مشكلة اللون الأسود

مشكلة اللون الأسود
تحولات من العدم إلى اللوحة
ساطع هاشم
الأسود والابيض والاحمر هي من أولى الالوان واقدمها التي استخدمها الجنس البشري للتعبير عن القيم والأفكار التعبيرية المجردة، وبقيت هذه الالوان إلى وقتنا الحالي من أكثرها إثارة للخيال والجدل المعرفي، وكنت قد تناولت في بضع مقالات ذلك الجدل فيما يخص اللون الاسود في التراث والدين والسياسة ونشرتها على عدة مواقع بالإنترنيت خلال السنوات الثلاثة الماضية. غير أني سأتناول الآن مشكلة اللون الأسود من زاوية اختصاصي في عالم فن الرسم تحديدا، وسأقدم بعض النماذج المعروفة في تاريخ الفن للإجابة على السؤال الذي مازال يتردد عند الكثيرين هل الأسود لون ام لا ؟ ولماذا الأسود مشكلة ؟
لم يكن شائعا بين الفنانين الغربين منذ عصر النهضة وحتى بداية القرن العشرين اعتبار الأسود لونا، وبقي هذا الإنكار مستمرا بين عدد من المدارس والاتجاهات الفنية حتى وقتنا الحالي، وهو اليوم لايشكل مشكلة فنية أو تقنية كما كان في القرون القليلة الماضية، وإنما يعتمد بشكل كبير على زاوية النظر والاتجاه الفكري والايدلوجي لهذه المدرسة او تلك، فاذا اخذنا باكتشافات نيوتن وعموم علم الفيزياء بعده، فان الاسود ليس لونا لانه غير موجود بالضوء، وهذا يتعارض مع البتروكيمياء الحديثة التي انتجت لاول مرة بالتاريخ اصباغا سوداء قاتمة من النفط والقير الطبيعي، وتكاد ان تتمحور جميع الاراء فيما يخص ظاهرة اللون الاسود التقنية بين هذين القطبين، وهناك من الجهة الاخرى الجانب التاريخي والاجتماعي والفني والسيكلوجي والرمزي ايضا الذي يؤكد وجود الاسود كمعايير اخلاقية او رموز سياسية ودينية وفنية.
يرجع عدد من المؤرخين بداية هذا التمييز بين الاسود وبقية الالوان واسبابه في الفن والفكر الأوربي المعاصر المنتشر حاليا بالعالم والذي اصبح جزأ من تراثنا المحلي الحديث واصبحنا نحن جزأ منه ايضا، إلى بداية ما يطلق عليه في تاريخ الفن بتقاليد وتعاليم عصر النهضة الايطالي التي بدأت بشكلها ومحتواها المعروف عالميا مع ابتكار الفنان والمعماري الإيطالي برنيلسيكي أو برنيلسيشي بحدود سنة 1413 طريقة الرسم والتلوين بالأبعاد الثلاثة ــ البيرسبكتيف ــ أو المنظور.
مرحلة الديجتال
ثم بعد ذلك انتشار آلة الطباعة التي ابتكرها غوتنبيرغ سنة 1455 في ألمانيا التي لعبت دورا حاسما في تكوين التقسيم الذي بات مألوفا لدى سكان العالم بين الصور و الرسوم والكتب وغيرها المنتجة والمطبوعة بالأسود والأبيض أو بالألوان، والذي اصبح شائعا اكثر في زماننا بشكل بارز منذ اختراع السينما والتلفزيون وآلات التصوير المتنوعة، وقد حدد هذا التقسيم الكثير من طرق التذوق الجمالي للإنسان المعاصر، وأنتج مدارس فنية متنوعة.
غير أن دخول الإنسان في مرحلة تكنولوجيا الديجتال وثورة الاتصالات الحديثة والمعلومات قد رجح الكفة بشكل كبير الى عالم الألوان بدل الأسود والأبيض وبدأت الذائقة البصرية خاصة للأجيال الحديثة أكثر انجذابا واهتماما بالصور البصرية الملونة منها إلى أحادية اللون، وانحسرت الكثير من الإبداعات القديمة القائمة على أساس ثنائية الأسود ابيض، لكنها لم تختفي نهائيا وما زال لديها جمهور واسع.
لقد كان نيوتن هو اول من حول تحليله للضوء من محيط الفلسفة والدين وتاريخ الفن والفن عموما، الى عالم الرياضيات وعلم البصريات ــ توصل نيوتن الى تحليل الضوء سنة 1666 ونشره بالتفصيل سنة 1704ــ لقد أوضح بان اللون ليس شيئا متأصلا بالأشياء مثل وزنها وحجمها وشكلها كما تبدو للعين البشرية وكما اعتقد الناس منذ أرسطو، لكنه وهم او صورة خادعة ينبثق من استجابة الجهاز البصري لأشعة الضوء وليس شيئا منفصلا عنه أي انه هو الضوء نفسه، لكنه لم يشرح ماهو الضوء اصلا سوى وصفه بأنه موجات من اشعة تنتشر عبر الأثير.
وهذه الثنائية والتمييز بين اللون والضوء قد استمرت تدرس في مدارس الفن عامة ولم تاخذ باكتشافات نيوتن حتى دخول الانسان في الثورة الصناعية الثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي تميزت عن الاولى ذات الصناعات البخارية, باختراع الكهرباء وتوسع الانتاج العالمي للطاقة واختراع المصباح وانتشار الاضوية الصناعية,والتوسع الهائل في انتاج الاصباغ ذات الالوان المتعددة وغيرها الكثير, وكاناكتشاف المجال الكهرومغناطيسي على الخصوص من قبل العالم البريطاني ماكسويل وتقديم تعريف جديد للضوء باعتباره موجات كهرومغناطيسية هو الذي عزز وطور نظرية نيوتن ثم تبعها سنة 1887 تجربة العالمين مايكلسن ومورلي التي اثبتت عدم وجود الأثير اصلا في فهم اعمق للضوء واللون، وهنا فقط ولكن في فرنسا تحديدا وليس بريطانيا توحد الضوء واللون على يد الفنانين الانطباعين الفرنسين، الذين كانوا في تماس مع ثورة العلوم الحديثة وتكنلوجيتها الجديدة، وانجزوا تلك الاعمال التي هزت المؤسسات المحافظة والاكاديمية وفتحوا المجال واسعا امام الفن الحديث ليس في فرنسا وحدها وانما بالعالم اجمع، ومع زيادة الاكتشافات العلمية زادت التجارب الفنية المتأثرة بها أيضاً وهنا دخل اللون الأسود بقوة في مفهوم جديد باسم الضوء الأسود أو الطاقة السوداء وكان هذا بعد اكتشاف أشعة أكس من قبل رونتجن والراديوم واليورانيوم لمدام كوري والذي شغل العلماء على مدار العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ومصطلح الضوء الأسود ابتكره عالم الفيزياء الفرنسي لي بون لوصف الأشعة تحت الحمراء التي لا تراها العين البشرية حيث اعتبرها ضوءاً مستقبلاً وليس موجات متواصلة مع موجات الضوء المرئي، ونشر أبحاثه وتجاربه عن طريق تصوير عدد من التماثيل في غرفة معتمة تماماً، للتدليل على وجود هذا الضوء وانبعاثه من الاشياء، وحاز كتابه على شعبية كبيرة حيث صدر بستة وعشرين طبعة خلال اقل من خمس عشرة سنة، وبعد الحرب العالمية الأولى رفضه العلماء واعتبروا تجارب لي بون خاطئة وأزيل مصطلح الضوء الأسود من قائمة المصطلحات العلمية ولا يذكر لي بون حاليا في تاريخ العلم.
تجارب لي بون
وما يهمنا هنا من هذا السرد هو المكانة التي حققها اللون الأسود في أعمال الفنانين الغربين في هذه الفترة وانعكاس الجدل العلمي في أبحاثهم الجمالية، فيرجح بعض المختصين في حياة ماتيس مثلا، بانه قد تأثر بكتابات وتجارب لي بون رغم عدم وجود تصريح مكتوب أو منقول عنه بهذا الصدد، لكن ولعه باللون الأسود ومقولاته المتكررة في أن استخدامه للأسود كلون للضوء وليس للعتمة، ووصفه لنفسه بأنه فنان ونصف عالم، وعدم خلو أية لوحة من لوحاته من اللون الأسود كل هذا وغيره يعتبر في رأي النقاد صدى لاهتمامه بالعلم عامة ولفكرة الضوء الأسود خاصة التي شغلته حتى آخر يوم من أيام حياته، وتعتبر لوحته التي رسمها لزوجته سنة 1914 مثالا واضحا حيث تبدو في خطوط دائرية متقاطعة توحي بالموجات الضوئية وبعينين سوداوين محفورة بين هذه الموجات، وعمله الكرافيكي الشمس السوداء التي نفذها بعد الحرب العالمية الثانية واحدة من الامثلة الاخرى على هذا التاثر رغم انها اقل شهرة، وهناك فنانون آخرون وأعمال كثيرة اخرى انغمسوا في التطور العلمي والتكنلوجي لا مجال لنا هنا في مناقشتها، ولكن نشير فقط الى رائد كبير اخر في هذا المجال هو الفنان الروسي ماليفتش الذي اعتبر اللونين الاسود والابيض أحد مكونات الضوء الأساسية مثل بقية الألوان وقد رسم اثنين من اشهر لوحات الفن التجريدي المعاصر على الاطلاق، وهما مربع اسود على مربع اسود سنة 1915والثانية مربع ابيض على مربع ابيض سنة 1918.
ثنائية الظلام والنور
هذا الفصل بين الضوء واللون الذي كان سائدا في التفكير الفلسفي والثقافي والديني والفني والموروث من التراث اليوناني، الذي وضع نيوتن له الحد، استمر رغم ذلك في تقاليد الفن الأوربي إلى وقت قريب، وقالوا كما قال قدماء اليونان بأن اللون نوعان نوع ثابت كما في ألوان بشرة الجسم أو الحيوانات أو النباتات مثلا، ونوع مؤقت كما في ريش الطيور التي يتبدل لونها حسب زاوية النظر أو القوس قزح وما شابه، رغم تأكيد العلوم على وحدتهما.
لقد انعكست ثنائية الظلام والنور لنظام الطبيعة في جميع أفكار الإنسان وقيمه الروحية أينما وجد، وأصبحت المقياس لكل تشبيه او تمثيل لغوي لأي حكم أو تقدير معرفي في نظام الافكار ما زلنا نعاني من وطأتها على نفوسنا بشدة في مجتمعاتنا وطرقنا في إصدار الأحكام والآراء والمواقف. وهذه الثنائية التي لاتقبل بالحلول الوسط، فأما أسود أو ابيض، هي من رواسب ذلك الماضي البعيد في تاريخ الانسان، وحياته الصعبة والمليئة بالخرافات والاوهام والأحلام.
لكن انتقال الإنسان من عالم الزراعة والمجتمع الفلاحي إلى عالم الصناعة والثورة العلمية والتكنولوجية قد فتت هذه الثنائية البدائية إلى نظام فكري جديد قائم على أساس التنوع والتعدد وكثرة الألوان بالآراء والمعتقدات، ولم يعد الرأي الواحد مهما كان صحيحا الا جزءاً من كل اوسع من الآراء والنظريات والافكار، وقد لخص الاقتصادي والفيلسوف البريطاني كارل بوبر هذا التنوع في جملته الشهيرة ان اي افتراض او نظرية لا يمكنها ان تكون علمية ما لم تقبل ان تكون خاطئة. وهذه النسبية في المعرفة هي الاساس الذي يقوم عليه مجتمع العلم والتكنلوجيا، فلا وجود لافكار أزلية احادية خالدة لاتقبل الانكار والدحض مهما بلغت متانتها وصحتها الآن، الا انها لن تكون هكذا بعد ردح من الزمن
وهذا ينطبق تماما على مشكلة اللون الأسود في حياتنا وفنوننا.
AZP09

مشاركة