مشكلة الجرائم العالمية
عبد الوهاب عبد الرزاق التحافي
في الاعلان الدولي الصادر عن المشاركين في مؤتمر الامم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في فيينا من 10 الى 17 / نيسان / 2000 ، اشاروا الى قلقهم ازاء الاثر الذي يتركه ارتكاب جرائم خطيرة ذات طبيعة عالمية على مجتمعاتهم ، واقتناعهم بضرورة التعاون الثنائي والاقليمي والدولي في مجال منع الجريمة والعدالة الجنائية والتنسيق والتعاون بين الدول في مكافحة مشكلة الجريمة العالمية ، واضعين في الاعتبار ان هذا الكفاح مسؤولية عامة ومشتركة …..
واشاروا في هذا البيان الى اهم صور الجريمة العالمية بانها :-
1) الجريمة المنظمة غير الوطنية .
2) الاتجار بالاشخاص ولاسيما النساء والاطفال وتهريب المهاجرين .
3) صنع الاسلحة النارية واجزائها ومكوناتها والذخيرة والاتجار بها بصورة غير مشروعة .
4) الفساد والرشوة في المعاملات التجارية الدولية .
5) الجرائم المتعلقة بالحاسوب .
6) جرائم العنف والارهاب . 7) الجرائم المرتبطة بالعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الاجانب .
8) جنوح الاحداث .
وفي مؤتمر الامم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة المنعقد في بنكوك للفترة من 18 n 25 نيسان / 2005 ، اشير الى ان الجرائم الاقتصادية والمالية اضحت من التحديات التي تواجه التنمية المستدامة في عالمنا المعاصر . ما في مؤتمر الامم المتحدة الثاني عشر لمنع الجريمة الذي عقد في السلفادور – بالبرازيل خلال الفترة من 12 – 19 / نيسان 2010 ، فقد تم التطرق الى خطورة جرائم الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية ، وضرورة منع جرائم الشباب ودعم اعادة تأهيل الجانحين الشباب وحماية الاطفال ضحايا الاجرام .
وجميع الجرائم العالمية المشار اليها في مؤتمر الامم المتحدة الثلاث المنعقدة خلال السنوات (2000 و 2005 و 2010) ليست جديدة ، وسبق ان حظيت بعناية عالمية واسعة ، وصدرت بخصوصها مواثيق دولية مازالت نافذة حتى الان ، نذكر على سبيل المثال :-
– اتفاقية الامم المتحدة لحظر الاتجار بالاشخاص واستغلال دعارة الغير الصادرة عام 1949 .
– الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها الصادرة عام 1973 .
– تدابير الامم المتحدة لمكافحة الارهاب الدولي المرفقة بقرار مؤتمر الامم المتحدة الثامن لمنع الجريمة المنعقد في هافانا سنة 1990 الصادر برقم (32) عن الانشطة الاجرامية الارهابية . – اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية والصادر سنة 1988 .
ولكنها اضحت في عالمنا المعاصر ، اوسع انتشاراً ، واكثر خطورة وتعددت صورها ، وازدادت ضحاياها مما استوجب تصعيد العناية الاممية بمشكلة الجريمة العالمية ، وتحديث بعض المواثيق الدولية ذات الصلة بمواثيق احدث ….. فنذكر على سبيل المثال :-
– في سنة 2000 صدرت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة غير الوطنيـــة .
– في سنة 2004 صدرت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد .
– في سنة 2005 صدرت الاتفاقية الدولية لقمع اعمال الارهاب النووي .
– في سنة 2006 صدرت اتفاقية الامم المتحدة لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري .
صور الجريمة
وواكبت الدول العربية ، الاهتمام الاممي بشتى صور الجريمة العالمية وصدر عن مجلس وزراء الداخلية العرب تجاوباً مع وصايا الجمعية العامة للامم المتحدة ، اتفاقية عربية تسهم بالكفاح الاممي ضد الجرائم العالمية ومن احدث هذه الاتفاقيات ، صدرت عام 2010 وهي :-
– الاتفاقية العربية لمكافحة غسيل الاموال وتمويل الارهاب .
– الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد .
– الاتفاقية العربية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية .
– اتفاقية تنظيم احكام التوقيع الالكتروني في مجال المعاملات الالكترونية في الدول العربية .
– الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات .
وكان مجلس وزراء الداخلية العرب ، وبالتعاون مع مجلس وزراء العدل العرب قد اصدرا اتفاقيات عربية اعتنت بمكافحة جرائم عالمية عديدة …….. ومنها على وجه الخصوص :-
– جرائم المخدرات والمؤثرات العقلية .
– جرائم الاسلحة الحربية والنارية .
– جرائم التعدي على حقوق الملكية المعنوية .
– جرائم التعدي على البيئة.
– جرائم الحاسوب والانترنيت .
– جرائم اخفاء اشياء متحصلة من جريمة (غسل الاموال القذرة) .
– جرائم الاحــــداث والشباب .
– جرائم العنف ضد المرآة .
ولكن البحث العلمي في مشكلة الجرائم العالمية في عصرنا الراهن يشير الكثير من المسائل فيها على وجه الخصوص .
اولا : هل ان النجاح في مواجهة مشكلة الجرائم العالمية يتوقف فقط على اصدار
اتفاقيات ( معاهدات او اعلانات او عهود ) دولية ؟
ام يحتاج الامر الى تنفيذ وتطبيق فاعلين لتلك الاتفاقيات ؟
بل واكثر من ذلك … هل ان (سلاح القانون) هو وحده القادر على مواجهة مشكلة الجرائم ؟
ثانيا : الاهتمام الاممي في الربع الاول من القرن الحادي والعشرين بالجرائم العالمية التي تطرقت لها مؤتمرات الامم المتحدة لمنع الجريمة ، الثلاثة التي عقدت خلال السنوات 2000 و 2005 و 2010 ، اقترن بمشكلة امنية عالمية خطيرة هي تفاقم جرائم دولية اخرى ، ليس من افراد بصفته الشخصية ، ولا من مجموعة اشخاص يشكلون عصابة اجرامية منظمة ، وانما من دول اعضاء في هيئة الامم المتحدة . يفترض انها حريصة على الالتزام باحكام ميثاق الامم المتحدة . والمعاهدات الدولية النافذة . واخطر هذه الجرائم هي :-
– جرائم الابادة الجماعية .
– الجرائم ضد الانسانية وفي مقدمتها القتل العمد والتعذيب والعنف الجنسي واضطهاد اية جماعة من السكان لاسباب سياسية او عرقية او قومية او اثنية او دينية والاختفاء العسري للاشخاص والفصل العنصري .
– جرائم الحرب وفي مقدمتها القتل العمد والتعذيب والحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات دون ضرورة عسكرية ، انتهاك حقوق اسرى الحرب ، اخذ رهائن والحبس غير المشروع … والانتهاكات الخطيرة الاخرى للقوانين والاعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة النطاق الثابت للقانون الدولي ..
– جريمة العدوان
فهل يكفي صدور نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لمواجهة مشكلة الجرائم الدولية التي يرتكبها اشخاص مسؤولون في دول ؟
ثالثا : منذ بداية القرن الحادي والعشرين وقع انتشار استعمال وسائل الاتصالات الحديثة ومنها (الانترنيت) و(الفيس بوك) وغيرها ، اتسع نطاق بممارسة الحقوق الانسانية في التعبير عن الراي او في التظاهر او الاعتصام ، باساليب وان كانت سلمية في الظاهر ، لكنها تجسد عمليا انتهاكات علنية لقوانين جنائية وادارية نافذة ، وتحدي واضح للسلطات المسؤولة عن حماية الامن العام ، وتجاوز غير مالوف في المطاليب السياسية التي وصلت الى المناداة بــ (اسقاط النظام ) …
ومع ان جميع دساتير الدول في عالمنا المعاصر تعترف بان (الشعب بصدد السلطات) ولكنها تتفق على ان الشعب يمارس سلطاته . بوسائل قانونية منظمة وفي مقدمتها (الانتخابات) .. والخلاف بين ممثلي الحكومة وفي مقدمتهم الشرطة . وممثلي الجماهير المتظاهرة ، انتج حالة اضطراب اني وتفاقم جرائم قتل وسلب وتخريب واحتلال مؤسسات عامة وسقوط ضحايا من المدنيين ومنهم نساء واطفال وشيوخ … فهل ممارسة الحقوق الانسانية يبيح ارتكاب جرائم خطيرة ؟
وكيف نحقق التوازن العادل في السلوك العام من احترام ارادة الجماهير الشعبية وضمان سيادة القانون والحفاظ على الامن والنظام في الدولة ؟
رابعا : لا خلاف في ان الارهاب – جريمة خطيرة موجب تعاون دولي منظم على وقف احكام المواثيق الدولية والاقليمية النافذة .. لكننا نرى ان تحول مكافحة الارهاب ، والقرن الجديد من عمل قانوني يدخل ضمن ( عمليات الشرطة ) وينفذ على وفق اصول تحقيق ومحاكمة جزائية مدنية لضمان فيها حقوق المتهم وتحترم فيها ضمانات العدالة الجنائية .. الى عمل عسكري ويدخل ضمن ( حركات الجيش) وينفذ على وفق (احوال الطوارئ ) التي غالبا ما تؤدي الى اعتقالات قائمة على الشبهات والظنون الكيدية .. وبالتالي سيعيش الشعب في اجواء (ارهاب الدولة ) .. فهل من الحكمة ان نواجه ارهاب المجرمين بارهاب الدولة ؟
خامسا : في الوقت الذي تنص جميع المواثيق الدولية النافذة وفي مقدمتها ميثاق الامم المتحدة .. وميثاق جامعة الدول العربية وميثاق منظمة المؤتمر الاسلامي وميثاق منظمة مجلس التعاون الخليجي على وجوب التزام الدول الاعضاء ومنها بمبدا عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى ، وعلى اساس ان هذا المبدا هو احد الضمانات لتحقيق الامن والسلم الدولي لكن المجتمع الدولي شهد في اواخر القرن الماضي تدخلات عسكرية في بعض الدول ضد دول اخرى بحجة (الدوافع الانسانية) وكانت هيئة الامم المتحدة تعارض تلك التدخلات ، لانها مخالفة للقانون الدولي …… ولكن ومع بداية القرن الحادي والعشرين ازداد ما هو معروف اليوم بـ (التدخل الانساني) بحجة (نشر الديمقراطية) و (اسقاط الدكتاتورية) و (حماية حرية الرأي) .. وتحول موقف الامم المتحدة تجاه هذا التدخل من معارض علني الى مؤيد ضمني .
ولم يعد هناك خلاف من ناحية القانون الدولي بان (الغزو) و (الاحتلال العسكري) و (حصار موانئ او سواحل دولة ما) و (ارسال عصابات او جماعات او جنود غير نظاميين او مرتزقة مسلحة من جانب دولة او نيابة عنها ينفذون اعمالاً تنطوي على استخدام القوة المسلحة ضد دولة اخرى) ، كلها تعد اعمال عدوانية … وينطبق عليها وصف (جريمة العدوان) .
فهل اصبح (التدخل الانساني) ستاراً لـ (الاجرام العالمي) ؟
اجابات موجزة
والان سنكتفي باجابات موجزة عن كل سؤال من الاسئلة السابقة وكما يلي :-
1) لا خلاف في السياسة الجنائية العالمية المعاصرة بان (سلاح القانون) سواء في تشريعه او تنفيذه او تطبيقه ، لا يكفي لوحده لمكافحة الاجرام وانما لابد ابتداء من تظافر احكام الدين وقواعد الاخلاق مع القانون …… ولابد من تغييرات تطويرية شاملة للانظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يضمن حكم الوطنيين المخلصين النزيهين من اصحاب الخبرة والتجربة المناسبة للادارة الرشيدة للدولة والمجتمع ، وبما يحقق العدل الاجتماعي ويصون الثروة الوطنية ويؤمن عدالة توزيع الموارد العامة في اجواء آمنة مستقرة تصان فيها الحريات العامة وحقوق الانسان .
2) ولا يكفي صدور نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لمواجهة مشكلة الجرائم الدولية التي يرتكبها اشخاص مسؤولون في دول … لان التطبيقات العملية لهذه المحكمة ، اثبتت انها عاجزة عن الوقوف بحزم ضد جرائم دولية ارتكبتها مسؤولون في دول كبرى ، لان المحكمة كشفت كونها تعتمد معايير مزدوجة في اجراءاتها ، حتى الان .
3) من غير المعقول ان تؤدي ممارسة الحقوق الانسانية الى ارتكاب جرائم خطيرة ، وبخاصة القتل والسلب والتخريب واحتلال مباني مؤسسات عامة وسقوط ضحايا من المدنيين فهم نساء واطفال وشيوخ … ولابد ان تلتزم دساتير الدول بتحقيق الموازنة العادلة بين التمتع بالحقوق الانسانية والالتزام بالواجبات الوطنيــــــــــة ومنها واجب احترام القانون والحفـــــــــاظ على النظام العام .
4) ليس من الحكمة ان نواجه ارهاب المجرمين بارهاب الدولة ، ومنذ سنوات ونحن نؤكد على انه (بالقانون والعدالة …. ينتهي الارهاب) .
5) اذا استمرت دول اعضاء في مجلس الامن بممارسة (اعمال عدوانية) ضد دول اخرى اعضاء في هيئة الامم المتحدة بدون قرار من مجلس الامن ، ودون التقيد بتشكيل (لجنة اركان حرب) نص عليها ميثاق الامم المتحدة ، فان هذا (التدخل الانساني) يعد جريمة عدوان متكاملة الاركان ، وهي من اخطر الجرائم العالمية واكثرها ايذاء للضمير الانساني .
وعلى العموم ، فان المجتمع الانساني لن يشهد امناً وسلماً دائميين ، ولن تنحسر الجرائم العالمية ولن يسود العدل الدولي ما لم تستعيد هيئة الامم المتحدة دورها القيادي لتحقيق اهدافها النبيلة ومقاصدها الشريفة لخدمة البشرية ، وما لم تنجز تماماً التصفية النهائية للاستعمار بشتى صوره واشكاله القديمة والجديدة .