مشاهدات من أرض الكنانة مصر العربية (4)
رأس التين في الإسكندرية من أقدم وأعرق القصور الملكية
صرح مُشابهٌ لقصر عابدين في القاهرة لكنهُ أصغرَ مِنهُ
رعد أبو كلل الطائي
الإسكندرية هي من أيقونات الحضارة والثقافة، وهي من أحلى المدن الواقعة على ساحل البحر المتوسط، وحينما تذكر مدينة الإسكندرية يتبادر إلى الأذهان مدينة لا تشبه غيرها من المدن، تجمع بين عراقة التأريخ ورونق الحاضر، وتحتضن بين طياتها شواطئ مُذهلة، وأجواء بحرية آسرة، ومعالم تأريخية تروي قصصاً قديمةً من الإرث اليوناني والروماني، ومن مكتبتِها التي تُعدُ رمزاّ للمعرفة والعلم إلى قلعتها الشهيرة التي تقف شامخة باسقة على البحر، فهي مدينةٌ تحمل في طياتها قُصصاً لا تنتهي شاهدةٌ على عصورٍ أزدهرتّ، ثم عبرتّ تاركةً إرثاً يضجُ بالجمال والعظمة، تُقدم المدينة لزوارِها مجموعة من الخيارات الترفيهية التي تناسب مختلف الميزانيات، فستجد في هذه المدينة الشواطئ الساحرة، التي تجمع بين الجمال الطبيعي والأجواء الفريدة، كما يُمكن أن تُشاهدَ معالِمَ حضارية وآثارية، وأنشطةٍ مُمتعةٍ وبأسعارٍ معقولة .
الباخرة المحروسة
وقصر رأس التين هو تحفةٌ وواحدٌ من أقدم وأعرق القصور الملكية في مصر، بُنيَّ على الطراز الأوربي لكثرة الجاليات الأوربية في حينِها في مدينة الإسكندرية، وهو أعظم قصر على البحر المتوسط، إذ يعكُس هذا القصر، عِبق التأريخ، وبهاء الهندسة المعمارية الدقيقة، وشاهداً على تحولات الزمن، بُنيَّ القصر في عهد محمد علي باشا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، ليكون مقراً صيفياً للحكم في مصر، ومركزاً للضيافة الرسمية، ولمعرفة المزيد عن قصر رأس التين، أجريتُ زيارةً نحو القصر فركبتُ الأوتوبيس الأحمر ذات الدورين السياحي حسب ما يقوله المصريين، ىمن محطةٍ من أمام فندق شيراتون المتنزه والمجاور لبوابة المتنزه الرئيسية، ( وتسمية الأوتوبيس الأحمر عندنا هو مصلحة نقل الركاب ذات الطابقين)، وهذا الأوتوبيس وفرَتهُ هيئةُ السياحة والآثار في الإسكندرية للزوار كافة، والذي ينطلقُ من أقصى نقطة في شمال الطريق السياحي على شاطئ البحر المتوسط إلى أقصى نقطة في جنوب الطريق السياحي الساحلي، وهو بمثابة بساطٌ سحريٌ يأخُذُكَ في جولةٍ خياليةٍ، ترى المدينة كُلها تحتكَّ كلوحةٍ فنيةٍ تتحرك، وكورنيش شواطئ البحر المتوسط يمرُ أمام عينِكَ كشريطٍ سينمائي، فيما يُسحرُكَ صوت وامواج البحر وخرير مياهه، وإن كل زاوية وشارع وحي ومبنىً تمرُ من خلالهِ، يحكي لك قصةً تعيشها أول مرة، هذا حُلمٌ، وهو بمثابة جولة مفتوحة على جمال الإسكندرية، وخلال جولتنا في الأوتوبيس تخطينا عدة محطات على شواطئ البحر، منها محطة شارع خالد بن الوليد، وكوبرى شاطئ ستانيلي، بعدها لاحَ أمامُنا من جهة اليسار حي المنشية والأنفوشي، وبعد مسيرة حوالي نصف ساعة أصبحنا أمام بنايةَ قصرٍ كبيرٍ مُنتصب على شاطئ بحر الإسكندرية، ويجاورهُ قلعة قاتيباي التإريخية .
ترجلنا من الأوتوبيس وانطلقنا نحو القصر المنشود، وهو يتميّزّ بموقعه الساحر على شاطئ البحر المتوسط ويطلُ على ميناء الإسكندرية وخلال دخولنا القصر، رأينا قاعات فاخرة وجدران مُزخرفة جلُها منقوشةً بنقوش اندلُسية، في حين كان القصرُ محاطاً بحديقة واسعة، ضمتّ مجموعة متنوعة من الأزهار النادرة والفريدة، وملاعب للتنس، كما أحتوى القصر أيضاً على العديد من المرافق الآثارية التي تُميَّزهُ وتجعله من أرقى وأهم أماكن الجذب السياحي في الإسكندرية، ومن أهم مرافق القصر الآثارية التي شاهدناها، البهو الرئيسي والقاعة القوطية، والقاعة الرخامية التي حُليتّ جدرانُها بأربع لوحات جدارية، تُمثِل إحدى القصص من الأساطير اليونانية، وقاعة الملك فؤاد ومسجد محمد كريم والصالون الملكي، والأنتيكات الآثارية وقاعة العرش، واللوحات التأريخية، كما أحتوى القصر على قاعة القُبة التي تتميز بوجود نجفة عملاقة من الكرستال تزن ثلاثة أطنان ونصف طن، أحضرها الملك فاروق إلى القاعة، وبجوار القصر رأينا مرسى اليخت الملكي (الباخرة المحروسة)، وهي الباخرة التي حمِلت الملك فاروق في 26 يوليو تموز عام 1952 ميلادي من ميناء رأس التين متوجهاً إلى منفاهُ في إيطاليا، بعد أجباره على التنازُل عن عرش مصر لنجلِهِ الأمير أحمد فؤاد، وقيام ثورة 23 يوليو تموز عام 1952 ميلادي، وودعته البحرية المصرية أنذاك من على رصيف سراي رأس التين بإطلاق أعيرةَ مدافعِها تحيةَ وداعٍ لملك مصر السابق .
تأريخ القصر
وعن تأريخ قصر رأس التين حدثنا أحد مندوبي السياحة والآثار والذي أصطحبنا خلال جولتنا في القصر قائلاّ :
أمر محمد علي باشا الكبير أن يُشيدَ قصر رأس التين على هيئة حُصنٍ عام 1834 ميلادي.
ليضُمَهُ إلى القصور الأخرى التي يملُكُها في الإسكندرية، مثل قصر المحمودية، وقصر إبراهيم باشا، وليكون مقراً لحُكمهِ بمدينة الإسكندرية، وهو أول قصر شيده محمد علي باشا في منطقة ساحلية على شاطئ البحر المتوسط، أشتهرت بزراعة أشجار التين بكُثرة، فسُميَّ بسراي رأس التين، وهو يشبه قصراً إيطالياً كبيراً في عصر النهضة، وكان محاطاً ايضاً بحدائق تينٍ خلابةٍ، ليمنحهُ إسمه قصر رأس التين ووضع تصميم القصر المهندس الفرنسي (سير يزي بيك)، عام 1834- 1847 ميلادي، وأستغرق العمل فيه 13 عاماً، ولم يتبقَّ من هذا القصر القديم سوى البوابة التي تحمل أسم محمد علي باشا الكبير وبعض الأعمدة المصنوعة من الجرانيت، وأوضحَ المندوب، وفي عهد الخديوي أسماعيل، صارَ قصر رأس التين المقر الصيفي لحكام أسرة محمد علي، وأدخلَ الباشا محمد علي في القصر التلفون ولأول مرة، في أواخرِ حُكمهِ في عام 1879 ميلادي . وفي عهد الملك فؤاد قامَ بإعادة بناء القصر فجعله مكوناً من ثلاثة طوابق فأصبح بناؤهُ وآثاثهُ أكثرَ جماليةً وعصريةً، وبنى على جزءٍ من مساحة القصر مسجداً ذي طابعٍ معماريٍ دقيق ومُميزٍ وكانت الأميرات في أثناء الصيف يلحقنَّ بالملك فاروق في قصر رأس التين في الإسكندرية، وأنشأ الخديوي إسماعيل محطةً للسكك الحديدية داخل القصر تنقلهُ وأسرتهُ من الإسكندرية إلى القاهرة وبالعكس .
وكما أشار، كان لهذا القصر حمامٌ للسباحة، له بهو مغطىً بالزُجاج، وقد أنشأ الملك فاروق حماماً بدلاً منه على حاجز الأمواج بعد الحرب العالمية الثانية، في مكانٍ كان مُعداً ليكون موقعاّ للدفاع الجوي عن ميناء الإسكندرية، ثُم تم ربطه لاحقاً برصيف طويل بقصر رأس التين، وكان الملك يصل إليه براً بعربتهِ الجيب، في حين أُلحِقتّ به بنايةً خُصصت كأستراحة له، تحتوي غُرفةً للنوم، ومكتباً كاملٍ لإعداد الطعام، وحُجراتٍ مملؤةٍ بأدوات الصيد البحري، وقد تسلمتها في السنوات الأخيرة، حسب قول مندوبنا، القوات البحرية في الإسكندرية، بعد أن تم سحب كافة متعلقات الملك فاروق، وشقيقاته الأميرات السابقات، إذ كان هذا المكان المصيف الرئيسي لهن في الإسكندرية، كما يضمُ الطابق الأرضي للقصر صالوناً مُخصصاً للحرملك ذو الأُبهة والعظمة، وأجنحةً للخدم والحاشية، وقاعةً مستديرةً، وفي هذه القاعة وقع الملك فاروق وثيقةَ تنازله عن العرش، أما بهو القصر ففيه صالةً مستديرةً ثالثةً تصل إلى السُلم الموصل إلى مرسى الباخرة المحروسة، وإلى جوار القصر تقع محطة السكك الحديدية الخاصة التي تصل إلى داخل القصر، والتي كانت هي الأخرى مخصصة لإنتقالات الملك .
نزول كبار ضيوف مصر
وبعّدُ أقول :
إن سجلات قصر رأس التين تقول، إن قصر رأس التين هو القصر الوحيد الذي شَهِدَ بزوغ نجم أسرة محمد علي باشا الكبير، وعاصرَ فترة قيامِها وتوهُجُها، والتي استمرت نحو مائة وخمسين عاماً في سماء الأرض المصرية، والقصرُ بمثابة رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت، وتم تسميتهِ بقصر رأس التين في عهد محمد علي باشا الكبير، إذ كانت الأرض مزروعة بأشجار فاكهة التين، والقصر حالياً يُستخدم كمقرٍ لنزول كبار ضيوف مصر .
وبالقرب من قصر رأس التين، هُناكَ فنارٌ يقع في الطرف الغربي لشبه جزيرة التين في الإسكندرية تمَ تسميتهُ بفنار رأس التين، يرشدُ السفن إلى مدخل الميناء الغربي، بُنيَّ في عام 1848 ميلادي، وهو عبارة عن برجٍ اسطوانيٍ حجريٍ بقاعدة مستطيلة، طوله 55 متراً، مع فانوسٍ وشُرفةٍ، والبرجُ مطليٌ بخطوط عريضة أُفقية من اللونين الأبيض والأسود، والقصرُ أيضاً لهُ أهميةٌ تأريخيةٌ، إذ سمحَ الملك فاروق القوات البريطانية بشغلِهِ اثناء الحرب العالمية الثانية، ليكون مقراً ومستشفىً للقيادة البحرية البريطانية في الإسكندرية، بعد أن حاصرته القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، وبدل أن يقاوم الخديوي المحتل، أستقبل قائد الأسطول البريطاني، وجعلَ نفسهُ وحكومتهُ رهنَ تصرُفِهمّ وأرسلَ إلى أحمد عُرابيّ في كفر الدوار ويأمرُهُ، بالكف عن الأستعدادات الحربية، ويُحملَهُ تبِعةَ أحتلال الإسكندرية، ويأمرهُ كذلِكَ بالمثول لديهِ في قصر رأس التين، ليتلقى منه الآوامرَ والتعليماتّ .
ويُذكر إن هُناكَ حياً بأسم رأس التين، وهو من أهم أحياء الإسكندرية وأكثرها عراقةً ومشهورةً، ويقع ذلك الحي الشعبي، في أقصى الشمال من المدينة، ويشغلّ الجزء الغربي من شبه جزيرة فاروس القديمة، داخل بروز بحري أُطلقَ عليه قديماً، مُسمى شبه جزيرة الفنار، وهو إدارياً أحد شياخات قسم الجمرك بحي الجمرك في الإسكندرية .