مشاهدات خريج إبتدائية نهار 14  تموز  1958

مشاهدات خريج إبتدائية نهار 14  تموز  1958

رياض شابا

تموز 1958.

كنت امضي العطلة الصيفية في بغداد ، في فترة تزامنت مع نقل والدي من المستشفى الملكي في الموصل الى مستوصف القوش الذي لست متاكدا ، ما  اذا كان قد اصبح جمهوريا او ما يزال ملكيا  . وجودي في العاصمة كان لغرض ” الاستجمام ” ، مكافاة لتخرجي بمعدل ممتاز من مدرسة شمعون الصفا الابتدائية في الموصل  ، المدينة التي كان والدي “يوفد” شقيقتي باسمة اليها لتمضي الصيف في بيت اخوالي بطرس و حسقيال و ممو ، عندما كنا في بارا بقضاء سنجار ، كي ” ترتوي ” من فواكه ام الربيعين و التي نفتقدها في تلك القرية الايزيدية النائية التي لا تملك سوى تين مدهش نتناوله في موسمه فقط  !

اما “مضيفي” في بغداد فكان خالي جميل بوداغ  الذي تخرج مؤخرا من كلية الزراعة و ترعى شؤونه جدتي ، الحريصة على طبخ اطعمة لذيذة نتناولها داخل غرفة بالايجار ، في بيت كبير يسكنه بالايجار  ايضا ابن بلدتنا موسى نوح المربي المخضرم الطيب ، الشهير بنكاته و غنائه  الشجي عندما يطيب له السهر .. ! حيث يمضي الرجلان شطرا من الليل حول مائدة بكاسين وباطباق من مقبلات  ، نسطو عليها ، بنتا موسى وانا ، فهكذا يكون الحال عندما لا يصطحبني خالي الى احدى دور السينما ليلا .

زقاق عريض

باستثناء لهوي اليومي مع اقراني البغداديين من الجيران داخل ذلك الزقاق العريض في الصالحية ، و صينية الدولمة التي التهمناها ظهرا ، لم يتبق في مخيلتي من احداث نهار الثالث عشر من تموز سوى مشهد العمة “رمانه” ، و قد اتخذت من عتبة بيت مجاور تقطنه ، مجلسا لها ، تتنفس هواء نديا و تراقب المارة و تكلم من تشاء .

سالت احدهم بصوتها الاجش : “فلان .. كللي اكو هوايا باميه بالسوك ..؟”.. .. ” اي باجي .. كلش هوايا ..”..

انا اعرف باجي “رمانه” ، حدثنا عنها والدي الذي احبها كثيرا ، كنا ندعوها “خاثي  رمانه” اي اختي ، دلالة على الاحترام والتقدير المتميزين ، هي التي استقبلته في فترة النقاهة بعد اصابته في معركة “سن الذبان ” قرب الحبانية:

“وضعت امامي كوشرا من البرتقال الطازج ريثما يحضر العشاء ، كنت اشعر بالوهن و بجوع شديد ، التهمت اربع برتقالات في دقائق معدودات..” !

بدا  كل شيء هادئا ذلك المساء في منطقتنا و ” عكدنا “، خلد الجميع الى بيوتهم ، بما فيهم العمة رمانه ..

لم يكن ثمة امر غير مالوف عندما صرنا في السطح لننعم بليلة من ليالي الصالحية الجميلة في ذلك الزمان، من دون ان يخطر في بال احد ان الصباح التالي سيشهد الحدث الذي سيتكلم عنه العالم ، فبينما الكبار يعدون الفطور و يتهياون لنهار جديد ، اذ باصوات ” الراديوات ” تعلو من بيوت الجيران و المحلات و المقاهي القريبة، ثم حركة نشطة تدب في الازقة والشوارع ..

” الله اكبر فوق كيد المعتدي .. ” ..

وما ان عرفنا ان ثورة قد قامت في البلاد ، حتى فهمت مع البقية ان العراق  قد قهر الملكية و اصبح جمهورية بما فيه الخير لكل ابنائه ،

وبعد دقائق  صار الجميع في الخارج ، رايت اناسا كثيرين فرحين يرفعون سواعدهم  و يعانقون كل عسكري يصادفهم ، و ما ان قطعنا بضع عشرات من الامتار حتى رايت حبالا تمتد صوب تمثال فارس فوق حصانه .. و بعد امتار اخرى اشتد الزحام و صار الناس اشبه بموج هائج !

 وهنا فقدت  اثر خالي .. .. بحثت عنه دون جدوى ..لم ارتبك ، و لم يصبني اي ذعر ، فانا اعرف طريق العودة جيدا ، الا ان ما اقلقني حقا هو ما ساسببه من هلع لسكان البيت  .. خالي و جدتي والاخرين .. سيضربون الاخماس بالاسداس .. و يتخيلون ما يمكن ان يصيبني وانا ابن الثانية عشرة ..؟!

و لكن ” .. لا باس .. بما انني ساوبخ في كل الاحوال ،  فساتابع المشهد لوحدي مهما كلف الثمن .. ” ، رفعت كم دشداشتي السمائية المقلمة ، و ضغطت على طرفها باسناني ، و صرت اعدو مع الجموع الهادرة ، حتى بلغنا مكانا فيه اعمدة تشبه ” دنك ” شاارع الرشيد  ، لا اعرف اين انا ؟ و لا      اتذكر  اللحظة اذا ما كنت قد عبرت جسرا ما .. لكني وجدت جسما ما  ، عاريا ، واحدا في الاقل ، معلقا على احد تلك الاعمدة ، ثم فجاة هوى على الارض ..

وهنا انتبهت الى ان الوقت قد حان للذهاب الى البيت ، عدت ادراجي مهرولا.

قدح ماء

امام الباب كان الكل يتهيا للخروج بحثا عني  . نلت ما استحقه من “عقاب” عن ” جرم ” لم ارتكبه و لم اكن انا السبب في وقوعه ، بينما عيون العمة رمانه تتفحصني للتاكد من سلامتي ..

لاهثا ، رويت لهم ماحصل و ما رايت، وما ان صرت في الداخل حتى سالت عن قدح ماء بارد ..!و مازلت حتى اللحظة اشعر بطعم الرشفة الاولى منه ، رحم الله من اسقاني اياها و كل الراحلين الذين ورد ذكرهم في هذه ” المشاهدات ” التي مضى عليها 65 عاما ، و الصحة وطول العمر للاحياء  واقصد بنتي المعلـــــم الظريف موسى نوح .. و الله اعلم .

مشاركة