مشاهد مطرية – جبار النجدي
ثمة اسباب كافية للاعتقاد بأن المطر هو من اقدم الممتلكات الشخصية للطبيعة فلا ابتداء له من جهة الزمان وبمعونته تستجمع الارض قدراتها على الانبات مانحة الكائنات اسباب وجودها .
لايخلو المطر من ضبابية فاتنة ولم اره يوما الا كائنا عيانيا جذابا .
ادين للمطر باول معرفة لي بفنون الاداء الصوتي حيث الخرير الذي لاينقطع والنشيج المؤتلف من الاصوات المشفوعة بمناخ احتفالي معمد بالمياه طالما رأيت الاشجار تقف تحته لتحتفل عارية.
يلهمنا المطر عبر نبرات زخاته فكرة فريدة عن الماء حينما يكون ناطقا فليس بوسع ذاكراتنا مفارقة تلك الاشراقات من العواطف لحظة يقرع سطوح بيوتنا بحشد متشابك من الاصوات مستعينا بقدرته على محادثة الاشياء وتقويلها والتي تكاد ان تضعه في مرتبة الكائن الحي ناهيك عن المشاعر التي يولدها في لحظة ما ويتشاطرها كثيرون فعندما يتبدل مزاج السماء في لحظات قلائل تستأثر بنظرنا حباته التي تراقص الريح والتي تكون ممزوجة احيانا بكرات البرد الشديدة البياض اننا نتوارث الكثير من الاشياء عبر المطر وبأمكان كل منا رؤية بريقه المتقد في ارجاء المعمورة المترافق مع عالمية الغيمة وهي تعيد تجارب المطر في كل مكان من المعمورة فوق المدن والجبال والصحاري والمحيطات ومجاهل الاصقاع البعيدة .
يوفر المطر فرصا فريدة ونادرة للالتقاء بشريك مجهول قد يقع في طرف من بلاد اخرى ويتمتع بفضاءات مطرية مماثله ربما يجعله المطر ينعم بمشاهدة كائنات العالم باسرها ويتيح في الوقت ذاته العودة السعيدة الى مباهج الطفولة في فهم الظواهر الطقسية فيشدنا خاطر مبهم الى غيمة ماطرة تستحضر بين ثناياها اعجوبة التجاور الفطري لالولن قوس قزح.
ينهار المطر من السماء فيحادثنا بالفاظه المائية ثم ما ان تلبث الغيمة ان تهوى على الارض مفرغة ذاتها من اجل غنى الآخرين.
مروضة قسوة الجفاف ومتيحة الفرصة لانعقاد العلاقات الملائمة للانبات.
ما ان يبدأ المطر بالتصبب حتى يصبح اكثر الموجودات حضورا انه يربك الطبيعة ويتسلق كائناتها ثم تتضاءل المدن خلف عتمة مراياه وتحيد عن صورتها المألوفة تختفي ثم فجأة تعاود الظهور في اللحظة التي تضاء فيها قبة السماء وتكشف عن سعتها في ضوء البرق الكاشف لوجه السماء بلمح خاطف.
مشاهد سطرية
على هذا النحو تشتد حاجتنا الى المطر فلا نرى في الصحو الا شكلا فارغا بمقابل البيان الطقسي ليوم ماطر ملئ يالكتل المائية الهابطة والمحملة باسباب الحياة.
تفصح مخيلة ورؤى الكاتب محمد خضير عن التقاط اربعة مشاهد مطرية تشير الى الاتصال بين بعض امكنة العالم تفصلها اصقاع وبحار ومحيطات وازمنة لكن ثمة مذياع وضع قرب النار.
مذياع واغتية عن الامطار التي تهطل على شوارع (كاراكاس) وفي ذات الوقت على السفن الراسية في (باب المندب) وعلى اسلحة الثوار في مشارف العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) وعلى المدرعات المعطلة في سيناء ان المعنى الاكثر سرية لثراء صورة المطر تكمن في قدرته على اقامة الاتصال بين الناس بموجب ايقاظ غريزة الاحتماء الجماعي حيث يصبح التقارب التام بينهم ارضاءا لحاجات جسمانية يثيرها المطر اذ يتبادل حاملوا المظلات المتنقلة مشاعرا نادرة تبعثها حالة التخفي تحت مظلاتهم .
يظهر الكمأ بوصفه بياضا يبزغ من سواد الارض لكن ليس على هدي الصدفة وحدها فالغيمة الربيعية الجوالة يضعها الخيال الفطري على مفترق طرق ويتوزع مصيرها بين خيارات ثلاثة .
البرق
الرعد
الكمأ
وأجواء معبئة بدمدمات رعدية مفرطة تهتز لها الارض وتتيح للكمأ ان يخرج منها مشرأب الاعناق ان ثمرة الكمأ هي نتاج زمن وسيط يقع بين زمنين متضاربين احدهما صمت مطبق يسبق ذروة الرعد ويرجأه الى حين والآخر يعقبه ويدفع به الى العلن.
في البرية يعرض المطر نفسه بصورة حية مالئا ارجاء المكان تظهر الغيوم في البراري بشكل متفرق ثم ماتفتأ ان تحتضن السماء بأكملها لتتحول بعد حين الى فيض مائي منهمر ملئ بالاحداث والصور فيلوح على مدى البصر ظلام البرية لكنه ينشق فجأة بفعل سطوع البرق وسرعان مايعود الى الالتحام .
ان البادية يمقدورها ان توافينا بشئ من حكمة البداوة الطقسية الموصولة باشخاص يمكنهم استكشاف ماتخبئه الغيوم من نوايا مطرية وتشخيصها بالنظر اليها حسب فهي اما امطار (الوسمي)او(الطش والرش) او (الديمة) او (الودق) او (الغيث المنهمر) ويسمى المطر الرحيم يصيب الارض فيخصبها فتستدبره الريح وتسوقه حيث ماتشاء الى مواطن الكلأ.
يجني المتنلقون في الصحراء ثمار الغيث المتصلة بالنفع لكنهم يعرفون ان المراد بالامطار عواقبها لاعواجلها ولا احد بمقدوره ان يعلم بمقادير ومنازل المطر لكن المطر في النهاية يوفي الارض حقها فيصيب (اليابس المتهافت) ليجعل الخضرة اسرع اليه ان الغيوم في البراري يستفرغها العطاء من غيثها لكنها في نهاية الامر تزيح عقدة عجز الارض وتقطع صلتها بالجفاف .
بوسع متتبعي الأثر تعقب معاني ودلالات حبات المطر التي ترسم اشكالا غريبة على رمال الصحراء من شأنها فك رموز مجهولة للمطر وماتتلقفه الارض من عطاء يجمع في قبضة واحدة خيوط المطر كلها حيث تنشط ذاكرة الارض وتنتعش بمطر مدرار لاتأخذه هوادة.