معالم المخيلـة من خلال سيرة هرمان هسه الذاتية عن طفولته
عبد الباقي يوســف
abdalbakiuosf@gmail.com
تعتمد مراحل الطفولة على المخيلة خاصة في السنوات الأولى التي يعجز فيها الطفل عن النطق، ويبدأ لسانه بتعلّم الكلمات. بعد ذلك يلازمه الخيال بسبب أنه يعجز عن القيام بما يقوم به الكبار، لذلك يتخيل أنه يفعل ما يعجز عن القيام به في الواقع.
هنا قد يستعين الطفل بشيء من الكذب عندما يترجم هذا الخيال إلى كلمات يقولها لأبويه، أو لأخوته، أو لأقربائه، أو لبعض الأطفال من الجوار، أو المدرسة، ومرحلة الكذب التخييلي هذه يمكن أن نلاحظها على الطفل بعد الثانية عشرة من عمره، وهنا علينا أن نميز بين الكذب وبين الخيال، فهو مثله مثل كاتب القصة، يعتمد على المخيلة كي يبدع، الكذب هنا بالنسبة للطفل هو شكل من أشكال الإبداع.
من هنا كان الاهتمام بتوجيه وتوظيف مخيلة الطفل، وكان أدب الأطفال غنياً بشذرات هذا الخيال الذي ينمي مواهب الطفل.
هرمان هســه
إذا نظرنا إلى كتب سير كبار الكتاب، نراهم يتحدثون عن شيء من هذا الخيال في مراحل طفولتهم. في سيرته الذاتية يتحدث الروائي / هرمان هسه / عن وقائع طفولته، ويبيّن كيف أن تلك الطفولة أسست فيما بعد لتكوين شخصيته الإنسانية والأدبية معاً. يتحدث في البداية عن مرحلة الطفولة، وكيف أنه كان يميل إلى أن تكون له شخصية مميزة، ويعيد سبب اندفاعه للكتابة إلى سنوات الطفولة حيث حلم بأن يكون ساحرا حتى يستطيع أن يفعل مالا يقدر عليه في الواقع، ومالم تسمح به طاقته العقلية والجسدية.
يقول : لذلك تملكتني رغبة ملحة لتغيير الواقع بالسحر وتبديله والرقي به. ثم يضيف : في طفولتي اتخذتْ رغبتي في السحر اتجاها نحو أهداف خارجية صبيانية كنتُ أود أن اجعل شجرة التفاح تثمر في الشتاء وأن تمتلئ محفظتي عن طريق السحر بالذهب والفضة، وبواسطته حلمت بشل أعدائي وبإلحاق العار بهم، ولكن بشهامة لأتوج بعدها بطلا وملكا.
ويقول : أردت أن أكون قادرا على أن أجد الكنوز الدفينة، وعلى جعل نفسي لا مرئيا، واعتبرت قدرة المرء على إخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية، وتقت لامتلاكها بشدة.
يعترف هسه بأن الكتابة استطاعت أن تخلصه من هذا الهاجس حينما كبر واكتشفها قائلا : فبعد أن كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة حاولت مرارا أن أتوارى خلف مخلوقاتي، أعيد تعميد نفسي متخفيا بمرح خلف أسماء مبتكرة، وقد جعلتْ هذه المحاولات زملائي الكتاب كثيرا ما يسيئون فهمي ويعتبرونها مأخذا عليّ. ويستأنف سرده قائلا : عندما انظر إلى الماضي، أرى كيف تغيرت اتجاهات هذه الرغبات السحرية بمرور الزمن وكيف حولت جهودي تدريجيا من العالم الخارجي وركزتها على نفسي، وكيف طمحت لاستبدال العبارة السحرية الساذجة وقدرتها على الاختفاء بقدرة اختفاء الحكيم الذي يرى كل ما حوله ويبقى هو غير مرئي دائما. هذا التوق الذي اصبح فيما بعد المضمون الحقيقي لقصة حياتي. يرى ثيودور سيولكوفسكي الذي قدم هذه السيرة أن هسه سواء أكان يكتب رواية أم سيرة ذاتية ينتهي دائما إلى ما يدعوه / مملكة الروح السرمدية / التي تقيم خارج الزمان والمكان وتتجاوز الرسم فوق جدار السجن، ولو أخذنا عنوان أحد أعماله الأولى / ساعة بعد منتصف الليل / نجد أن الاختلاف الرئيسي في عقل هسه وعمله لا يقع بين الحياة والفن أو بين الحقيقة والخيال، بل بالأحرى بين واقع الروح المليء بالمعاني والعالم اليومي الزائل الذي أطلق عليه الواقع أو الواقع المزعوم. وحالما نفهم كم هي حقيقة على نحو قوي المملكة الروحية هذه بالنسبة لهسه، نصبح في وضع يؤهلنا لاستيعاب الاختفاء المتكرر في أعماله للحواجز الاعتباطية القائمة تقليدا بين السيرة الذاتية والرواية. ورغم أن جميع الأعمال الكاملة لهسة هي سيرة ذاتية إلى حد كبير فلم يكن من قبيل الصدفة انه لم يبدأ بكتابة نماذج للسير الذاتية حقا إلا في أربعيناته، وقد فعل ذلك للمرة الأولى بشكل مفاجئ كما جاءت الحقيقة على لسانه هو حيث يذكر انه أمضى سنوات قبل أن يعي كم كانت أعماله معتمدة بشكل ذاتي على ظروف حياته. كل هذه الحكايات كانت عـن نفســي
في عام 1921 طـُلب من هرمان هسـه أن يحضر طبعة مختارة من أعماله، فأعاد قراءة الكثير من رواياته الأولى، أشار وهو مندهش : كل هذه الحكايات كانت عن نفسي فهي تعكس طريقي الذي اخترته.. أحلامي ورغباتي السرية وحزني المرير الذي عانيته وحتى هذه الكتب التي حين كتبتها كنت أفكر بأمانة بأنني كنت أصور مصائر غريبة وصراعات بعيدة عن نفسي. تغنيت بنفس الأغنيات، وتنفس الهواء نفسه، وعبرت عن ذات المصير، مصيري أنا. بعد هذه المرحلة سيرتب هسة حياته على ضوء ماضيه الذي اصبح بين يدي الآخرين، وسينظر إلى وعي أعلى. أذكر أن هرمان هسه قد ولد في الثاني من تموز عام 1877 وتوفي في التاسع من آب عام 1962 هذه السيرة غطت معظم مراحل حياته وهي مهمة لتفسير أدب هذا الروائي.
يتحدث في هذه السيرة الغنية عن تفاصيل حياته على النحو التالي : ولدت قرب نهاية العصر الحديث مثل عودة العصور الوسطى بفترة قصيرة تحت علامة برج الرامي.
في طالعي كوكب المشتري في حالته الواعدة حدث مولدي في ساعة مبكرة من مساء يوم دافئ من شهر تموز، فقد أحببت وبحثت طيلة حياتي وبلا وعي عن حرارة تلك الساعة من ذلك المساء وحين لا أجدها كنت أفتقدها بشدة فلم أتمكن من العيش في بلدان باردة، وكانت جميع رحلاتي الاختيارية تتجه نحو الجنوب، ومع أني استسلمت فيما بعد وبشكل لا رجعة فيه إلى إغواءات العالم الغبي حتى أنى عاقبت حواسي بشدة وأهملتها لوقت ما، إلا انه رافقتني دائما خلفية هذا الانغماس الحسي المرعي بعناية فائقة، وخصوصا فيما يتعلق بالنظر والسمع ، ولعبت دورا حيويا في عالمي الفكري حتى لو كان يبدو مجردا ، وهكذا فقد زودت نفسي كما ذكرت بقدرات معينة كي أواجه الحياة.
سكينـة الشيخوخــة
ما يميز سيرته هنا أن كاتبها هو رجل يكتب في مرحلة سكينة الشيخوخة، ويبيّن مفهومه عن الطفولة، وهي قريبة إلى حد كبير من الاعترافات الكبرى وأحيانا يتحدث بأسلوب الحكيم الطاعن في السن لأبنائه وأحفاده مثال ذلك ما ورد في نزيل في منتجع. يقول : / ألسنا موقنين أن قدرنا هو أمر غريزي لا مفر منه إلا نتشبث رغم ذلك بشكل عاطفي بوهم الاختيار والإرادة الحرة، ألا يكون اختيار المرء لطبيب يعالج أمراضه، ولحرفة يمتهنها، ومكان لسكناه، وانتقائه لعروس أثيرة على قلبه وهو ذات الأمر، وربما أوفر نجاحا لو ترك التصرف للصدفة المحضة.
ألم يختر الشيء نفسه، ألم يكرس قدرا كبيرا من العاطفة والجهد والعناية لكل هذه الأمور وهو يفعل ذلك بسذاجة مؤمنا بحماس طفولي في قوته الذاتية ومقتنعا بأنه يمكن أن يكون للقدر تأثير عليه أو من المحتمل أن يقوم بهذا بدافع الشك مقتنعا في أعماقه بعبث جهوده، ولكنه في الوقت نفسه موقن أن العمل والجهد والاختيار وعذاب النفس هي أفضل وأكثر حياة وأكثر جاذبية، أو على الأقل أكثر متعة من التحجر في الاستسلام بإذعان /.
إن الطفل وهو يترك العنان لمخيلته كي تشطح به، إنما يتخيّل ما يعجز عن القيام به، وهو لايقصد الكذب، لأنه لايؤذي أحداً بما يقول، بل قد يقصد النفع لنفسه، أو لغيره. هنا علينا أن نميز كثيراً بين كذب الأطفال، وبين الخيال الإبداعي عند الطفل.
يقول تولستوي بأنه كان منذ نعومة أظفاره يسعى إلى القراءة، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره كان قد قرأ كتاب / ألف ليلة وليلة / وتأثر ببعض الحكايات التي أغنت مخيلته مثل حكاية الأربعين حرامي، وحكاية الأمير قمر الزمان. كما عبّر بلزاك عن إعجابه المبكر بحكايات ألف ليلة وليلة، وعندما كبر حلم أن يكتب ألف ليلة وليلة الغرب، حتى يعبر من خلال تلقائية طفولية عن مدركات الإنسان، وعن مصادر قوته، ونقاط ضعفه كما تعلم من حكايات ألف ليلة وليلة.
في قراءة / روسو / لرواية / ديغو / يتجاوز لوك نحو تقييم الطفل بمعايير المشاعر، الطفولة أشياء عديدة، هي زمن للإكتشاف وميدان للمغامرة.
بعد ذلك ظهرت شخصيات جديدة مثل ستيفنسون في عمله / جزيرة الكنز / في القرن الثامن عشر لإثارة مغامرات الزمن ما قبل الصناعي، وأصبح تاريخ كتب الناشئة يعيش على محاور الجزر والقارة وارتباطاتها. كان لابد من ظهور نموذج جديد مع المجتمع الصناعي يقف على مفهوم الأسلوب كما حصل في رسائل لورد شستر فيلد لابنه غير الشرعي. لقد برزت اللياقة بصفتها مفهوماً اجتماعياً، يتجلى ذلك في كتاب / اليام المدرسية لتوم براون / وأهم الاختراعات التي جعلت الأحداث تعاش في الزمن الحاضر هي التلغراف في أواخر العقد الرابع للقرن التاسع عشر، وأصبح توماس أديسون شخصية محببة للأطفال. إن هذه الثقافة العلمية ولدت الصحف والكتب والمجلات التي غذت مخيلة الفتيان.
إن أطفال الماء، وفتيان الغابات والرجال القردة، ملؤوا المخيلات خلال الفترة الممتدة من طباعة / أصل الأنواع / لداروين إلى تأسيس الحركة الكشفية عام 1908، تلك الفترة التي امتدحها النقد الأدبي بصفتها / العصر الذهب لأدب الأطفال /. إن أهمية داروين لتاريخ أدب الأطفال تكمن في طريقة رواية سيرة حياته، وذكريات طفولته، وعلاقته المعقدة والشديدة التأثر بأجداده.
كان داروين يثير السرور والخوف شأن جميع كتاب القصص الخرافية للأطفال. وكما علق داروين على تخيلاته الصبيانية، فإن / كنفسلي / لاحظ أن الإنسان يخترع قصصاً. إن أثر داروين يكمن في هذا الرجحان بين الحقيقة والخيال.
إن قراءة كتب السيرة تضع القارئ أمام مخيلة الطفولة التي استطاعت أن تقدم هذه الشخصيات الهامة في التاريخ الإنساني.
{ روائي سوري مقيم في أربيل
هرمان هسـة – سيرة ذاتيـة
ترجمـة محاسن عبدالقادر
منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1993
العراق – أربيل – مكتب بريد أربيل