مذكرات الراوي وثيقة اجتماعية وأنثروبولوجية لا تقل قيمة عن كتاب الأهوار لثيسيفر
إحصاء عام 1927 في ديالى 800000 نخلة و 82474 شجرة مشمش و 60000 برتقال
إعداد د.أكرم عبد الرزاق المشهداني
شغل عبدالجبار الراوي منصب مدير الشرطة العام في 6 حزيران 1945 في ظروف صعبة، في أثر انهيار ألمانيا النازية واستلامها للحلفاء في 8 آيار 1945 باعتبار إن العراق كان حليفاً لبريطانيا في تلك الحرب.
كما حصلت حركات الشمال على إثر حركة الملا مصطفى البرزاني، وعزيز ملو في الشمال، إضافة إلى تفاقم الواجبات الاعتيادية للشرطة.
وعند تسلمه مهمات وظيفة قيادة الشرطة العامة فقد كان يتبعها 14 مديرية شرطة لواء إضافة إلى مديريات شرطة السكك والكمارك والسفر والجنسية والإقامة والمرور والمخابرة والقوة السيارة والمدارس والبادية الجنوبية والبادية الشمالية وبادية الجزيرة، فضلا عن تشكيلات المقر وهي التفتيش والحركات والتحقيقات الجنائية التي أصبحت فيما بعد الأمن العامة والإدارة والمحاكم والصحة.
خطة العمل التي اتبعها عبدالجبار الراوي
لقد مارست العمل في مسلك الشرطة 24 سنة أمضيتها في شمال العراق وجنوبه وشرقه وغربه وفي البوادي والمدن، واكتسبت خبرة عن محاسنه ومساوئه، حتى توليت منصب مدير الشرطة العام. وإذا كنت قد رسمت خطة وعينت لها أهدافاً، فإن ذلك لم يكن ارتجالاً وإنما كان نتيجة تفكير يعتمد التجربة وكانت خطتي في العمل ترمي إلى ثلاثة أهداف
1ــ رفع مستوى ضباط وأفراد المسلك.
2ــ تقوية قوات الشرطة وجعلها قادرة على القيام بواجباتها.
3ــ جعل الشرطة خادمة للشعب حقاً وصدقاً .
تطوير الجهاز
كان الراوي أول من وضع نظاما في عدم ترقية معاون مدير شرطة إلى درجة مدير شرطة ما لم يجتز دورة الضباط العليا أولا،ً ثم يقود بنجاح فوجاً من أفواج شرطة القوة السيارة ثانياً، حتى يصبح معلوماً للجميع في سلك الشرطة أن التعلم والثقافة والتجربة العملية هي الطريق الوحيد للتقدم.
بهجت العطية
وقد حدث أن طلب وزير الداخلية منه إصدار أمر إداري يتضمن ترقية بهجة العطية وكان وقتها وكيل مدير شرطة لواء الديوانية، إلا أن الراوي رفض إصدار أمر ترفيعه، وأصر على التمسك بخطته المشار اليها، لأنه لا سبيل إلى ترفيع أي ضابط مهما كان موقعه، من معاون نقيب الى مدير شرطة رائد مالم يدخل الدورة، وينجح فيها، ومن ثم ينجح في قيادة فوج في القوة السيارة، ومن ثم يرفع ويعاد إلى الديوانية، وهكذا لم يتم ترفيع بهجت العطية طيلة مدة وجود الراوي في رأس الشرطة العامة، يقول الراوي
ليس ذلك لأن بهجت العطية لا يستحق الترفيع، بل من أجل الإلتزام بالخطة التي رسمتها لرفع المستوى المهني والكفاية العملية لرجال هذا المسلك. ولكي يعلم رجال الشرطة الآخرون إن هذا الأمر لا يخضع للمؤثرات ولا يستثنى منه أحد .
كما يذكر عبدالجبار الراوي في هذا المجال حادثة أخرى، فيقول
كنت قد ذهبت بصحبة وزير الداخلية إلى شمالي العراق أثناء حركات الشمال، وكانت دورة المفوضين البالغ عددهم 500 تلميذ قد تخرجت، فأمرت بتوزيع جميع خريجي الدورة على أفواج الشرطة السيارة في منطقة الحركات في الشمال، وطلبت من صالح حمام، وكيل مدير الشرطة العام يومئذ، أن يتم تسفيرهم جميعاً ليتسنى لبدائلهم العودة إلى بغداد والألوية الأخرى، فلما عدت لبغداد وجدت أنه قد جرى توزيعهم جميعاً ما عدا المفوض شهاب المختار ، فاستفسرت من صالح حمام عن سبب تأخيره، فأجاب
إن رئيس الوزراء توفيق السويدي قد طلب منه ذلك. فأنبته على استجابته لطلب رئيس الوزراء، لأن هذا الموضوع مسلكي وهو من صميم واجباتنا وليس لأحد مهما كانت درجته التدخل فيه. وأفهمته بوجوب تسفيره ذلك المساء، رضي رئيس الوزراء أم لم يرضى، فقام بتسفيره بالقطار في نفس اليوم، و من غير تلكؤ .
رأي الأثري بهذه المذكرات
العلامة الأثري يصف مذكرات عبدالجبار الراوي
لقد قدم لمذكرات الراوي الواقعة بـ 217 صفحة الأستاذ العلامة محمد بهجت الأثري الذي وصفها بقوله وواقع هذا السفر، الذي بين أيدينا نقرؤه، قد يجعله الفذّ أو الأول من مدونّات التاريخ المعاصر في بأبته وموضوعه، وفي جملة متطلبات التاريخ المثبت الممحص، التي تحدّث في النفس الوثوق به، والاطمئنان إليه، والاعتماد عليه. وهو في إيماءاته هذه إلى مضامين سفره، قد بالغ بتواضعه، تمشيا مع فطرته الطبيعية السمحة، فلم يخلع عليه من النعوت أكثر مما فيه، واختصر واقتضب، يل تسامح كثيرا فذهب يقول إن كتابه ليس سيرة شخصية، أو تاريخا للأيام التي عاصرتها، وإنما هو سرد للأحداث.. وهنا مكمن تواضعه، فما كتابه كما توهم عبارته بالسرد الإنشائي، ولكنه ذخيرة ضخمة من مادة تاريخية وافرة وخصبة، تولّدت عنده من المعاناة في ثلاثة عهود من عهود العصر الحديث، تداولت الحكم والسياسة والإدارة في العراق. وقُدر له منذ نشأته الأولى أن ينغمس في جوانب منها، ويشغل أنواعا من الوظائف العسكرية والإدارية والمدنية، متدرجا في رتبها، رتبة بعد رتبة، ثم يقتحم بأخرة ميدان السياسة العامة في مضطربها الواسع، وتستوي له من جملة أطوار حياته من التجارب هذه الذخيرة يودعها سفره في أصفى صورة، وأصدق أداء .
ولكن ما يقوله العلامة الأثري يكشف جانبا من أهمية هذه المذكرات وليس الأهمية كلها، لان قيمتها الكبرى تتمثل في جوانب أخرى هامة منها
أنها تكشف الكيفية التي بني فيها العراق الحديث من خلال شهادة رجل عاش لهيب الأحداث وتسنم مناصب كثيرة جدا، كما أنها تُلقي الضوء على متغيرات في الحياة العربية سياسة واجتماعا أحاطت بها شكوك وتناقضات مربكة. أضف إلى ذلك أنها وثيقة اجتماعية وأنثروبولوجية لا تقل قيمة عن كتب احتفينا بها طويلا كتبها باحثون ورحالة أجانب مثل ثيسيفر في كتابه عن الأهوار.
لقد عاش الراوي وقائع ثلاثة عهود كان فاعلا في كل منها وشاهدا حيا على أحداثه وصراعاته فحقت تسميته بالضابط المخضرم
ففي العهد الأول الذي كان فيه العراق تابعا للدولة العثمانية كان الراوي من ضباط الجيش الذي كان يحاصر القوات البريطانية بقيادة الجنرال تاوزند في الكوت، ويصد في الوقت نفسه هجمات القوات البريطانية الأخرى التي تحاول فك الحصار. ويعرض هزيمة تاوزند ثم اندحار القوات العثمانية ودخول الجنرال مود بغداد ويصف حالة بغداد آنذاك ومعاملة البريطانيين للضباط والجنود الذين تخلفوا عن الجيش العثماني المنسحب.
أما في العهد الثاني الذي خضع فيه العراق للاحتلال البريطاني فقد تطوع كضابط في الثورة العربية وانتقل بحرا عام 1917 للالتحاق بجيش الثورة الشمالي ووصف أوضاع جيش الثورة منذ انضمامه إليه حتى دخوله دمشق، وتتويج الأمير فيصل ملكا عليها ثم إسقاط الجنرال غورو هذه الحكومة وتشتت العاملين فيها وعودته الخطيرة عبر الصحراء.
وفي العهد الثالث؛ العهد الوطني وإنشاء الحكومة العراقية فقد وصف الوضع بعد ثورة العشرين وإعلان العفو العام ودعوة الضباط العائدين وهو منهم للتسجيل في وزارة الدفاع عام 1921، ثم سلسلة المناصب الطويلة التي تسنمها وأغلبها هام عاش بفعلها خضم أحداث جسيمة منها قيادة الهجانة الشمالية والخلافات العشائرية وولاءاتها وسلوكها، قدوم عصبة الأمم إلى الموصل بعد مطالبة تركيا بها، ثورة من سمّوا الإخوان النجديين أيام كان مديرا للبادية، تمرّد عشائر الديوانية عام 1935 لما كان مديرا لشرطتها، انقلاب بكر صدقي لما كان مديرا لشرطة بغداد، تمرد الملا مصطفى البارزاني وعزيز ملو لما كان مديرا عاما للشرطة. وقد رصد تفصيليا التحولات الإدارية والاقتصادية في العراق من خلال ملاحظاته حول الزراعة والعلاقات الزراعية، وقانون إدارة الألوية ونظام دعاوى العشائر والتدخل الحكومي في الانتخابات النيابية لما كان متصرفا للحلة، وأوضاع السجون لما كان مديرا عاما للسجون، وكيفية ترشيحه للمجلس النيابي وانتخابه نائبا عن لواء الدليم، وأخيرا اختياره لعضوية مجلس الاتحاد العربي إلى قيام الثورة على الملكية في 14 تموز 1954 .
إن مذكرات عبدالجبار الراوي تعد وثيقة اجتماعية وانثروبولوجية لأن الراوي يقدم وصفا تفصيليا لحالة كل مدينة كانت محطة في سفره الطويل، فعلى سبيل المثال حين التحق بجيش الثورة العربية الشمالي فإنه يقدم وصفا لأحوال المدن من حيث عمرانها وأهميتها الاقتصادية والجغرافية وطبيعة سكانها وعاداتهم وتقاليدهم وأحوالهم المعيشية، مثل بومبي وكراجي وبور توفيق والسويس والعقبة ومعان والقطرانة وعمّان ودرعا ودمشق وتدمر والسخنة ودير الزور ثم راوة. وقد قدم مثل هذا الوصف عن المدن العراقية التي تولى مناصبا فيها مضيفا إليها وصف أحوالها الديموغرافية وحالتها الإقتصادية وطرقها المهمة وأنهارها وعشائرها الرئيسية ومشكلاتها والحوادث المهمة التي وقعت فيها وسلوك الضباط البريطانيين وصداماته بهم لأنه كان يرفض تدخلاتهم. ومن المدن التي وصفها الموصل ولواء الدليم ولواء وديالى خانقين وبلدروز والنفط خانة ومندلي والديوانية والبادية التي وضع كتابا مستقلا عنها طبع ثلاث طبعات والحلة وكربلاء.
ومن المفارقات التي تثير الألم في النفس أن نجد المدن العراقية قي الثلاثينات من القرن الماضي أكثر ثراء منها الآن، ففي إحصاء عام 1927 كان في ديالى 800000 شجرة نخيل و 82474 شجرة مشمش و 68775 إجاص و 60000 برتقال، أما الماشية فالغنم 275032 والماعز 87643 والإبل 9461 والجاموس 2298 ، عدا ما يُهرّب ويُقدّر بالضعف. وفي شأن السلوك السياسي سوف تكتشف الكيفية التي يمزق بها السياسيون الإنتهازيون نسيج الشعب من خلال اللعب على المسألة العشائرية.
يقول الراوي مذكراتي التي دونتها قبل أربعين عاما، وأستعرضها اليوم مملوءة بالشكوى والألم، حتى أنني كنت أجهر بأنه يجب محاسبة السياسيين في بغداد ومعاقبتهم قبل معاقبة هؤلاء الذين تمردوا بإغواء منهم، لأنها فتنة ليس من المصلحة إثارتها، إذ هي تشبه اللعب بالنار التي قد تحرق صاحبها قبل غيره. إن مجيء وزارة تمثل كتلة عشائرية معناه إثارة الفتنة التي قد تؤدي إلى محنة في البلاد، وهي حديثة عهد بحكم نفسها يجهل عامة الناس ألاعيب السياسة ومسالكها التي يحرص المتمرسون والمحترفون فيها على استغلال بساطة الناس وعواطفهم، ولاسيما أبناء العشائر .
/5/2012 Issue 4214 – Date 31 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4214 التاريخ 31»5»2012
AZP07