مقدسات الربيعي والخروج من بيت الطاعة
نوزاد حسن
أربيل
ربما يكون كتاب الخروج من بيت الطاعة لعبد الرحمن مجيد الربيعي بصفحاته الاربعمئة كتابا ضخما اكثر مما يجب..لكن القراءة الهادئة للكتاب ستكشف عن سر ستيني يربط ادب جيل الستينات بمجمل الثقافة العراقية التي لم تحدد ملامحها جيدا حتى هذه اللحظة.لذا سيكون صعبا ان نفهم كتاب الخروج من بيت الطاعة،كما اننا سنواجه صعوبة كبيرة في اكمال قراءته لانه-بحسب كثير من القراء المزاجيين-تناول تجربة الروائي القصصية والحياتية وتداخل هاتين التجربتين بحيث صارا كيانا واحدا.وما دامت حياة الروائي هي حياة عادية وليس فيها ما هو خارق على حد تعبير الربيعي فلم يكن هناك من داع لتكرار بعض التفاصيل اكثر من مرة.المهم في هذه القضية التي اثيرها الان هو الاعتراف بان قراءة الاربعمئة صفحة لم تكن عملا شاقا بالنسبة لي،فقد كنت كعادتي ارتب-وانا اقرأ الكتاب- ما تفعله الفوضى في داخلي.وكأنني اتلو اعترافا خطيرا لكاهن عجوز اعتاد سماع قصص الضعف البشري.
اذن”الخروج من بيت الطاعة”كتاب له غاية واحدة هي:تاكيد احدى اهم قيم جيل الستينات الجمالية المتمثلة في تحطيم الشكل على المستوى الفني.وقد كان الربيعي مهووسا بلعبة التحطيم هذه.فقد اشار مرات كثيرة الى كلمة التجريب والتي كانت تعني عنده الاختلاف،وقد اوضح ما تعنيه هذه الكلمة بلغة واضحة جدا في شهادته التي القاها في الاتحاد العام للادباء والكتاب في عام 1989في ندوة”التجريب في القصة العراقية”قائلا:أي انني لم ارد في كتاباتي القصصية ان انسج على منوال ما هو متوفر في السوق المحلي من بضاعة قصصية(الخروج من بيت الطاعة-عبد الرحمن مجيد الربيعي- الدر العربية للموسوعات ص112)
هذه الاشارة ليست هي الاشارة الوحيدة لكلمة التجريب الساحرة.فهذه الكلمة هي مفتاح خلود أي نص لكن الربيعي وجيل الستينات باكمله تعامل معها بطريقة فيها نوع من قداسة لا يمكن تدنيسها.ومن هنا لا يجوز ان نمر سريعا بهذا الموقف الجمالي الذي رسخته كلمة التجريب.فمن ناحية كانت الكلمة تعني للربيعي ولكل زملائه الاختلاف لكنها-أي كلمة التجريب-كانت من جهة اخرى تعني غيضا مكبوتا صبه الستينيون على الرواد ممن كتبوا كتبوا شعرا او قصة.وقد يصدم أي قاريء عادي درس الادب العربي في المدرسة من كلام الستينيين عن الرواد لان المدرسة قدست الرواد كثيرا ورسمت لهم صورة رائعة ما زلنا نذكرها.ثم قام اغلب ادباء جيل الستينات بنقد هذه الصورة وتحطيمها متخذين من كلمة التجريب مبررا فنيا لفعل ذلك.ومن هنا أي من تاكيد ولع الربيعي بالتجريب علينا ان نفهم هذه الكلمة فهما جديدا يقربنا من حقيقتها اكثر فاكثر.وهنا لا بد لي من الحديث عن نقطتين بارزتين تتعلقان بكتاب الربيعي المذكور اولاهما العنوان الفرعي أي”شهادات في الادب والحياة”.اما الثانية فتتعلق بالتجريب هذه المفردة المقدسة كاله هندي.
لا بد من التوقف قليلا لايضاح دلالة هذا العنوان الفرعي الذي يكشف عن ان كتاب الربيعي لا يختلف في اهدافه عن أي كتاب نشره ادباء النهضة العربية الذين تركوا لنا كتبا كثيرة كانت في مجملها تجارب نقدية لا تقتصر على التنظير فقط وانما تمتد لتشمل الحياة ايضا.وقد يكون كتاب الربيعي وعنوانه الفرعي اكثر قربا من كتابات ذلك الجيل النهضوي الكبير.ولعل الامر لا يقتصر على الربيعي فقد ترك الراحل عبد الستار ناصر كتابين لهما الهدف نفسه هما سوق السراي وباب القشلة.ولم يكن الدافع الجمالي مقتصرا على الفن والتنظير وانما كان الكتابان محاولتين لمزج الحياة بالفن على طريقة العقاد مع اختلاف في الموقف والفلسفة.
في كتاب الربيعي نجد هذا المزج الرائع بين الحياة وبين الفن القصصي.لكننا قد لا نعطي هذا المزج حقه اذا تسرعنا في الحكم على كتابه او شهاداته حكما عابرا متاثرا بتبجيل الميراث الستيني.ومن اجل جعل الضوء يصل الى الابعاد القصية من تجربة الربيعي لا بد من استخدام مصطلح نقدي قد يساعدننا كثيرا في جعل شهادات الربيعي تقرا بصورة افضل ومن ثم يكون التجريب اكثر من كلمة او حل له علاقة بالفن وليس بالحياة وهذه هي النقطة الثانية التي تحتاج الى اضاءة اكبر.ان هذا المصطلح او المفهوم المساعد لا يتجاوز الكلمتين هما”تناقض العلاقة”
يعني تناقض العلاقة دخول الانسان في علاقة غير منسجمة او صادقة مع الغير وتتسع الدائرة فيكون التناقض اعلى واشرس حين يكون الانسان متناقضا مع النظام السياسي الذي يحكمه.في اكثر الاحيان يعيش الناس في حلقة ضيقة ويشعرون بمشكلة ما تفسد علاقتهم بمن حولهم.ويفسر الناس العاديون كل مشاكلهم بطريقة تفتقر الى التحليل.انهم يكتفون باطلاق احكام عامة غاضبة وينامون على هذا الوجع الشخصي.لكن التناقض الذي يقع فيه الانسان سيكون اكثر قسوة لو كان الطرف المقابل هو النظام الحاكم الذي اختلف معه.عند هذه النقطة نصل الى مشكلة الانسان الحقيقية التي اسميها بتناقض العلاقة..هذه البئر التي وقع فيها الربيعي مع قلة من المثقفين.لقد وجد نفسه سجينا بسبب انتمائه اليساري وهو ما عرضه الى صدمة نفسية افرغها في روايته”الوشم”.وقد صرح في احدى شهاداته ان موضوع القمع (بالنسبة اليه هو موضوع لا ينفد.انه الموضوع القائم بمعناه المركب (الاجتماعي والديني والفكري) لا السياسي فقط.(مصدر سابق ص244)ولا يخفى على احد علاقة السياسة بكل انواع القمع التي ذكرها الروائي وانها تنتج عن ممارسات السياسة ولا تكون وليدة نفسها.ومن خلال هذا التحديد نستطيع ان نبحث عن طرق الربيعي في التعامل مع مشكلاته التي واجهته.لنحاول ان نرسم الصورة بلون اكثر جاذبية.وجد الروائي ان يعيش حالة تناقض فظيعة مع كل ما يقع على ارض الواقع من اخطاء.هذه حالة مزعجة لا ينتبه اليها الكثيرون او يحاولون على الاقل نسيانها في هموم العيش الصغيرة.المثقف لا يقدر على النسيان لانه كائن ميزته الاولى انه لا ينسى الام الاخرين لانها الامه هو.ولن يجد راحته الا بمواجهة النظام واخطاء الواقع.فكر الربيعي في وسيلة لتوثيق كل شيء من حوله وكانت فترة سجنه فرصة جيدة لتحريضه اكثر.كان الواقع قاسيا جدا ومن الخطا تركه ينزلق دون ان يخلد.هذا هو موقف المثقف الحقيقي ولحظة رهانه الخطيرة.ان تكون موجودا هنا لقول ما عرفته وشاهدته باسلوب فني.لذا فان الشهادات هي التعبير او الاعتراف المهم ان الفن يعتمد على الواقع لكنه لن ينقل التفاصيل كما هي ذلك لان الفن ليس صحافة.واخيرا عثر الربيعي على وسيلته التي ستنقذه من فكرة الذنب التي تلازم كل مثقف يريد ان يقول اشياء عن تجربته بكل دقة دون ان يضحي بجمالية الطرح الفني.وقد وجد بعد التامل ان هناك اربع درجات لا بد ان يرتقيها كي يصل فنه القصصي الى فضاء المغايرة والابتكار.هذه الوسائل هي:الاختلاف،التجاوز،التجريب،التجديد(مصدر سابق ص319).وقد اطلق عليها اسم مجموعة شواغل تالفت منها خبرته.ومن الخطأ اعتبار هذه الشواغل مجرد وسائل فنية انها في المكان الاول موقف من اجل الحياة التي ستفقد معناها لو انها مرت كما تمر حياة الملايين.ويصح قولي كثيرا لو شددت على ان شواغل الربيعي كانت رد فعل انساني على اخطاء السياسة التي يدفع الفقراء ثمنها.ولن يكون هناك فارق كبير بين قولنا ان هذه الكلمات الاربع تندرج ضمن سعي الكاتب الفني لتحقيق قدر كبير من الابداع المتميز وبين قولي انه اراد ان ينقذ ذاته كمثقف وهو يبحث عن اسلوب فيه الجدة والاختلاف كي لا تفقد تجربته قوتها الخارجية.وانطلاقا من هذا الفهم لن يكون كتاب الخروج من بيت الطاعة مجرد كتاب عابر لروائي اضاء لنا حياته وفنه القصصي لكنه سيكون في المقام الاول محاولة للبحث عن اصدق وسيلة تقول لنا ان شيئا عما وقع هنا.ومن الادق جعل كلمات الربيعي او شواغله رد فعل طبيعي للتناقض الذي حصل بينه وبين النظام السياسي بكل تجاوزاته.
على هذا الاساس يكون تناقض العلاقة في اقسى صوره وهو صورة مقاومة السلطة والدخول في تناقض عنيف معها هو السبب في العثور على الكلمات الاربع التي اعطته خصوصية عميقة.
في مقابل تجربة الربيعي الفنية والانسانية يمكننا تذكر كتاب نيكوس كازانتزاكي التقرير الى غريكو.سنجد الصورة المقابلة والمختلفة تماما عن تجربة الربيعي في شهاداته.ومن دون هذه المقابلة التي تبدو مفترضة وليست دقيقة ستكون شواغل الربيعي ادوات فنية خاصة به وهي في حقيقتها حلول شخصية برأت انسانيته من النقد.لقد فاز الربيعي حين عثر على اهم ثمرات علاقته وتناقضه مع السلطة فجسد لنا تجاربه في كلمات اربع اعطت كل واحدة منهن بعدا فنيا لقصصه.لكن لاعد الى العنوان الفرعي”شهادات في الادب والحياة،وقد ذكرت اثر التنوير فيه الا انني اريد ان اشير الى هم الروائي في تذكيرنا انه شاهد أي حاضر في اكثر ما قال.الشهود هنا ليس موقفا صوفيا انه بكلمة دقيقة رؤية شخصية لا تتوقف عن البحث لالتقاط اهم ما في الحياة من معنى.وهكذا سيكون الطرف المقابل للربيعي كما اشرت هو كازانتزاكي وكتابه الذي كان صورة مختلفة تماما عن كل شهادات الروائي العراقي لان التناقض في حالة مؤلف رواية زوربا اليوناني هو غيره عند الربيعي.لذا ستكون كلمات كازانتزاكي او شواغله اربعة كلمات ايضا.يقول نيكوس كازانتزاكي:كانت هناك اربع درجات حاسمة في صعودي،وتحمل كل منها اسما مقدسا :المسيح، بوذا، لينين ،اوليس. ولنتذكر مقدسات الربيعي: الاختلاف التجاوز التجريب التجديد.ياله من تطابق شكلي لكنه يكشف عن موقفين نقديين مختلفين كل الاختلاف لكن كلا منهما يعبر بصورة قوية عن حياة سارت مع تناقضها بشكل مغاير لتناقض الاخر.ولا يمكن ادراك قوة حياة وشهادات الربيعي ما لم يكن الخيال راسما لهذا الاختلاف العميق بينهما. وقد اردت ان يتدخل الخيال حقا في رسم صورة الفارق بينهما لانه فارق قد يحدد بعض ما لم نفهمه.