مسودنون – عبد الهادي البابي

مسودنون – عبد الهادي البابي

نبجي ماندري عليمن …….نضحك وماندري ليش..!

ومادرينا أنبعنه يمته ……..ومادرينا أنبعنه بيش ..!؟

………….

من قصيدة للمرحوم الشاعر محمد الغريب ..ألقاها في مهرجان مظفر النواب عام 2003.

وهذه القصيدة  تنطبق تماماً على واقعنا الذي نعيشه اليوم  ..فنحن نبكي ولاندري لماذا نبكي ؟..نبكي على شهدائنا الذين ذهبت دمائهم هدراً وضياعاً ….أم على جرحانا الذين يلعقون جراحهم دون رعاية أو عناية ..أم على أولادنا العائدين من جبهات الحرب والعاطلين عن العمل .. أم على أبنائنا المفقودين ..أم على شوارعنا ومدارسنا الغارقة بالأوحال والطين ..أم على أوضاعنا المعيشية المتردية ..أم على هذا الإستهتار الحكومي بحقوق الفقراء والإنتقام من الذين ضحوا من أجل العراق ..أم على هذا الفساد الذي قصم ظهر العراق وأطاح بكل آمال الشعب …لاندري ..؟ ونحن نضحك ..وضحكنا كبكائنا ..فهو مجرد قهقهة مغموسة بألف غصة وغصة ..ننتزعها من صدورنا بالحسرات والآهات ..ونقول:  نحن نضحك ولاندري لماذا نضحك ؟! ونحن الذين تم بيعنا ( أيام صدام بشعارات البعث وحروبه الهوجاء ) واليوم تم بيعنا كذلك بالمزاد الحكومي والسياسي القذر الذي روجت له الأحزاب الفاشلة الماسكة بمخالبها بالسلطة منذ عام 2003.فنحن مبيوعين ولانعرف متى تم ذلك وفي أي دورة إنتخابية تمت صفقة شرائنا وبيعنا ..والمصيبة الأكبر أننا لانعرف ثمن رؤوسنا في مزادات هذه الأحزاب..!!؟ إن هذين البيتين للشاعر الغريب جسدتا بصدق أوضاعنا المأساوية السابقة واللاحقة ..فهما بحق ترجمان لحالنا السيء الذي يبدو أن لانهاية قريبة له ..! ومحمد الغريب – رحمه الله – هو صديق وقريب منا نسباً ..فوالده رحمه الله (زغير ستات) عاش يتيماً في بيوت أجدادنا حيث تكفلوا تنشأته ورعايته منذ صغر سنه ..ووالدته (أم علي) رحمها الله هي الأخرى من بنات عم والدنا رحمه الله ..  تعرفت على محمد الغريب لأول مرة عام 1978 حيث جاء مع أسرته من مدينة الثورة (الصدر حالياً) إلى كربلاء لحضور زفاف إبن عمتي في حي العامل ..وهناك إلتقيت به مع شقيقه المرحوم المعاون الطبي (علي أبو غيث ) الذي توفي هو الآخر قبل عامين بسبب مرض عضال ..وكانت علاقتي بعلي أكثر من محمد الغريب ..وعندما ذهبت إلى بيتهم في بغداد (مدينة الثورة) كانت لديهم غرفة خاصة يجمعون فيها أصدقائهم الشعراء والأدباء الشباب من أهالي الثورة ويبقون هناك الى بعد منتصف الليل يتسامرون ويتساجلون ويتبادلون آخر ماخطته أقلامهم وجادت به قرائحهم الشابة من شعر شعبي في الغزل والحسجة والأحزان والعتب وذكر الأهل والأصدقاء ..وكنت ألاحظ دائماً أن محمد الغريب يتفوق على أقرانه بإسلوبه الرائع وطريقته الساحرة بالإلقاء وكان الحضور يطلبون منه الإعادة أكثر من مرة لحلاوة شعره وسحر كلماته … وبعد إنتقالهم إلى السكن في كربلاء منتصف الثمانينيات كنت أذهب إلى بيتهم في (حي العامل) بشكل متواصل كلما سنحت لي الفرصة لإقضي هناك أجمل الأوقات وأنا أستمع الى الشعر الشعبي الراقي من محمد الغريب وزملائه الشعراء الآخرين أمثال الصديق الشاعر هاشم العربي وأبو سجاد الساعدي وغيرهم .. وكان شعر محمد الغريب (الخاص) الذي يلقيه أمام من يثق بهم من أصدقائه وأقربائه كله إنتقادات لاذعة للنظام الصدامي وفيه سخرية عميقة من تصرفات أزلام النظام وماجرى على الشعب من حروب وويلات وحصار عانى منها الشعب العراقي في تلك السنوات العصيبة .. حتى أننا ألتقينا قبل  أيام قليلة من الإنتفاضة الشعبانية عام 1991  في بيت محمد الغريب وتبادلنا الرؤى والأفكار حول كيفية التخلص من نظام صدام المجرم  ..

والشعر الشعبي الذي كان يجيده محمد الغريب وغيره من الشعراء الشعبيين الذين عاصروه لا يختلف في الطرح والقوة والتأثير عن الشعر العربي الفصيح ، فهو يعبر عن حال الفرد أو المجتمع ، ويتغنى بالجمال والحب والوطن والناس والطبيعة والحيوان والكون وكل الموجودات.. وفي شعرية محمد الغريب تتجلى كلمات الجمال وفقاً لما يبني الإلهام الشعري من خيوط تنسج في مخيلة الشاعر تلك الغزارة اللفظية من الكلام الموزون المنغم الذي يحرك وجدان سامعه…فهو عبارة عن كلمات متصلة بشكل مباشر بالبيئة التي عاش بها الشاعر وأستخدم في نظمها الكلمات الخاصة بلهجته المحلية.. واليوم صار الشعر الشعبي من بين أهم الأوعية الثقافية والتاريخية التي تحفظ تاريخ الشعوب وتراث المجتمعات والأوطان ، فهو المعبر عن تاريخ البلد وعاداته وثقافاته ، رغم أن ألفاظه تختلف بإختلاف اللهجات المحلية. ولعل خير ما يدل على أهمية الشعر الشعبي تلك الأناشيد والأهازيج والأغاني والقصائد التي تُسمع كل يوم ، وكثير منها صارت رموزاً وطنية  كالأغاني التي تتغنى بحب الأرض والشعب وتحث على الدفاع عن الوطن ضد الغزاة والمعتدين ..حتى أصبح للشعر الشعبي اليوم مهرجانات كثيرة محلية تقام في كل بلد وفي كل مدينة ، وأخرى دولية يجتمع فيها الشعراء من عدة بلدان …

والشعر الشعبي يختلف عن بعض أنواع الكتابات والفنون التي برع بها البعض قديماً وحديثاً ، لأن طبيعة الشعر الشعبي في الموروث العراقي محبب وقريب من القلوب والنفوس بسبب تفهم الناس له وحبهم إياه وتعلقهم بالشعراء وقصائدهم ، حيث كان للشاعر قيمة إجتماعية كبيرة في المحيط الذي يعيش فيه ، ما جعل ما يقوله مؤثراً ومقبولاً في المجتمع ذلك لإن  الشعر الشعبي يعتبر مخزوناً أدبياً يحوي إرث وكنوز ما كان عليه من  كان يعيش قبلنا على هذه الأرض من قيم ومعاني متشّحة بالفخر والعزة ..كما ويعتبر  الشعر الشعبي اليوم جزء من دور الشاعر ومسؤوليته في الحفاظ على الموروث اللغوي للبلد لكي تبقى حية في مفرداتها المحلية والشعبية المتداولة بمرور الأجيال وتلاحق السنين…

..

(مسودنين) ..!! صدقت أخي محمد الغريب ..يبدو أننا اليوم في عتبة هذا (التسودن والخبال ) الذي سببه لنا هؤلاء السياسييون الفاشلون الفاسدون الذين لايملكون ذرة من ضمير ولاحبة خردل من حياء ..فجعلونا نخرج عن وقارنا ونفقد أعصابنا وهدوئنا ونغيير طريقتنا بالخطاب ..لإنه لم يبق لدينا في قوس الصبر منزع !

الرحمة والمغفرة لروح صديقنا وأخينا الشاعر محمد الغريب ..وعلى أرواح جميع الراحلين من شعراء العراق الذين صدحت حناجرهــــم بحب الوطن وتغنت قصائدهم بعشقه وجمـــــاله وعبّرت عن آلامه وأحـــــزانه ..

مشاركة