مقبرة الإنكليز.. وإدانة الوعي المجتمعي علوان السلمان الرواية الجنس الادبي الاقدر على استيعاب التحولات المتسارعة والتعبير عن علاقات الذات والذات الجمعي الاخر.. و (مقبرة الانكليز)الرواية التي موجزها(تعرض احدهم لاطلاق نار فيتظاهر بالموت ثم يقف ليركض ويتجه الى مقبرة الانكليز وفجأة يجد نفسه في غرفة (نور) المترجمة والصحفية التي تربطها علاقة عاطفية والامريكي (هانس) مع وجود عمليات الاغتيال التي تنهي حياة كل منهما.. فتشكل نور الراوي السارد(في لحظة مجنونة هجموا علي وكان هانس في قبضتهم..ترك فردة حذائه قرب السيارة وكنت اصرخ بهم ولكنهم ادخلوني السيارة بقوة.. واوثقونا داخلها وعصبوا اعيننا..وبعد ساعة انزلونا من السيارة مثل خراف..اجلسونا على الارض وكنت اسمع اصواتهم مثل خفافيش تزعق حتى دوت رصاصات تلقاها هانس اولا..)ص14..لذا فالرواية رواية شخصيات مغيبة(افتراضية) تنطلق من قبورها والواقع ظلالها..وقد نسجت فصولها الاثنتا عشرة الرقمية انامل مبدعها علاء شاكر واسهمت دار ومكتبة عدنان على نشرها وانتشارها/2014..كونها تشتغل على تيمة مركزية ترصد المتغيرات الخارجية وعلاقتها بالعوالم الداخلية فتخترق الوجود بكل حيثياته وتفاصيله لاستثارة فضول المستهلك(المتلقي)ونبش خزانته الفكرية المتاملة بعوالمها التي تشتغل على ميتاسر نصي..اذ هناك(نص المقابر بامواتها المنبعثة)و(نص السيرة الذاتية اذ الراوي العليم شاهد عيان..و(نص ظاهر يقدمه الراوي السارد متمثلا بـ منتهى الصحفية المتخفية خلف قناع الاسم المستعار(نور) وهانس الانكليزي الذي تشكل علاقته بها خارج المالوف وعلامة فارقة محكوم عليها بالاعدام المجتمعي والتي تميز بها السرد.. (من النافذة نظرت الى الساحة المقبرة القريبة من مقبرة الانكليز المحاطة بسياج حديدي تستره اشجار الخرنوب..والقبور التي برزت بشكل منتظم.. كانت الساحة محفوفة ببيوت حديثة اكثرها غير مسكون لم اعرف الوقت بالضبط..التفت ابحث في جدران الغرفة التي دخلتها عن ساعة جدارية عثرت عليها وكان عقرباها يعلنان الثانية بعد منتصف الليل..الكلاب تطلق نباحا غاضبا وهي تجوس ظلام ساحة المقبرة.. يصلني كانه من الذاكرة مع الريح الباردة التي تتسلل الى الغرفة..القدر ساقني الى غرفتها.. لايمكن ان تحدث هذه الاشياء في الواقع تحصل فقط في الاحلام عندما تكون الروح قادرة على اختراق مسافات طويلة واماكن لا تخطر على البال لتقابل من تريد..خطوت في ظلام الغرفة واصطدمت قدمي بهيكل من الخشب..كان الليل يوشك على الرحيل بينما حزم الضياء تتقدم مثل خيول بيضاء..اقتحمت الخيول النافذة وبركت على ارضية الغرفة ببياضها الخافت..بدت الغرفة في الضوء اشبه بجناح للعرائس.. رايت وجهها النابض بالحياة مثل حوريات البحر نائمة كانها عروس وقفت في مكاني خائفا من ان تفتح عينيها لتراني..) ص7 ـ ص8.. فالنص يبدأ بضمير المتكلم(انا) من جهة و يمزج بين الواقعي والمتخيل من جهة اخرى فضلا عن تمسكه بطقسه المكتظ بالتوتر فيقدم صرخة ضد الخراب الروحي والمجتمعي بتوظيف تقنية المشهد في عرض الاحداث والدلالات وهو يستدعي العنف كتيمة يشتغل عليها فيترجم خزينه الدرامي في نطاق جغرافي يتجاوز المحلية..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية والمفتاح التاويلي على حد تعبير امبرتو ايكو والذي حقق وظائفه التي حددها جيرار جنيت(الاغراء/الايحاء/الوصف/التعيين..) مع اضفاء شحنة متميزة بطاقتها الترميزية التي افرزت معان جمالية ودلالية عبر بنية لفظية دالة على مكانية متناغمة والذات.. (نهض من كرسيه وكانت بطنه تتدلى مثل صرة ملابس كبيرة..انقذتها الشيالات التي يلبسها..وظل يردد باسلوب ماكر..ابقي ياعزيزتي واسمعي مني..انا اطلب منك الزواج..سادخل من الباب كما ترين..كل ما املك سيكون لك..ادللك..ستحلم اي امراة ان تحل محلك والرجل منا يحق له الاربع..وانا لا اشكو من أي شيء..المال يهب الصحة والقوة..اقترب مني وكاد يمسك يدي..وقتها نهضت بعصبية ووضعت حقيبتي على كتفي..حاول ان يمسك معصمي ولكني رجعت الى الخلف..شيخ اعطني وقت سافكر بطلبك..اريد ان اذهب الان..واتجهت صوب الباب.. وقتها دخل كلبه الاجرب..ووجدتها فرصة للافلات من قبضته.. خرجت وكاني نفذت بروحي..) ص42 ـ ص43.. فالسرد بحواره الذاتي(المنولوجي)تتبدى عليه القدرة الحكائية عبر آلية الاسقاط على الواقع مع تداخلات هارمونية لانواع ادبية متمثلة في النفثات الشعرية والمشهدية السيمية..مع اتكاء على مقومات الحبكة الحكائية ومرتكزات الخطاب(الاحداث/ الشخوص/الفضاء الزمكاني/المنظور السردي…)..فضلا عن ان فعل الكتابة يتجاوز حدود التابوهات ويشتبك مع السياسة والجنس والمجتمع فيتمرد بروح ساخنة تعلن العصيان على التسلط والاستلاب من اجل الحرية المغتالة في اعماق الذات الانسانية وجمود الفكر في وطن مثقوب الذاكرة.. (كنت اعرف ان لقائي بـ هانس سوف يعرضني لمخاطر كبيرة..فانا ارافقه في جولاته داخل المدينة في الفندق والشارع والمطاعم والمؤسسات الحكومية..وكنت اشعر بالعيون تترصدني..وتلقيت اكثر من مرة مكالمات تهديد من جهات عدة لا اعرف مصدرها..اشخاص غرباء بوجوه كالحة ومخيفة تثير الرعب لمجرد النظر اليها..توعدوني بالقتل ان بقيت بصحبة الغريب اتجول في شوارع البصرة..كنت منساقة بشكل غريب ومندفعة خلف رجل مجنون يدفعني الى حتفي وهو الاخر يدفع بنفسه ايضا الى حتفه…)ص59.. فالنص يعتمد ثيمات متداخلة كثيمة الزمن الذي يمضي تعاقبيا وتراجعيا مع اعطاء الشخصية دورا مركزيا..كونها مكونا اساسيا من المكونات الفنية وعنصرا فاعلا في تطور الحكي..فضلا عن حضور الجسد كاشارة للحضور المادي المقابل للتلاشي(الموت)بلغة زاخرة بالوجدانيات مع طغيان الشاعرية في اغلب المقاطع السردية..التي تؤكد على المتخيل في متابعة الواقعي بنبرة تترجم عنفه بعنف اللفظة النافذة الى اسرار الوجود والاشياء.. بحركة قائمة في ذات المنتج المتخيل الذي ينسج دلالته وفق النسق المفتوح..اضافة الى ذلك فالنص يصور غريزة الحب والتغلغل في اللاشعور من خلال استقراء العواطف الانسانية والانجذاب نحو الاخر ورصد التواصل الوجداني..فضلا عن انه يتناول ما احتشد من جثث بصورة ماساوية..لذا فالكاتب يدين الواقع الاجتماعي والسياسي عبر محطات من الحب والخوف مع تلونها وخيالاتها تبعا لمصائر شخوصه المؤثثة لعوالمه السردية التي تنطلق من ذاتية تمنح اللغة انسيابيتها وتدفقها الشعري فتوظف الاستعارات والمجازات للتاويل واضفاء الجمالية عليه.. لقد شكلت شخوص الرواية المنبعثة من قيودها بنية النص الخطائي بطاقته السيميائية الممتلئة دلاليا كونها تنطلق من مرجعية اجتماعية وانتماء جغرافي باستثناء هانس.. (كنت ارى جارتنا تطل من الباب وترمي ماء الطشت..وعندما اسأل امي عن سر امتعاضها لذلك.كانت لا تجيب ولم افهم السبب ولكني اكتشفت انها تفعل ذلك لتغيظ نساء المحلة ولسان حالها يقول(غسيل ليلتي البارحة) حتى عارضات الازياء لا يعرضن الملابس فهذا ادعاء بل يعرضن اجسادهن.. ـ من اين لك هذه الفكار الشيطانية؟ ـ نجرم الشيطان وحده..هل سمعت النكتة المشهورة عن هروب الشيطان؟ ـ لا ـ ساحكيها لك يقال ان الشيطان هرب من بلدنا وعندما ساله قرينه..لماذا تركت عملك؟قال اغويت الكثيرين لفعل السرقة واكتساب المال الحرام وعلمتهم جميع الحيل وعندما نجحوا وشيدوا القصور الضخمة نقشوا عليها بخط عريض(هذا من فضل ربي)..ص81 ـ ص82.. فالسرد ليس تمثيلا لشريحة من المجتمع بل هو ادانة للوعي المجتمعي بكل موجوداته وامتداداته من خلال الحوار الذي ينطلق من الذات الى الذات الجمعي لتحقيق الانتشار زمانيا ومكانيا.. وبذلك قدم الروائي علاء شاكر نصا متميزا بتماسكه الدرامي من خلال ادوار الشخصيات والسلطة المهيمنة بساردها الراوي.. الذي يتخذ من الحرب الطائفية مركبا كيميائيا تحفيزيا لصياغة متنه الحكائي وتحويله الى فعل مركزي يشكل خلية مجهرية مستأصلة من نسيج مجتمعي في مرحلة تمخضت ببروز مجتمع يجهر بالعنف حينا من خلال الفعل الفردي بسبب الارهاب النفسي الذي فرضته تجاذبات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.