المجرّدة، بل كثيراً ما حوت فكاهياتها صوراً موجعة اليمة لانسان هذا الزمن مع اقداره وصراعاته المؤسية مع الناس والحياة عموماً…
ومن افضل ما قيل في توصيفها ايضاً انها (فن الضربة).. اي ان كاتبها سيفاجيء القاريء في اخر كلمة او كلمتين بما لم يكن يتوقعه من بدايات القراءة، وان فن الضربة هذه – وبعنصره التشويقي – هو ما سيحقق للقاريء متعته، وهو ايضا سيظل ميزة – بمهارة القاص – لهذا الفن له خصوصيته ان عرف كاتبها كيف يستثمرتاثير ضربته النهائية مع حرصه على ان ” البدايات ” لها اهميتها ايضاً في فنون القص وفي كل الاعمال الادبية ومع كل اجناسها المختلفة وكما اهمية النهايات
استهل الكاتب مجموعته القصصية بصفحة متفرّدة لها خصوصيتها بالقول الاتي (افتتح مقهى الشرق بقصة قديمة فيها كلمات قليلة وحوادث جسيمة وارهاص لميلاد امة) ثم اعقب قولته بالايات الكريمة (الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل . الم يجعل كيدهم في تضليل . وارسل عليهم طيرا ابابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول) سورة الفيل .
اول انطباع يتشكل لدى قاريء المجموعة – وحتى لعناوين قصصها – انها بمجملها او غالبية كبيرة منها هي فضح وتعرية لحياتنا الانسانية المعاصرة وبكل ما فيها من غرائبيات لا معقولة تتجاوز كثيراً اكثر الغرائبيات حدّة وتشظّيا مما قرأناه في سرديات ادبية كثيرة وفي مختلف مظاهر وظواهر حياتنا سياسياً واجتماعياً وثقافياً وتريوياً واقتصادياً بل وفي كل مفاصل هذه الحياة المضطربة المتلاطمة المهزوزة، لم تسلم من قلم القاص الحادّ بتشريحه وكشف ملامح الخوض والتخبط والفساد والطمع والحسد والغيرة والانانية والكراهية… حتى المخفيّات من كل هذه المفاسد والشرور.. الكاتب في مجموعته قنّاص ماهر للعيوب البشرية بسخرية مرّة اضطر اليها – وما كانت من اهدافه كأديب – ولكنها الضرورة وحالة اليأس او بما يقرب منه ومن خطورة اقتراب موت ايّ امل – هي ما جعلته يلتجيء لحدّته وقسوته بعيداً عن أيّة مجاملة او محاولة لاخفاء العيوب التي باتت اشبه ما تكون بقروح وجروح وثآليل وكدمات وشروخ وتقيّحات في وجه زمننا وناسه مما جعل منه زمناً شأئهاً وبكل استحقاقات التشويه كسخام طاغٍ اضاع كل نقاء…
ان ما قرأته من سخريات فاضحة يمكن لي ان اضعه فيما يسمّى الان نقدياً بـ (الكوميديا السوداء).. وايّة كوميديا مرّة عندما نواجه كل هذا السيل الاهوج من غياب العقل والرحمة والعدل والضمير ومما جعل حتى من تسمية (شريعة الغاب) وبكل شراستها ووحشيتها مسألة تبدو هيّنة قياساً لما نعايشه من واقع فعلي جمع التراجيديا والكوميديا في خانة واحدة في هذا الوطن الجميل والمنكوب…
من مجموعة هذه القصص نقرأ وبعنوان: (تفكيك هيكل): (عاد المراسل الحربي من ساحة المعركة في اجازة، فاوى الى مقهى المدينة المكتظة بطبطبات الدومينا وصرخات المشجّعين واعتراضات اللاعبين، وتماهت الفوضى مع برامج التلفزيون وسحائب الدخان وآهات ام كلثوم، وضاعت نشرة الاخبار.. خلع المراسل حذاءه ورماه فوق رؤوس الحاضرين وحطّم الشاشة) ومن (في بيتنا رجل): (التجوال ممنوع، وشبكات الموبايل مقطوعة، والجندي المنضبط يوجه سلاحه نحو شبّان يتوسلون للعبور باتجاه ساحة الالعاب، اما انا فكنت البهلوان الذي عبر الحاجز الكونكريتي تدفعني ضحكات الجندي وايقاعات النشيد الوطني وقصاصة ورق احملها في جيبي تزن جبلاً !! وفي (البرمائيات): الضفدعة التي سخرنا منها عندما انفجرت وماتت بينما كانت تشرب مزيدا من ماء الطاسات كي تصير بحجم البقرة.. تلك التي قرأنا حكايتها في المطالعة المدرسية ايام الستينيات.. انجبت جبلاً من الضفادع شفطن انهاراً من المياه واصبحن بحجم الداينوصورات.. ولم ينفجرن.. او يمتن.. او حتى يصبن بالخجل !!!) ومع (خط الاستواء): (اقسم العجوز الهرم بالله ثلاثا ان الاسد الذي صارعه ليلاً كان ذكراً.. حتى انه قبض على فروة رقبته وقام بسلخها لولا ان حيواناً مجهولاً انقض على قدميه مما ساعد على هروب الاسد ! لم يكتشف العجوز هوية الحيوان الا حينما تعامدت اشعة الشمس على ساقيه العاريتين وهو ما زال راقداً تحت الشجرة).. ونقرأ في (طيور الجنّة): (كنّا اطفالاً وكان المعلم صنماً شامخاً وهيكلاً ضخماً.. يستشيط منا غضبا ويعاقبنا حين لا نلتزم بالوقوف له احتراماً.. ذات مرّة انفجر جدّي ضاحكا ونحن نركله بكرة القدم فوق رأسه ونطيح بعقاله.. والاحلى من ذلك انه داعبنا وراوغ الكرة بين اقدامنا.. يا الله ! ما اضيق قاعة الدرس.. وما ارحب ازقتنا الضيّقة المتهالكة) ومن الجميل ان نقول ان القاصّ قد وظّف ما في ذاكرته من زمن الطفولة والابتدائية ليعرض لنا من خلالها درساً تربوياً عن ضيق بعض طرائق التعليم قياساً لدرس جدّ امّي من زقاق فقير ومن غطرسة بعض المديرين الكبار وسلوكهم التسلطي الضار على مرؤوسيهم في (نادل) تراءى لي مديرنا الجديد كبير القدم وديعاً سمحاً خدوماً كمثل النادل الطيّب المطيع الذي يقدّم لنا صباح كل يوم اقداح الشاي اللذيذ في المقهى العريقة.. كنت حقّاً سعيداً برؤياي.. ولكن لم يمض يوم على القادم الجديد او بعض يوم… حتى كنت اول النادلين.. لقد خذلتني الرؤية!!!) ونتابع في (حرب باردة): الدخان يملأ ساحة المعركة والحماس والترقب على اشدّه والقتلى من الجانبين وزراء وجنود وخيول وفيلة.. والناجي الوحيد هو الملك الابيض.. والطريف انك لم تجد قطرة دم واحدة.. بل اقداح شاي وفناجين قهوة واعقاب سكاير !!) ومن ترهات مشاغل البعض مع الدومينا وتضييع الاوقات لساعات طويلة ومع ضربات قطع (الازنيف) الانفعالية: حسم (الدوشيش) اللعبة فانتفض الخاسرون وقلبوا الطاولة على رؤوس الرابحين فكانت فوضى عارمة لم تشهدها المقهى العتيقة من قبل وامتعض الروّاد وردّدوا: عيب يا جماعة والله عيب.. غير ان ارقام (الدوسي والدورجهار والبنج دو والحبّي بياض و… و…) استمرت تلعب ادواراً حاسمة في انتفاضات لاحقة..! وننعم نظر القراءة في (توم وجيري) مع رمزيتها الواضحة والمكشوفة: (عبثاً ضاع الوقت وتبعثر المتاع بينما كنت اطارد الفئران المذعورة بين جحور البيت اقذفها عن بعد بشتى انواع الاحذية.. كنت والحق يقال اكثر منها ذعراً.. يا للسخرية ! لم اجرؤ حتى على تركيب الطُعُم في مصائدها المقزّزة.. لم اقتلها بالسمّ اشمئزازاً من تفسخها وهي ميّتة ربّما في مكان مجهول، او ربّما فوق او تحت سرير النوم، ولم يتبق لي من حيلة سوى السماح للقطط المشاكسة بالدخول الى بيتي لتمارس معي – هي الاخرى – لعبة العبث وتحطيم المزيد من المتاع !!!).. وعن الشرّير في (تأبط شرّاً): ما احلاه يبديء فرحاً حين يراه.. يجامله ويتحمّس في لقياه.. لما علم بموته لم تسعه الارض.. اسرع الى مجلس عزائه.. يتأمله.. يتراءى له عفريتاً يتصاعد مع خيوط الدخان المنفوخ مع انفاس المعزّين يملأ جو القاعة.. يطالعه في وجوه القوم وهم يحتسون فناجين القهوة المرّة وما هي بمرّة !!! لقد اخفى فرحاً عامراً يحذر انفجاره.. ما احلى فنجانه.. !) وعن ضياع الاندلس في (كان يا ما كان): يحكى ان الشاهد على عصره.. تمرّد على صمته.. وأقسم الا يعطل التاريخ فكتب يقول: في الاندلس، قبل الف عام، وفي عصر شنجول تحديداً، اسقط النظام الشعب، فهتف الشعب باسقاط النظام، وما بين السقوط والهتاف، والهتاف والسقوط، صار الشعب شعوباً، وصار الوطن اوطاناً، وصار الاندلسيون برتغالاً واسباناً)… ومن مفارقات سخريات الحياة ومتضادات حالاتها وتوقعاتها وامانيها الخادعة نتحسس الم الفرّاش وحزنه رغم ضحكته في (السيّد الفرّاش): بينما كان المدير يلقي كلمته المعتادة في حفل افتتاح السنة الدراسية الجديدة يؤكد خلالها على قيمة العلم وانتظام الدراسة والمكانة المرموقة المنتظرة للتلاميذ المبدعين في قابل الايام.. كان فرّاش المدرسة منزوياً يمصّ سيكارته.. ويغصّ ضاحكاً… !!) وعن حسّاسية التعامل العادل مع التلاميذ الصغار ومدى ما يتركه غياب العدل في نفوسهم ينبّه الكاتب المعلمات والمربيات عموماً على الحذر من اي تفريق بين تلميذ واخر ولما يسبّبه من جروح نفسية تختزنها ذاكرة هؤلاء الصغار وهم في اعمارهم الغضّة لسنين قابلة وكما في (الست هانم): مازلت اذكر السيّد المدير يوم القى علينا في تحيّة العلم موعظة في سيرة الظلم والظالمين والعدل والعادلين واثر الميزان في سعادة العالمين اجمعين.. حينها غمرتني فرحة عارمة لم تكدّرها الا ابتسامة زميلي ابن الست المعلمة.. تلك التي تركت في نفسي عقدة بقيت اشكو منها حتى اليوم.. هي اذاً الذكرى الاليمة المخزونة في الذاكرة والتي لم تستطع السنون – ورغم ابتعاد عمر الطفولة – محوها كتذكارات حزينة…