مرثية البقرة سيربنتينا
عوّاد ناصر
تنطلق القصة القصيرة التي كتبها المكسيكي خوان رولفو من الحدث، بلا تمهيد ولا وصف ولا خدع لغوية للقارئ.
الحدث، المنطلق السردي، الأول، ثانوي في القصة التي عنوانها لأننا جد فقراء ولا يتعدى ربع السطر في الأسبوع الماضي توفيت عمتي خاثينتا .
ربع السطر علامة على طريق السرد المفتوح على اللامتوقع، رغم واقعيته، سرعان ما ينفتح النص القصصي على ما هو أدهى وأمر فيضان النهر المفاجئ الذي أتلف محصول الشعير حتى إنه لم يكن لدينا متسع لرفع حفنة واحدة من الشعير .
بؤرة الأسى ستكون عندما حمل النهر البقرة سيربنتينا تلك التي أهداها إليها الأخت الصغيرة تاتشا والدي في يوم عيد قديسها .
رحيل البقرة سيربنتينا على أهميته سيقود السرد إلى أحداث أكثر أهمية، وأحسبه ذروتها. سيتفوق النص على نفسه ليدخل منطقة جديدة، فغرق تلك البقرة التي هي رأسمال الأخت الصغيرة تاتشا الذي سيحميها من مصير مرذول انجرفت إليه الأختان الكبريان فأصبحتا بائعتي هوى.. سيكون حاسماً.. ولن تعد البقرة الضحية هي بؤرة السرد، إنما محور من محاوره ورابط أساس بين الماقبل والمابعد الذي هو المصير الأخلاقي لتاتشا كي لا يقع لها ما وقع لأختيها الكبريين.
يقول والدي أن أمرهما الأختان انتهى وليس ثمة حل. إن الخطر يكمن في تلك التي بقيت هنا تاتشا التي تمضي مثل قضيب البان، تنمو وتنمو، وبدأت تبرز في صدرها بدايات نهود تتوعد بأنها ستكون كأثداء شقيقتيها حادة، متعالية، طائشة، مثيرة للانتباه .
من هنا صارت سيربنتينا التعويذة السحرية التي ضاعت إلى الأبد، ليضيع معها شرف البنت الصغيرة تاتشا التي هي الآن بلا أي حماية فلا ثمة رجل سيتزوجها لأنها فقيرة جداً، بلا رأسمال وستمضي على طريق أختيها ذاته، الأمر الذي تسبب للأب بألم لا يوصف.
الواقعية هنا ليست سحرية بل واقعية بلا ضفاف كالنهر وهو في حال فيضان ففقد ضفتيه
ثم اقتلع كل شيء حتى شجرة التمرهندي وحظيرة دجاج المرأة التي يسمونها لاتمبورا .
الأبطال نعرفهم أو هم يشبهون أبطالاً نعرفهم، نحن الفقراء، حتى البقرة سيبرنتينا الجميلة، ولها أذن بيضاء والأخرى حمراء، ولها عينان بديعتان .
أبطال بسطاء بلا مآثر كبرى أو قوى أسطورية، عضلية أو روحية، فهم يعيشون في قرية حطمها فيضان نهر وأتي على أسباب حياتهم كلها، بل غير مصائر برمتها، مثل مصير البنت الصغيرة تاتشا بعد أن فقدت بقرتها فتغير كل شيء ليعيش الأب دوامة من الألم والعذاب .
يقول الأخ على لسان الراوي في الختام يستمر ماء الفيضان بالارتفاع، وطعم العفونة الذي يأتي من النهر يرش وجه تاتشا المبلل، بينما نهداها الصغيران يرتعشان ويهتزان إلى أسفل وإلى أعلى من دون توقف، وكأنهما سيأخذان بالتضخم، فجأة، لتبدأ السير في طريق ضياعها .
ثمة يقين تؤكده الخاتمة يتلخص بأن تاتشا الصغيرة ستمضي في طريق ضياعها.. طريق أختيها نفسه، وهو يقين يغني غرضية السرد وجدواه ويثبت مسعاه الدرامي، فلو تقدم أحدهم للزواج من تاتشا وعاشت عيشة هانئة، على طريقة النهايات السعيدة للقصص، لم يعد لما تقدم، كله، من مبرر، ولما اكتسبت تلك البقرة الجميلة، الشهيدة، بعينيها البديعتين، تلك الأهمية الاستثنائية في حياة العائلة برمتها ومستقبل تاتشا الأخلاقي، الاجتماعي، على أهمية رسائل مشفرة، صغيرة، أخرى حملها النص.
لخوان رولفو رواية واحدة هي بيدرو بارامو ترجمت إلى العربية مطلع ثمانينات القرن الماضي، وله مجموعة قصصية واحدة، فقط، لكنه وجد لنفسه مكاناً مهماً في طليعة أدب أمريكا اللاتينية، فأهمية الكاتب ونجاحه لا يأتيان من تراكم كتب لا يقرأها أحد.
/8/2012 Issue 4268 – Date 4 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4268 التاريخ 4»8»2012
AZP09