معلم العربية – نصوص – اسلام عادل

معلم العربية – نصوص – اسلام عادل

قبل ان يخرج من الصف, اشار بيده اليسرى الينا, و قال بأشمئزاز: ادرسوا “الفاعل و المفعول به غدا”.. من يغيب سيرسب بهذا الفصل, لا اعذار. خرج و كأنه رمى على كاهلي حملا لا يطيقه ظهري.

المعلم الذي لم انس اسمه, ذو شوارب سوداء مربعة, شعره اسود خفيف قليلا عند مقدمة هامته.. مائل الى القصر ومكتنز. كنت حينها في الحادية عشرة من عمري, و لم يبق لي سوى اشهر قليلة لاكمل تعليمي الابتدائي.. لم اكن اكثر الاولاد ذكاء.. لقد جئت الى المدرسة الخربة في حي قديم في البصرة لا يقطن به سوى العوائل المعدمة.. ولم يكن تلاميذ هذه المدرسة يطمحون لاكثر من التعليم الذي تقدمه.. دروسنا مبنية على الحفظ, اذكانا هو اكثرنا قدرة على حفظ الدروس.. وهذا ما كنت افشل دائما بأنجازه.. دروس العربية كانت اصعبها فلم اميز بين الفاعل و المفعول لفترة طويلة. استندت بالتذكر على مثال او مثالين منها “ذهب احمد الى المدرسة” و “اشتريت كتابا”. لم اعرف ان احمد يذهب الى المدرسة ولم اشتر بحياتي كتابا. فكنت لذلك اضيع بين امنياتي بأقتناء كتاب, و ما بين واقع لا احصل به الا على كتاب قديم درس به طلاب قبلي و كتبوا ملاحظاتهم بالقلم الرصاص. فأسأل نفسي دائما السؤال ذاته: هل ازيل هذه الكتابات وانعم بكتاب شبه نظيف ام ابقيها؟ احيانا, يكتب لنا طلاب الدفعة السابقة رسائل في الكتاب يحذروننا بها من المعلم, واحيانا يسبون المعلم بابشع الالفاظ.

لم افهم الدروس و لم اعرف يوما لم يعاقبونني دوما. لم اكن ثائرا على قوانين المدرسة التي هي اصلا بلا قوانين و لم ابد يوما اعتراضا او قلة ادب. و كانت الضربات تنهال علي في كل مناسبة.. كنت غائرا بعالم يطلب مني الكثير ولا يعطيني ادوات البحث. توجه الي اسئلة مختلفة, علي الاجابة عليها كي أظفر بالمديح و الاحترام الذي كنت اريد اجتذابهما لنفسي, و لكني لم املك غير مصروف اشتري به عصا من قصب السكر امص بها في طريقي الى العودة كما يفعل اصدقائي, او احفر بها الطريق ذاته الذي تدوسه قدمي القابعة بحذاء نايلون تتحشرج بداخله الرمال و الاملاح. ما تلثم الخدوش التي تصيب كاحلي من احتكاك حافة الحذاء الصلبة بمرونة جلدي الذي لم يحمه جورب. طلب الاستاذ الينا يوما ان نكتب موضوعا انشائيا عن “فلسطين”. لم اعرف ماذا تعني فلسطين! لم لا نكتب عن مصر او الاردن او العراق! لم فلسطين؟! و حين سألت ابي قال ان فلسطين محتلة من قبل “الصهاينة” و لم افهم معنى هذه الكلمة.. و تابع ابي “الكيان الصهيوني”..”اسرائيل”.. و “عدو العرب”.. و كيفما اتفق حفظت هذه العبارات و كتبتها في دفتر الانشاء! و كان المعلم حينها يجول في الصف يتقدمه كرشه الذي يستند الى حزامه المتهدل و علاقات بنطاله..و بقيت افكر اياما, ما هي فلسطين, اين تقع فلسطين و لم علينا ان نحررها, و ما معنى كلمة تحرير. لم اكن اعلم اننا محتلون كفلسطين. كنت اتصورها بلادا بعيدة جدا لا نستطيع الذهاب لتحريرها.؟ و لم افكر بمن سيحررني من امنياتي بأقتناء حذاء لا يدمي قدمي.. او حقيبة لا تضطر امي لتخيطها كل عام لئلا تتساقط الكتب من شقوقها..

في الصف مقعد واحد فقط, تجلس عليه فتاتان, اما بقية الطلبة فيفترشون الارض, و انا من بينهم. اجلس على الارض بجانب المقعد الوحيد, اضع دفتر الانشاء على ركبيتي و اكتب عن فلسطين.

كان المعلم يسير بيننا, يفرقنا بحذائه الاسود الكبير.. فيفرق بينا لان لا نغش.. لا نسرق افكارنا عن فلسطين! و لم نكن نقدر على سرقتها من بعضنا لاننا نرى فلسطين بأوجه مختلفة. و حين كبرت سألت نفسي كيف سأحرر فلسطين و انا لا املك حذاءا يحمي قدمي.. و لا حقيبة تضم كتبي, و لا كتابا نضيفا اقرأ به عن فلسطين.?

و حين يصل الى احدنا.. يسأله سؤالا بالعربية, و حين يخطأ يتلقى ضربة ما لا يعرف من اين اتت..؟ كان المعلم مولعا بضربنا على ظهورنا الصغيرة المحدودية على الدفتر. و حين وصل الي:

– هل تعرف الجار و المجرور؟

فأجبته بصوت منخفض متهدج:

– حرف جر مثل في و الى و كلمة تتبعها.

فصرخ كأنه لم يسمع ما قلت:

– ارفع صوتك؟

فتلجلج لساني و قلت له و جبيني يتصبب عرقا:

– مثل “في الصف”..

فهتف بصخب افزع التلاميذ:

– ارفع صوتك يا غبي.

و ضربني على ظهري… مكان كفه على ظهري بقي ملتهبا مستعرا.. كرهته جدا.. و لم استطع ان امنع دموعي من الانسكاب.. فكفكفتها بأكمامي مانعا اياها من السقوط على الدفتر وحقا فقد سقطت احداها على كلمة “فلسطين”. و بعد ان تيقنت انه ابتعد عني قليلا قلت بصوت خفيض لزميلي:

– انه وحش.

تغير لون وجه زميلي “اياد”, و قال بصوت مستغرب:

– قلت ان المعلم وحش!

معلمتنا لمادة التأريخ صديقة مقربة من استاذ اللغة العربية و كانت في الوقت ذاته قريبة زميلي اياد. امراة ميسورة الحال, قصيرة و بدينة, تضع الكثير من مساحيق التجميل و تبالغ بذلك اغلب الوقت. و رغم ان اياد يؤثر الصمت اغلب الوقت, الا ان علامات الكبرياء تبدو على وجهه المنتفخ حين تدخل قريبته الى الصف.

اذكر يومها انها كانت ترتدي قميصا اصفر و كان شفافا لدرجة اننا نلاحظ حمالة ثدييها الكبيرين, كنا نضحك و نكتم ضحكاتنا. لم كن اول مرة نرى بها اثداءها, فلم تنتبه في اغلب الوقت بأن زر قميصها مفتوحا. فنظل نضحك و نحن نصف موضع انفلاق ثدييها الضخمين المتهدلين.

كان اياد يرمقني بنظرات ساخطة.. الا اني كنت اظنها عابرة و ليس لها من تأثير على صداقتنا. او هكذا فكرت.

في اليوم التالي جاء استاذ العربية و صاح بصوت محتدم:

– سامي عبد الله..

– نعم استاذ.

– تعال معي.

تراكمت كل الذكريات السيئة عن الاستاذ في ذهني و انا امشي وراءه في الممر اتصبب عرقا, و ارى امامي عصاه التي يمسكها بيده بقوة. العصا التي يضرب بها كفوفنا اذا اجبنا اجابة خاطئة او تصرفنا بما يخالف الاداب العامة حسبما يقول. الا انها غالبا ما استخدمت لضربنا حين نسهو عن الوقوف حين يدخل الصف.

اول ما يفعله الاستاذ “منير” حين يدخل الى الصف هو النظر بوجوهنا واحدا واحدا. يبحث عن نظرة تذمر او تمرد او حتى ابتسامة ليصفها بقلة ادب. و غالبا ما كان يفتتح الدرس بضربة او ضربتين, و في افضل الحالات حين لا يضرب فأنه يصفنا بكلمات ك “حمير” او “اغبياء”..

و معلمة التاريخ لم تتوان عن ضربنا اذا لم تكن بمزاج رائق.. اذكر حين ضربتني اول مرة. كنا قد احدثنا صخبا في الصف. فأتت يتقدمها ثدياها يختضان و يخترقان المكان قبلها و صاحت بنا “صخول”. كانت الكلمة من الوقع لدرجة انها اضحكتني فسمعت رن ضحكة مفاجئة. فصاحت بي “اثول” ثم انهالت علي تصفعني. تصورت انه سيأخذني لادارة المدرسة او ما شابه ذلك, الا انه و قبل ان ينتهي الممر ادخلني الى احد الصفوف. و هناك قال لي:

– لم تصف المعلمين بالوحوش؟

جف ريقي و قلت له و قد احتبس لساني عن الكلام:

– لم اقل هذا…

– بل قلت.

– لم اقل.

– قلت يوم كتبتم انشاء عن فلسطين.

و علمت حينها ان اياد قد وشى بي, الا ان الخوف شل عقلي عن التفكير بأي كذبة سوى كلمة “لا”. جحظت عينا الاستاذ منير غضبا, ثم قال لي بصوت مهتاج ممتعض:

– افتح كفيك.

ففتحت كفي و انا احس الدم يتجمد بعروقي و اسمع خفقان قلبي و كأنه يقتلع من صدري. و بدأ يضربني بكل ما اوتي من قوة. الا اني لم استشعر الالم اطلاقا رغم ضربه اياي بجور, لان نظرات الطلاب المستهزئة كانت اكثر بغيا و قسوة.

 احساسي بالصدق هون علي حرجي.. وحبس الدموع بعيني.

فقد استبدلت التأوه و النواح بغبطة و جذل حبستهما بصدري, لاني لم اكذب حين قلت انهم وحوش.