مشروعان بين العروبة والإسلام
إدريس جنداري
حينما أثرنا النقاش؛ في دراسة سابقة؛ حول اشكالية العلاقة بين العروبة والاسلام في المشروعين؛ القومي والاسلامي؛ كانت غايتنا فتح نقاش عميق حول هذه القضية؛ سواء في بعدها الفكري أوفي بعدها السياسي؛ خصوصا وأن التيارين معا ظلا؛ لعقود؛ يمارسان سياسة صم الآذان في مواجهة الطرف الآخر؛ مع ما يستتبع ذلك من سياسة الغاء مدروسة؛ اما لمكون العروبة لدى التيار الاسلامي؛ أولمكون الاسلام لدى التيار القومي.
عود على بدء
لقد فكرت في تطوير هذا النقاش؛ بعد اطلاعي على الكثير من أدبيات التيارين الاسلامي والقومي؛ في علاقة بالمسألة؛ لكن ما استوقفني؛ أخيرا؛ هوأن هناك أصوات من التيارين معا؛ كانت على وعي كبير بالاشكالية؛ ولذلك سعت الى ممارسة نوع من النقد الذاتي؛ في علاقة بمرجعياتها الايديولوجية؛ ونحن تهمنا هذه الأصوات؛ التي استطاعت أن تغلب المقاربة الفكرية على المقاربة السياسية»الايديولوجية؛ في معالجتها لاشكالية العلاقة بين العروبة والاسلام. وقد نجحت؛ من خلال محاولتها هذه؛ في استعادة قسط من التوازن الذي اختل؛ طيلة عقود من الصراع الايديولوجي؛ كانت نتيجته؛ في الأخير؛ تهديد مباشر لمقومات الهوية العربية»الاسلامية؛ مع ما نشأ عن ذلك من اختلالات اجتماعية وثقافية وسياسية…
1ــ مراجعات الموقف الاسلامي.. السيد محمد حسين فضل الله نموذجا
ظهر التيار الاسلامي؛ في العالم العربي؛ في علاقة بالتحولات التي عرفتها الفكرة الدينية»الاسلامية؛ في سعيها لتحقيق العودة الى النموذج السياسي الخليفي؛ كما ظهر كرد فعل من الأعراق غير العربية فرس؛ أتراك؛ هنود… ضد مكون العروبة؛ الذي اندمج مع المكون الاسلامي؛ لقرون؛ الشيء الذي تجلى لهؤلاء؛ باعتباره تهديدا لانتمائهم العرقي؛ ولذلك فقد سعوا الى فصل الاسلام عن العروبة؛ محاولين بذلك تأكيد انتمائهم للحضارة الاسلامية؛ مع محاولة الغاء المكون العربي منها.
لكن؛ اذا كان الأمر واضحا؛ في علاقة بمختلف الأعراق غير العربية؛ فإن الغموض يلف موقف الحركة الاسلامية في العالم العربي؛ التي استنسخت المشروع الحركي الاسلامي؛ اما في علاقة بالمودودي أوفي علاقة بالخميني؛ رغم أن الرجلين كانت لهما أجندتهما الخاصة؛ في العلاقة بمشروعهما الفكري والسياسي؛ وهي أجندة لا يمكنها أن تنسجم؛ بالضرورة؛ مع المشروع الاسلامي في العالم العربي.
ان هذا الوعي؛ هوالذي استطاع أن يخترق المشروع الفكري؛ لواحد من أهم رموز الحركة الاسلامية ذات النزوع الشيعي ؛ وهوالمرجع السيد محمد حسين فضل الله الذي دافع؛ بقوة؛ في كتاباته عن الارتباط الوثيق بين العروبة والاسلام؛ وهذه شجاعة فكرية وسياسية نادرة من مرجع شيعي؛ استطاع أن يتمرد على الايديولوجية الشعوبية؛ التي صاغها القوميون الفرس؛ منذ العصر العباسي ومرورا بالثورة الخمينية؛ التي قلدت آيات الله كرسي الحكم.
يؤكد السيد فضل الله بوضوح تام لا مبرر على الاطلاق لمعارضة الاسلام بالعروبة أوالعروبة بالاسلام، الا اذا كانت العروبة جاهلية، أوكان فهم الاسلام شعوبياً مشوهاً والسيد فضل الله واضح هنا؛ في الفصل بين العروبة كامتداد حضاري؛ وبين العروبة كانتماء قبلي»عرقي ضيق الجاهلية ؛ وبنفس الوضوح يفصل السيد فضل الله بين الاسلام كواقع تاريخي لم ينفصل عن العروبة؛ وبين الاسلام الشعوبي؛ الذي تم توظيفه لتفيكيك أوصال الهوية العربية»الاسلامية الواحدة؛ الى هويات متصارعة.
وفي رسالة غير مباشرة لقادة الحركة الاسلامية في العالم العربي؛ الذين يسعون الى استنساخ نماذج الآخر لتوجيه الواقع العربي؛ يؤكد السيد فضل الله أنا لا أتصوّر أن معنى؛ بأن تكون اسلامياً هوأن تنكر صفوف أمتك.. فلك أرض أنت مسؤول عنها؛ ولك شعبك الذي هوجزء من مجتمعك ولك مستقبلك الذي يرتبط بأكثر من جانب .
هند عبيدين أولويات الوحدة والنهوض في خطاب الامام السيد محمد حسين فضل اللهــ مجلة تحولات ــ العدد التاسع عشر ــ شباط 2007.
ان السيد فضل الله يمتلك الوضوح المنهجي الكافي؛ حينما يفصل بين انتمائه المذهبي الشيعي؛ وبين انتمائه للعروبة؛ أرضا وأمة وشعبا؛ وهو هنا يوجه رسالة واضحة في كل الاتجاهات؛ وخصوصا في الاتجاه الشيعي داخل الوطن العربي؛ هذا الاتجاه الذي اختلط عليه الأمر؛ وتحول الكثير من رموزه الى دعاة شعوبيين؛ يخلطون بين المذهب والانتماء الحضاري للعروبة؛ المهد الأول للاسلام.
وفي حوار أجرته معه مجلة المستقبل العربي؛ يسعى السيد فضل الله؛ الى تأكيد العلاقة الوطيدة بين العروبة والاسلام؛ فهو يذهب الى أن الاسلام يمثل هذا الدين الذي هو في عقيدة المسلمين، والذي أنزله الله على رسوله في المنطقة العربية التي هي منطقة الدعوة الأولى، والتي أرادت للعرب رسالة يحملونها الى العالم ويضيف السيد فضل الله بكامل الوضوح فالقرآن انطلق في البداية لينذر أم القرى وما حولها، ولينذر المنطقة العربية. ولقد احتضن العرب الذين دخلوا في الاسلام، الاسلام كلّه. ومن الطبيعي أنهم أعطوه شيئاً من تجربتهم، ومن تمثّلهم له، ومن اجتهاداتهم في فهمه، ومن حركتهم في اتجاه تحريكه في وجدان العالم .
هذا الكلام ليس لقومي عربي متطرف؛ كما يحلو للبعض أن يصور؛ ولكنه كلام العقلاء من الذين أدركوا الحكمة؛ وخاضوا؛ بشجاعة أدبية؛ تجربة نقد ذاتي لمرجعياتهم الفكرية والايديولوجية؛ لأنهم يدركون أن التاريخ يمتلك ذاكرة حية؛ فهو يسجل كل الأحداث ولا يضفي عليها نزعة ذاتية يمكن أن تغير مسارها في الكثير من الأحيان. ولذلك؛ لا يمكن للشعوبية الفارسية أن تغير التاريخ؛ كما لم يكن بامكانها يوما أن تغير الجغرافيا؛ وذلك رغم المجهودات الجبارة التي بذلت؛ منذ العهد العباسي؛ حيث سيطروا على الحكم؛ والى حدود سيطرتهم الراهنة على مركز الحضارة العربية؛ في البصرة وبغداد.
عندما يعود السيد فضل الله الى هذا التاريخ المفترى عليه من قبل الشعوبيين؛ ويجول بعقله الباطن؛ لا يتردد في الصدع بما قد يقلق راحة آيات الله في طهران؛ لقد استطاع الاسلام أن يعرّب شعوباً أخرى، وأن يعرّب الكثيرين من العلماء والمفكرين من الشعوب الأخرى. وفي هذا المناخ، استطاعت العروبة أن تعطي الاسلام كثيراً من حيويتها الحركية، واستطاع الاسلام أن يعطيها الكثير من خصائصه الحضارية في مفاهيمه وتشريعاته ومناهجه، واستطاع أن يمنحها امتداداً، وأن يتداخل معها لتصنع العروبة بالاسلام الحضارة التي قيل عنها انها أم الحضارات .
وهذه ليست ايديولوجيا يروج لها السيد فضل الله؛ بل هي حقائق تاريخية ثابتة؛ فالاسلام يحمل روحا عربية؛ منذ بداياته الأولى والى حدود الآن؛ والمقصود بالعروبة هنا؛ ليس هوالانتماء العرقي الضيق؛ الذي يثور عليه الشعوبيون ويستبدلونه بانتماء عرقي أكثر ضيقا؛ بل العروبة كامتداد حضاري؛ ساهمت في بنائه شعوب مختلفة من آسيا الى افريقيا وأوربا؛ وهذا الغنى والثراء هوالذي سمح للعروبة بدمج الاسلام؛ كمكون أساسي؛ ضمن رصيدها الحضاري.
مجلة المستقبل العربي ــ العدد 281 ــ تموز 2002، حوار هاشم قاسم ــ محور العلاقة بين العروبة والاسلام .
اننا حينما نقدم موقف مرجع شيعي كبير؛ حول علاقة العروبة بالاسلام؛ فإنما نبتغي توجيه رسالة واضحة الى كل أقطاب الحركة الاسلامية؛ وخصوصا من نهل منهم من فكر الخميني أوالمودودي؛ مفادها أن العروبة تمثل روح الاسلام؛ ولذلك لا يمكن أن نفهم رسالة الاسلام فهما عميقا؛ الا من داخل البراديغم الثقافي العربي.
علاقة العروبة بالاسلام
2ــ مراجعات الموقف القومي.. الأستاذ ميشيل عفلق نموذجا
يعتبر الأستاذ ميشيل عفلق؛ الأب الروحي للتيار القومي العربي؛ مجسدا في أحزاب البعث؛ وهوبالاضافة الى كونه من كبار القادة السياسيين؛ فهوكذلك؛ من بين أهم رموز الفكر العربي الحديث. بدأ الأستاذ ميشيل عفلق حياته الفكرية والسياسية مدافعا عن التجربة العلمانية في العالم العربي؛ وهوبذلك كان منظرا للفصل بين العروبة والاسلام؛ معتبرا أن استعادة الأمجاد العربية؛ يجب أن يمر؛ بالضرورة؛ عبر الخيار القومي؛ لأن الاسلام يجمع مختلف الأعراق والأمم؛ وهوبذلك ليس مؤهلا لبناء تجربة سياسية عربية ناجحة. هذا ما كنا نعرفه عن رجل البعث الكبير لكن؛ هناك زوايا ظلت مجهولة في مشروعه الفكري والسياسي؛ ولم نعرها الاهتمام الكافي كباحثين ومتابعين؛ كما لم يعرها مناضلوأحزاب البعث الاهتمام الكافي كذلك. يحدثنا الأستاذ منير شفيق عن هذه الزوايا المجهولة في مشروع عفلق فيقول منذ حقبة السبعينات ــ واستقرار ميشيل عفلق بالعراق ــ بدأت قسمة الحديث عن الاسلام في مشروعه؛ فاتسعت مساحة الحديث عن الاسلام؛ وضمن هذا التطور أخذ الرجل يلقي الأضواء على الدور المحوري والمصيري لاكتشافه الاسلام ؛ منذ فجر حياته الفكرية والنضالية.. واكتشافه خصوصية العلاقة بين الاسلام والعروبة.. والدور المحوري والمصيري لهذا الاكتشاف في تميز صيغة البعث عن الصيغ التي كانت سائدة في ساحة الفكر والسياسة العربية في عقد الأربعينيات.. صيغ القومية المجردة من الدين؛ كرد فعل ضد هيمنة الدولة العثمانية على العالم العربي؛ أوتقليد للقوميات الغربية العلمانية؛ والصيغة الليبرالية الغربية.. وكذلك الصيغة الماركسية الشيوعية المادية. محمد عمارةــ التيار القومي الاسلامي ــ1997ــ ص 166
ان ما يهمنا من هذا الكلام؛ هوالتأكيد على المراجعات الفكرية التي خاضها الأستاذ ميشيل عفلق في علاقته بالاسلام؛ وهي مراجعات ترتبط؛ بالتأكيد؛ بموقفه الجديد من العلمانية؛ كما صاغها المشروع القومي. ويمكن التوقف في هذه المراجعات عند مرحلتين
خلال المرحلة الأولى؛ حاول الانفتاح على الاسلام كتجربة سياسية؛ استطاعت توحيد القبائل العربية المتناحرة في دولة واحدة؛ ولذلك؛ فقد كان يعلن أن ما يعنيه من الاسلام هو اسلام التجربة فقط؛ لأن اسلام الدين الصرف مفرق للأمة وليس جامع لها. محمد عمارة ــ ص 167.
المراجعات الفكرية الجريئة
خلال المرحلة الثانية؛ انتقل الأستاذ ميشيل عفلق الى الربط بين الاسلام الدين والاسلام التجربة؛ فأخذ يطور فكره حيال هذه القضية؛ فتناثرت في كتاباته الاشارات الى الربط بين الاسلام الدين والاسلام التجربة ــ محمد عمارة ــ ص 167. وكنتيجة لهذا التطور في فكر الأستاذ ميشيل عفلق؛ فقد أصبح الاسلام يمثل ركيزة أساسية ضمن مشروعه الفكري والسياسي لكن؛ أحزاب البعث لم تكن مؤهلة لتقبل هذه المراجعات الفكرية الجريئة؛ لأنها كانت تنظر اليها كتهديد للخيار العلماني للدولة؛ هذا الخيار الذي يحفظ مصالحها؛ في مواجهة المد الاسلامي المتنامي؛ والذي تمثله جماعة الاخوان المسلمين؛ التي كانت الشغل الشاغل لقادة أحزاب البعث؛ وخصوصا في مصر وسوريا؛ التي عاشت على ايقاع مواجهات عنيفة؛ بين الجماعة والأنظمة البعثية الحاكمة.
لكن؛ ورغم فشل التجربة على مستوى الممارسة السياسية؛ فإن الأستاذ ميشيل عفلق؛ واصل طريقه مدافعا عن العلاقة العضوية بين العروبة والاسلام؛ فهوحينما يتحدث عن هذه العلاقة يؤكد؛ الصلة بين العروبة والاسلام؛ كما نراها ونؤمن بها؛ هي صلة عضوية لا يمكن أن تنفصم؛ صلة تاريخ؛ وهي مستمرة منذ القدم؛ حية لا تموت؛ وهي أيضا صلة تجديد. ولذلك؛ فإن الأستاذ ميشيل عفلق لا يتصور أي نجاح للنهضة العربية؛ من دون استحضار هذه الرابطة العضوية بين العروبة والاسلام؛ النهضة العربية ستكون نهضة شاملة؛ نهضة في الفكر ونهضة في الدين ونهضة في الفن؛ ونهضة في البناء المادي والاقتصادي؛ ولذلك صلة العروبة بالاسلام؛ بصورة خاصة؛ صلة تجديد؛ أي اننا نستمد من فهمنا الثوري لحركة الاسلام قوة ثورية لتجديد عقليتنا؛ ولتجديد أوضاعنا الاجتماعية والفكرية .
وللأستاذ ميشيل عفلق ذاكرة حية ويقظة؛ تمكنه من ادراك القوة الكامنة في اتصال العروبة بالاسلام؛ هذه القوة التي اندفعت خلال مرحلة تاريخية ما؛ وتمكنت من تأسيس دولة عربية»اسلامية مترامية الأطراف؛ ان أمتنا قد عرفت عند ظهور الاسلام ما لم يتسن لأية أمة أخرى أن تعرفه؛ نحن كعرب عندنا هذا الرصيد الروحي؛ اذا حرصنا أن نبقي صلتنا حية بيننا وبينه؛ فإننا نعطي لثورتنا العربية ضوابط أخلاقية؛ وجوا فيه هداية وفيه ردع؛ وفيه ضوابط كثيرة نحن بحاجة ماسة اليها . ميشيل عفلق ــ في سبيل البعث ــ ج 3 ــ ص 84 ــ 85 .
لكن؛ الأستاذ ميشيل عفلق في تنظيره للعلاقة بين العروبة والاسلام؛ لا يندفع وراء غرائزه مغمى عليه كحال الكثير من ضحايا التخدير الايديولوجي؛ ولكنه يمنح هذه العلاقة طابعا استراتيجيا؛ فهوعندما يعود الى الماضي؛ يجد أنه بدون الاسلام كان يمكن لهذا الشعب العربي أن يبقى بعقلية قبلية؛ وبرغم سبق العروبة للاسلام؛ فإن النهضة العربية الأولى التي اقترنت برسالة الاسلام الدينية؛ هي التي كونتهم العرب كأمة. ميشيل عفلق آفاق عربية ــ ص 9 ــ عدد أبريل 1976. وهكذا؛ يستنتج؛ في علاقة بالمشروع العربي الحديث؛ أنه من الطبيعي أن يحتل الاسلام؛ كثورة عربية فكرية أخلاقية اجتماعية ذات أبعاد انسانية؛ أن يحتل مركز المحور والروح في هذا المشروع الحضاري الجديد لأمة واحدة ذات تاريخ عريق ورسالة حضارية انسانية . ميشيل عفلق ــ صحيفة الثورة العراقية 06ــ 11ــ 1985. ويجادل الأستاذ ميشيل عفلق؛ بالدليل التاريخي والمنطقي؛ كل من يمكنه أن يشك في جدوى هذه العلاقة؛ بل وفي امكانية تحققها بالأحرى؛ وذلك لأن هذا الارتباط بين العروبة والاسلام؛ في نظره؛ هوواقع حي تعيشه الأمة؛ وتتنفسه كالهواء؛ ولا يحتاج لاثباته الى براهين وأدلة؛ انه نتاج القرون والأجيال؛ ولكنه قبل كل شيء هوارادة الهية طبعت الحياة العربية ميشيل عفلق في سبيل البعث ــ ج 5 ــ ص 72
ويضيف مؤكدا قوة الالتحام بين العروبة والاسلام؛ ان الاسلام هووطن الأمة العربية الروحي والمادي؛ بكل ما تحمل كلمة وطن من معاني حب الأرض والأهل؛ وحب اللغة والتاريخ ميشيل عفلقــ في سبيل البعث ــ ج3 ــ ص 269.
لكنه؛ يستدرك في رد غير مباشر على الدعوات البعثية؛ التي تعارض بين الاسلام والحرية؛ باعتبار أن الاسلام سيفرض قيودا على الحضارة العربية وسيمنعها من التقدم؛ ولئن وجدت شعوب تنشد الحرية بالانعتاق من الدين؛ فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للاسلام . ويذهب الأستاذ ميشيل عفلق بعيدا في دفاعه عن العلاقة بين العروبة والاسلام؛ حينما يصرح ولذلك؛ فإن الدفاع عن الاسلام هومهمة القوميين الذين يريدون أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء . ميشيل عفلق في سبيل البعث ــ ج3 ــ ص 224.
بصراحة؛ لقد ذهلت وانأ اطلع على هذه الأفكار الحكيمة لأستاذ وقائد التجربة القومية في العالم العربي؛ والتي تتعارض مع كل ما يروج عن الرجل؛ في علاقة بانتمائه المسيحي من جهة؛ وكذلك في علاقة بقناعاته القومية»العلمانية من جهة أخرى. لكنني في نفس الآن؛ أشعر بخيبة أمل كبيرة؛ لما آلت اليه هذه الأفكار النيرة من مصير مأساوي؛ على أيدي سماسرة أحزاب البعث؛ الذين لا يهمهم سوى السيطرة على الشعوب؛ باعتماد الاكراه المادي والرمزي؛ وهذا كان سببا كافيا للسقوط المدوي الذي يضرب أحزاب البعث؛ من المشرق العربي الى مغربه.
على سبيل الختام
ان الذين يزعمون امكانية الفصل بين العروبة والاسلام؛ من الاسلاميين والقوميين؛ لا يستوعبون الكثير من معطيات التاريخ والثقافة ولذلك؛ فهم يتصورون؛ بشكل مختزل؛ أن الاسلام أحكام شرعية وشعائر؛ لكنهم يجهلون أن الاسلام؛ في العمق؛ رؤية للعالم Vision du Monde ؛ تشكلت عبر قرون من التفاعل الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ الذي كان مؤطرا بمرجعية فكرية عربية Epist m ومشبعا بمتخيل عربيImaginaire. وكل هذا يدفعنا الى التأكيد؛ من منظور علمي؛ على أن الثقافة نظام في غاية التعقيد؛ وليست مكونا ماديا؛ يمكن تحليله باعتماد نظريات الفيزياء. لذلك؛ يظل واجب العلوم الانسانية؛ هوالتنبيه الى مواطن الخطر؛ الذي لا يشعر به السياسي»الايديولوجي الا بعد أن يداهمه في عقر داره. ونحن هنا لا نتحدث في المجردات؛ بل ان الواقع يؤكد صلاحية هذا التحليل. ففي علاقة بالنموذج الاسلامي الحركي الذي حاول الغاء المكون العربي؛ فإنه لم يظفر من الحضارة الاسلامية الا بالفتات؛ أما الباقي؛ فهوترسبات تجد امتدادها في الأصول الثقافية والاجتماعية والسياسية ما ــ قبل الاسلامية؛ ويمكننا هنا أن نستحضر النموذج الافغاني؛ وكذلك النموذج الايراني… وفي كلا النموذجين تم الاستناد الى الاسلام لكن؛ بعد افراغه من متخيله العربي وبعد تكسير نموذجه الثقافي؛ وكذلك بعد تفكيك رؤيته الى العالم؛ والنتيجة هي كما نرى؛ في أفغانستان ما زالت البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية ما ــ قبل الاسلامية هي السائدة؛ رغم لباسها الاسلامي. وفي ايران نموذج اجتماعي وثقافي وسياسي فارسي قديم؛ يستمد شرعية استمراره حاضرا بالاستناد الى تأويل النص القرآني وأحداث التاريخ الاسلامي؛ كي تستجيب لنزوات آيات الله في تحقيق النموذج الامبراطوري القديم.
وفي علاقة بالنموذج القومي؛ فإن الأمر لا يختلف عن سابقه؛ لأن القوميين العرب الذين سعوا الى الغاء المكون الاسلامي؛ باعتماد قراءة مبتسرة للعلمانية فشلوا؛ في الأخير؛ في بناء نموذج اجتماعي وسياسي وثقافي منسجم؛ بل ان محاولة الغاء البعد الاسلامي ساهم؛ الى حد بعيد؛ في افشال المشروع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي الحديث بل؛ على العكس من ذلك؛ تم فتح المجال لعودة الروح القبلية القديمة التي ساهمت في تفكيك أوصال المجتمع والدولة؛ عبر اشعال حروب طائفية؛ كانت الأنظمة السياسية؛ في البداية؛ تستثمرها لفرض هيمنتها على المجتمع والدولة؛ قبل أن ينقلب السحر على الساحر؛ لتصبح هذه الأنظمة؛ نفسها؛ ضحية استعادة المكبوت القبلي القديم.
كاتب وباحث أكاديمي
/5/2012 Issue 4209 – Date 26 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4209 التاريخ 26»5»2012
AZP07