مشاهدات من أرض الكنانة مصر العربية (8) – رعد أبو كلل الطائي
سيدي أبو العباس وجهة روحانية وسياحية هامة في الإسكندرية
المرسي يتميّز بنمط يعكس الطراز المعماري الأندلسي
جامع أو مسجد أبو العباس المُرسي، أو كما يُسميهِ أهل الإسكندرية جامع المُرسي أبو العباس، وهو أحد أقدم وأشهر المزارات والمساجد التي بُنيتّ في الإسكندرية، لأحد أولياء الله الصالحين في مصر والعالم العربي، سيدي المُرسي أبو العباس، الذي حفظَ الحديثَ والقرآن والتفسير كاملاً في عامٍ واحدٍ، فظهرتّ عليهِ علامات النجابةِ والفقهِ في سنّ الخامسةَ عشرَ، وتعلَمَ التجارةَ مِن والدهِ، في مدينة مرسيه في الأندُلس، وأنشأَ مدرسةً لحفظ القرآن الكريم، ودرّسَ الفقهَ والسُنةَ حتى أصبحَ له مُترددون من جميع أنحاء العالم، هذا ما يقولُهُ جابر قاسم وكيل الطرق الصوفية والأضرِحة في الإسكندرية، موضحاً إن مسجِدَ المُرسي أبو العباس واحداً من أهم المساجد العربية لمكانته في مصر والعالم العربي أجمع، ويتوافد لزيارتهِ سنوياً أعدادٌ تصل إلى الآلاف من جميع بلدان العالم .
صُرحٌ تُراثيٌ
كانَ لي الشرف والشغف، لأرى هذا الصُرح التُراثي الأيماني، إذ أنيّ سمعتُ الكثيرَ عنه، فحزمتُ أوراقي في حقيبتي وأتجهتُ صوبَ المسجد، بعدَ أن أمضيتُ في صعودي سيارة تكسي، وسلكتُ جنوب الطريق السريع السياحي الساحلي، ومسجد المُرسي أبو العباس يقع تحديداً في منطقة بحري بالكُمرك، التي كانت في السابق مقبرةً للأولياء، ويشرفُ على الميناء الشرقي بالأنفوشي، وصلتُ إلى موقع المسجد، فإذا انا أمامَ بناءٍ شامخٍ بهيٍ في فُسحةٍ جميلةٍ، والمسجد يطلُ على ميدان المساجد، والميدان الذي شاهدناهُ عن قربٍ ليس مساحةً خاليةً أطلَ عليها المسجد بالمصادفة فصارت ميداناً، بل كان الميدان، كما بينَ لي أحدَ شيوخ المسجد، جُزءاً من مشروع وزارة الأوقاف لإعادة بناء مجموعة من الجوامع والمساجد، والزوايا والأضرِحة والمقامات المحيطة بمسجد سلطان الإسكندرية (مسجد المُرسي أبو العباس) والقريبة منه، وتتفرع الشوارع من الميدان، وتبدأ به وتنتهي فيه التظاهرات والأجتماعات السياسية وفرق الطرق الصوفية، وجولات الأنتخابات، ومواكب الزفاف، والأعلام والبيارق والأكشاك والخيام والسرادُقات، والدعوات وحلقات الذِكرّ، وتستطيع التعرف والوصول إلى موضع المسجد عِندَ إنحناءَة السلسلة هي وحدها مآذن أبي العباس، والتي تعلو كل البنايات إذ يتميّزّ بقبابهِ المُميزةَ الشكلِ، وهو من أهم ما يُميزّ منطقة أبو العباس في منطقة بحري بمدينة الإسكندرية، وأسترسلَ شيخُنا قائلاً، يضُمُ هذا المسجد ضريحَ الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخزرجي الأنصاري المُرسي، الذي يتصل نس بالصحابي سعد بن عبادة .
وقالَ مُحدثي الشيخ عن سيرة أبو العباس المُرسي موضحاً، ولِدَ سلطان الإسكندرية أبو العباس عام 616 هجرية الموافق 1219 ميلادية، وخرج مع أبيه وأُمهِ وأخيه أبي عبد الله، وركبوا سفينةً في البحر عن طريق الجزائر وتعرضت السفينة إلى هيجان الأمواج، ورياحٍ بحرية قاسية عند بوفة التونسي حتى أُغرقتّ، ونجا ولداهُ من الغرق فأستقرا في تونس، وعملَ أخيهِ أبو عبد الله بالتجارة، فيما فتحَ أخيه أبو العباس مكتباً في زاويةٍ الفقيه محرز بن خلف لتلقين الصبيةَ سورٍ من القرآن الكريم، وتعليمهمّ القراءة والكتابة، والخط والحساب، وسمِعَ أبو العباس، عن صوفيٍ هو الشيخ أبو الحسن الشاذلي، يُقيمُ مجالسَ للعلم، أسفلَ جبل زغوان، وسعىّ أبو العباس للِقاء الشاذلي وحضرَ مجالِسهُ، وأنصَتَ إلى دروسِهِ، وإرشادِهِ ونصائِحهِ، سألَهُ، فيما أستعصى عليهِ فهمهُ، وكان يُجيبهُ الشاذلي بِما أفادَ كُلَّ المُريدينَ، وصحِبَ أبو العباس أُستاذهُ مُنذُ ذلك الحين، كما يذكُر الشيخ، ولازَمَهُ بقيةَ حياتهِ، وأخذَ مِنهُ وقالَ الشاذلي يا أبو العباس، ما صحِبتُكَ إلا لتكونَ أنتَ أنا، وأنا أنتَ، وقال له يا أبو العباس، فيكَ ما في الأولياءِ وليس في الأولياءِ ما فيكَ، وأحبَ الشاذلي أبو العباس، وزوجهُ إبنته وأنجبَ مِنها أبناءَهُ، جمال الدين محمد وأبو العباس أحمد ومُهجة التي زوجها فيما بعد من مريدة ياقوت العرش . وتقولُ مدونات الجامع : إن أبا العباس المُرسي جاءَ إلى مصر عام 642 هجرية، وأقامَ في الإسكندرية 43 عاماً وتنقلَ بين المُدن المصرية إلى أن مات في الخامس والعشرين من ذي القعدة عام 686 هجرية، ودُفُنَ في الإسكندرية في مقبرة باب البحر، وأُقيمَ بناءٌ على قبرهِ حتى يُميزُهُ الناس عن القبور الكثيرة المُقامة حوله، ثُمَ في عام 706 هجرية، بنى عليهِ الشيخ زين الدين القطان كبيرُ تُجار وبنائي الإسكندرية مسجداً، وهو من محبي آل البيت عليهم السلام، وجدَدَ الضريح، وبنى المسجد، وجعلَ لهُ منارةً مُربعةَ الشكل، وأوقفَ عليهِ بعض أموالهِ، وأقامَ له إماماً وخطيباً وخدماً، وظلَ المسجد كذلك على هذهِ الصورة، حتى أمرَ الملك فؤاد الأول، بإنشاء ميدانٍ فسيحٍ يُطلق عليهِ ميدان المُرسي، على أن يضُمَ مسجداً كبيراً لأبي العباس المُرسي، ومسجداً للإمام البوصيري، والشيخ ياقوت العرش، وهو مبنىً على الطراز الأنُدلىسي، وبهِ أعمدةً رُخاميةً ونُحاسيةً وأُخرى مُثمنةّ الشكلِ، وإن أهم ما يُميزّ المسجد، زخرفتهُ ذات الطابع العربي الأنُدلسي وتعلو قُبتهُ الغربية، ضريحَ أبي العباس وولديهِ .
تأريخ تجديدهُ
كما تذكُر مدونات المسجد، في عام 882 هجرية والموافق لعام 1477 ميلادية، أصاب المسجدَ الأهمالَ حتى أعادَ بناؤه الأمير قجماش الأسحاقي الظاهري أثناءَ ولايتهِ على الإسكندرية، في عصر الملك الأشرف قاتيباي، وبنى لنفسهِ قبراً بجوار قبر أبي العباس ودُفنَ فيهِ عام 892 هجرية، كما قام الشيخ أبي العباس الخزرجي بتجديد المسجد، ليظلَ مَهيباً في وجه الزمن، وفي عام 1179 هجرية الموافق لعام 1775 ميلادي حظيَ المسجد بزيارة الشيخ أبي الحسن المغربي، وأطلعَ على ضريح مُرسي أبي العباس، فشاهدَ ضيق المسجد، فأشرف هو بنفسهِ على تجديده، وشمِلتّ فقرات التجديد، توسيع المسجد وتحديثّ مقصورتهِ وقُبتهِ .
وأختُم وأقولّ :
سيظلُ مسجد سيدي المُرسي أبو العباس، واحداً من أهم المعالم الروحانية الدينية في أُم المدن الإسكندرية ويُمثلُ تأريخاً طويلاً من التغييرِ والترميمِ ما بين العصور الإسلامية المختلفة وحتى العصر الحديث، بموقعه الإستراتيجي بالقرب من الميناء الشرقي، وبتصميمه المعماري الفريدّ، وسيبقى المسجد وجهةً روحانيةً وسياحيةً هامةً في المدينة، وجُزءً ﻻيتَجزّء من تأريخِها الآثاري العريق .