حيرة البيت الأبيض بين الدعوة للاصلاح في مصر وتمسك مبارك ثلاثين سنة بالحكم
نواف شاذل طاقة
باريس
صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 17 تشرين الثاني نوفمبر 2020 مذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تحت عنوان أرض ميعاد ، التي يستعرض فيها بداياته السياسية والعديد من الاحداث التي شهدتها ادارته خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، على أمل أن يصدر الجزء الثاني في وقت لاحق. وقد اخترت أن اعرض للقارئ الكريم ما جاء في هذه المذكرات بشأن بعض المسائل ذات الصلة بقضايانا العربية والشرق أوسطية، والتي تناول فيها الرئيس أوباما رؤيته لقواعد العلاقات الدولية، وموقف إدارته من ملفات هامة في المنطقة كالوضع في العراق، وموقفه من إيران، والقضية الفلسطينية والنفوذ اليهودي في أمريكا، وأحداث الربيع العربي والموقف من الرئيس حسني مبارك، والحرب على ليبيا. وقد رأيت أن أعرض المواضيع المذكورة من دون الالتزام بالتسلسل الذي وردت فيه بالكتاب نفسه محاولاً بذلك أن اضعها في نسق يتناسب مع ما اخترته من مواضيع في هذا العرض. تُعد هذه المذكرات ثالث كتاب يصدره الرئيس باراك أوباما في حياته السياسية، لاقت جميعها اقبالا واسعا وحققت مبيعات هائلة. يذكر في هذا الصدد أن الكتاب حقق في أول اسبوع من صدوره مبيعات وصلت إلى نحو ثمانمائة ألف نسخة، وقد طبعت منه حتى الآن نحو أربعة ملايين نسخة، ويتوقع له أن يحصد جوائز عديدة، وأن يتصدر مبيعات الكتب في العالم. تُرجم الكتاب إلى نحو عشرين لغة أجنبية في مقدمتها الفرنسية والاسبانية والالمانية، ومن المؤمل أن تصدر الترجمة العربية في وقت قريب من عام 2021. يذكر أن عددا من كبار النقاد في الغرب كتب عن مضامين هذه المذكرات، ويكاد يجمع معظمهم على جرأة الافكار التي وردت فيها، والصراحة التي تحلى بها الرئيس باراك أوباما في عرضه للأحداث التي واجهها في السنوات الأربعة الأولى من حكمه، والتي أراد لها أوباما، حسب تغريدة له صدرت بعد صدور الكتاب، أن تكون سجلا صادقا لفترة حكمه. غير أن ثمة نقاداً آخرين وجهوا انتقادات إلى ما جاء في المذكرات لأسباب متعدة من بينها ما وصفه احدهم بـ جلد الذات الذي مارسه اوباما على سياساته، في حين تعرضت المذكرات لانتقادات في عدد من العواصم العربية بسبب مواقف أوباما من بعض شؤون المنطقة. سوف أحرص من جانبي في هذه المقدمة على عدم تقديم أي تقييم لما جاء في هذه المذكرات بخصوص المواضيع المذكورة، على أن اعقب ذلك في نهاية الجزء الثاني من هذا العرض رأيي كقارئ عربي بما جاء في القضايا التي تخص منطقتنا. لكني أجد في هذه المناسبة من الضرورة التنويه بأن المواقف التي عرضها الرئيس الأمريكي الأسبق في مذكراته، تكتسب اليوم اهمية اكبر وذلك بعد فوز نائبه جو بايدن في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وعلى الرغم من تأكيد بايدن بعد فوزه بالانتخابات المذكورة بأن سياساته لن تكون امتدادا لحقبة الرئيس أوباما، إلا أني اعتقد أن هذه السياسات لن تكون بالمقابل بعيدة عن كل البعد عن سياسات حقبة أوباما، لا سيما وأن كلا الرجلين ينتميان إلى الحزب الديمقراطي الأمريكي.
استكمل في الجزء الثاني من عرض كتاب الرئيس الأمريكي الاسبق بارك أوباما «أرض ميعاد» ما جاء فيه بخصوص موضوعين رئيسيين، يتعلق الأول بالانتفاضة المصرية سنة 2011 وموقف الإدارة الأمريكية منها، في حين يتطرق الجزء الثاني إلى موقف الادارة المذكورة من احداث ليبيا.
الربيع العربي
يكتسب الجزء الخاص بالموقف من الانتفاضة المصرية سنة 2011 الوارد في الفصل الخامس والعشرين نفسه أهمية خاصة لأنه يستعرض بكل وضوح موقف إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما من ما يعرف بالربيع العربي، حيث يبين رؤيته بشكل لا يقبل اللبس حيال الوضع الذي كان قائما قبل الانتفاضة وسبل التعامل مع الأنظمة العربية التي كانت وما تزال حليفة لإدارته. في هذا السياق، يستذكر الرئيس الأسبق أنه دأب مع مستشاريه في البيت الأبيض على مناقشة التحديات طويلة الأمد التي تواجه منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسطـ، وأنهم غالبا ما تساءلوا عن «مصير الدول النفطية التي عجزت عن تنويع مصادر اقتصادها، وسألنا أنفسنا ماذا سيحدث لهذه الدول عندما ينضب نفطها». يضيف أوباما: «وكم شعرنا بالحسرة بسبب القيود المفروضة على المرأة وعلى الفتيات، التي تعيق امكانية ذهابهن إلى المدارس والتحاقهن بالجامعات، والعمل، أو في بعض الاحيان، منعهن من قيادة السيارات. وقد لاحظنا توقف النمو واثر ذلك غير المتناسب على الاجيال الشابة في البلدان الناطقة باللغة العربية، حيث يشكل معدل السكان الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة نحو 60 بالمائة من الشعب ممن عانوا من معدلات بطالة بلغت ضعف ما هو قائم في العالم».
بيد أن أوباما رأى أن أكثر ما كان يثير قلق الإدارة الامريكية بشأن الأنظمة الاستبدادية، لم يكن مجرد غياب الديمقراطية الحقيقية، بل الطبيعة القمعية لجميع الانظمة العربية تقريبا، على حد قوله. ويوجه الرئيس الأسبق هجوما قاسيا ضد هذه الانظمة معتبراً أن اولئك الذين يتولون مقاليد الحكم بدوا، أو اعتقدوا انهم، محصنون أمام اية امكانية للمحاسبة من جانب شعوبهم. وعلى الرغم من أن الاوضاع كانت مختلفة بين بلد وآخر، كما رآها، فقد اعتقد أوباما أن معظم هؤلاء الزعماء أحكموا قبضتهم على السلطة عبر الطريقة التقليدية التي تنطوي على «مشاركة سياسية مقيدة، انعدام حرية التعبير، ترهيب المواطنين ومراقبتهم على أيدي الشرطة وسلطات الأمن المحلية، نظام قضائي عاجز، عدم كفاية وسائل الحماية القانونية، انتخابات مزورة أو غير موجودة أساسا، جيش يُحكم السيطرة على الاوضاع الداخلية، رقابة شديدة على الاعلام، وتفش كبير للفساد». ويمضي موضحا بالقول: كان العديد من هذه الانظمة قائما لعقود من الزمن، وظل متماسكا بفضل الدعوات القومية، والمعتقدات الدينية المشتركة، والروابط القبلية، والروابط العائلية، أو شبكات المحسوبية. وقد بدا لهؤلاء الزعماء أن مواصلة خنق المعارضة الوطنية المقترن بالجمود السياسي كافيا لبقائهم في السلطة لبعض الوقت. لكنه يعود ليلفت بأن البعثات الدبلوماسية الامريكية في المنطقة لاحظت السخط السائد في الشوارع العربية، وهو السخط الذي ظل يعاني من غياب المنافذ الشرعية للتعبير عنه، الأمر الذي من الممكن أن يتسبب في اشكالات كبرى، حسب قوله، حيث يقول إنه أخبر مستشاره لشؤون الشرق الأوسط لدى عودته من إحدى جولاته في المنطقة: «في وقت ما، في مكان ما، ستتفجر الأوضاع».
يوجه الرئيس أوباما جام غضبه في صفحات لاحقه إلى سياسات بلاده تجاه المنطقة ونمط العلاقات الذي بنته هناك متسائلا: «ما الذي يجب عمله إزاء هذه المشكلة، فعلى مدى نصف قرن على الأقل، حصرت السياسة الامريكية في الشرق الأوسط جل اهتمامها بالحفاظ على الاستقرار، ومنع حدوث أي اضطراب في الامدادات النفطية، ناهيك عن الوقوف بوجه القوى المعادية (السوفيت أولا، ثم الايرانيون) ومنع توسيع نفوذها. غير أن فكرة محاربة الارهاب احتلت موقع الصدارة بعد احداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر 2001، حيث يعترف أوباما قائلا «من أجل بلوغ كل هدف من الاهداف المذكورة، أصبح الحكام المستبدون في الشرق الأوسط حلفاءً للولايات المتحدة». أوضح بعد ذلك الرئيس الأسبق مبررات هذه المواقف قائلا إن الادارة الأمريكية، في نهاية المطاف، كانت قادرة على توقع سياسات هؤلاء الحكام المستبدين وقراراتهم، وكانت مطمئنة على ما يبدو حيال التزام هذه الأنظمة بوضع حد للاضطرابات إذا ما وقعت. ويضيف: «لقد استضاف هؤلاء المستبدون قواعدنا العسكرية في بلادهم وتعاونوا معنا في جهود محاربة الارهاب، وبطبيعة الحال، أقاموا العديد من المصالح التجارية معنا، في حين اعتمد معظم جهازنا الامني في المنطقة على التعاون معهم، وصارت العلاقات بينهما متشابكة في كثير من الأحيان». وكلما صدرت نصائح من الادارات الامريكية بضرورة توخي الحذر في التعامل مع هؤلاء الشركاء في منطقة الشرق الأوسط بسبب انتهاكاتهم لحقوق الانسان، اعقبتها تقارير من السعودية أو البحرين تشير إلى الجهود السعودية في كشف عمل إرهابي هام لأمن الولايات المتحدة هنا أو هناك، حتى تتراجع تلك النصائح وتوضع على الرف، على حد تعبيره.
وقدر تعلق الأمر برؤية الولايات المتحدة لما يجري في المنطقة، يختم أوباما قائلا: «لقد كان احتمال تفجر انتفاضة شعبية بإسقاط أحد حلفائنا في الشرق الأوسط غالبا ما يقابل بالاستسلام للأقدار، حيث رأى المسؤولون الامريكيون إن الانتفاضة احتمال قائم، شأنه شأن أي اعصار يضرب إحدى الولايات الاميركية، لكن بما أننا غير قادرين على توقع مكان ووقت حدوثه، وبما اننا لم نمتلك الوسائل اللازمة لوقفه في جميع الأحوال، فان افضل ما يمكن القيام به هو وضع خطة طوارئ والتهيؤ لمعالجة العواقب المتوقعة».
فساد الأنظمة
وفق هذه الصورة الكئيبة التي يجدها القارئ في صفحات المذكرات، يقرر أوباما تغيير شكل تعامله مع الأنظمة السياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط على الرغم من تشكيك العديد من كبار المتخصصين بالمنطقة في إدارته بجدوى التغيير المزمع. إلى ذلك، يروي الرئيس الأسبق أن نقاشا حول السياسة الأمريكية حيال الشرق الأوسط دار بينه وبين مستشارته في مجلس الشؤون القومي، سامانثا باور، التي يثق بها بعد أن عرفها منذ كان عضوا في الكونغرس، فضلا عن كونها خريجة جامعة هارفرد العريقة التي تخرج منها الرئيس الأمريكي نفسه. استهجنت باور خلال الحديث معه استمرار نظام حسني مبارك إدارة البلاد وفق قوانين طوارئ لنحو ثلاثين عاما من دون أن توجه له أمريكا أي انتقاد. بناء على طلب من الرئيس، وبعد انقضاء فترة قصيرة على هذا الحوار، قدمت السيدة باور، مع ثلاثة زملاء آخرين يعملون معها في مجلس الأمن القومي، هم، دينيس رورس وغايل سميث وجيريمي وينستاين، مسودة ما يعرف بتوجيهات دراسة رئاسية تؤكد بأن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في حالة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والدعم المطلق من دون أي انتقاد للأنظمة الاستبدادية هناك يؤثران سلبا على المصالح الامريكية. وفي آب أغسطس 2010 وجه أوباما وزارتي الخارجية والدفاع، والمخابرات الأمريكية، ووكالات حكومية اخرى لدراسة الوسائل التي يمكن للولايات المتحدة أن تتبعها لتشجيع اصلاحات سياسية واقتصادية جدية في المنطقة تدفع فيها تلك البلدان للاقتراب من مبادئ الحكومة الشفافة عسى أن تتجنب هذه البلدان الانتفاضات التي تزعزع الاوضاع، وتجنبها العنف والفوضى والنتائج غير المتوقعة التي غالبا ما ترافق التغيير المفاجئ، وهكذا بدأ عمل المختصين في الوزارات والإدارات المعنية لوضع أفكار محددة وفق هذه التوجيهات.
يعقب الرئيس الأمريكي على تلك المذكرة مستذكرا «كنت أود أن تقاوم إدارتي هذه القدرية» في التعامل والتحالف مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، مشيراً إلى أنه استغل لقاءاته بزعماء الشرق الاوسط لحثهم على الاصغاء لأصوات المواطنين الداعية للإصلاح، لكنه يعترف أنه من النادر أن بادرت حكومته بتعنيف دول مثل مصر والسعودية علناً بسبب انتهاكاتها لحقوق الانسان. يمضي أوباما موضحا أنه في ضوء قلق المسؤولين الامريكيين بشأن الاوضاع في العراق، والقاعدة، وايران، ناهيك عن مستلزمات اسرائيل الامنية، فقد كانت مخاطر قطع العلاقة مع هذه الانظمة عالية الكلفة لذلك فقد وجد أن القبول بهذا الشكل من الواقعية كان جزءا من عمله، وأنه ادرك أن تحويل الشرق الأوسط إلى واحة من الديمقراطية غير متاح، لكن كان بوسعهم دائما تشجيع هذه الانظمة على تحقيق مزيد من التقدم.
الانتفاضة المصرية
يبدأ اوباما حديثه بوصف ما حدث في تونس في الفصل المذكور عندما أقدم بائع فواكه متجول يدعى محمد بوعزيزي على حرق نفسه امام مبنى حكومي محلي. اعتبر أوباما تصرف بوعزيزي «عملا احتجاجيا، وليد حالة اليأس» ضد حكومة «فاسدة لا تكترث لاحتياجاته». أضاف أن بوعزيزي لم يكن ناشطا سياسيا باي حال من الاحوال بل مثل جيلا تونسيا عاش في ظل اقتصاد راكد «تحت قبضة ديكتاتور يدعى زين العابدين بن علي». بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 فرّ بن علي مع اسرته الى السعودية وانطلقت شرارة ما عرف في حينه بالربيع العربي.
بتاريخ 25 شهر كانون الثاني/يناير 2011، يقول اوباما إنه كان في صدد إلقاء كلمته حول حال الاتحاد، حيث انطلقت شرارة الانتفاضة في تونس، حينها ذكر بأن مستشاريه أوصوا بإضافة فقرة قصيرة إلى خطابه جاء فيها: «هذه الليلة، دعوني اكون واضحا: إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف إلى جانب الشعب في تونس، وتدعم التطلعات الديمقراطية لجميع أفراد الشعب».
وبعد تأكيده بأن مصر هي الدولة التي تحتل الموقع الأكثر أهمية من منظار الولايات المتحدة الأمريكية، لفت اوباما إلى أن واشنطن كانت تراقب عن بعد التحركات في الشارع المصري خاصة بعدما أصدرت التجمعات الشبابية المصرية والقوى اليسارية المعارضة والفنانون والكتاب التقدميون بيانات دعوا فيها المواطنين إلى الخروج بمسيرات احتجاج ضد نظام الرئيس حسني مبارك. انطلقت المسيرات بعد ذلك في ميدان التحرير في القاهرة، وفي مدن مصرية عديدة، واستخدمت الشرطة المصرية واجهزة الأمن وسائل قمعية لتفريقها، وحجبت وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر أوباما أن ما حدث في ميدان التحرير مثل التحدي الذي كانت تخشاه ادارته في ضوء توجيه الدراسة الرئاسية المذكور. يضيف بأن إدارته وجدت نفسها على حين غرة محشورة في زاوية ضيقة بين «نظام قمعي لكنه حليف يمكن الوثوق به وبين شعب مصمم على التغيير، ينشد تطلعات ديمقراطية زعمنا أننا نقف إلى جانبها». لا يخفي اوباما اعجابه بانتفاضة الشعب المصري إذ يخبر أحد مساعديه في الصفحة 639: «لو كنت مصرياً في العشرينات من عمري، كنت سأخرج معهم»، لكنه عبر في الوقت نفسه عن خشيته من أن يتسبب تخلي مبارك المبكر والمفاجئ عن الحكم في خلق فراغ سياسي كبير، وأن هؤلاء الشباب المنتفضين لن تتاح لهم الفرصة لتسلم الحكم. اعتبر اوباما أن هذا المأزق من صنع النظام في مصر الذي لو كان قد سمح بالحريات في البلاد، وبصحافة حرة، وببناء مؤسسات مدنية، وأحزاب سياسية، لما وصلت إليه الأمور إلى هذه النتيجة. بالمقابل، أوضح الرئيس الأمريكي الأسبق أن القوة الوحيدة المؤهلة للوصول إلى السلطة في حال تنظيم أية انتخابات في مصر هي تنظيم الإخوان المسلمين الذي يسعى إلى تطبيق الشريعة الاسلامية في البلاد، غير أن العديد من الدول في المنطقة تعتبره تنظيما خطيرا يستخدم العنف في سياساته، وأن فلسفته الأصولية جعلت منه حزبا غير موثوق به كوصي على التعددية الديمقراطية، كما أن ثمة آخرين في بلاده رأوا أيضا أن وصوله إلى السلطة يحمل إشكالات في العلاقة المستقبلية بين مصر والولايات المتحدة الامريكية، على الرغم من إشارته في سياق وصفه لوجهات النظر المختلفة تلك بأن جماعة الاخوان المسلمين في مصر لم يعرف عنها استخدام العنف في مصر.
هكذا، يبدأ أوباما بوصف مجريات الاحداث في مصر بعد اندلاع التظاهرات، حيث يذكر أنه اتصل ثلاث مرات بالرئيس حسني مبارك، ومنها الاتصال الاول الذي تناول مواضيع عدة، أبدى مبارك خلاله تعاونا تاما، حسب اوباما الذي ذكر بعد ذلك أنه نوه لمبارك بإمكانية امتداد الاحتجاجات في تونس إلى بلاده. يستذكر حينها أوباما أن الرئيس المصري بلغة هادئة ومطمئنة قائلا: «إن مصر ليست تونس». وفيما كانت التظاهرات تتواصل في ميدان التحرير في قلب القاهرة، ألقى الرئيس حسني مبارك خطابا للجماهير بتاريخ 28 كانون الثاني/يناير «أقال فيه الحكومة، لكن لم تبدر منه أية اشارة بصدد استعداده للقيام بإصلاحات واسعة». تولدت القناعة لدى الرئيس اوباما بأن المشكلة بعيدة عن الحل، حيث طلب حينها من مجموعة من مساعديه ومن مجلس أمنه القومي تقديم رد فاعل. غير أن الخبراء في المجموعة كانوا منقسمين استنادا الى الاجيال التي انتموا اليها، حسب اوباما. لقد اوصى اولئك الاكبر سنا مثل وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، ووزير الدفاع روبرت غيتس، ومدير المخابرات الامريكية ليون بينيتا، بتوخي الحذر، وهؤلاء عرفوا مبارك وعملوا معه لسنوات طويلة. أكد هؤلاء على أهمية «الدور الذي لعبته حكومة مبارك لفترات طويلة في الحفاظ على السلام مع اسرائيل، ومحاربة الارهاب، واتخاذ مواقف مشتركة مع الولايات المتحدة في ملفات عديدة تخص المنطقة. وفيما اقروا بالحاجة الى الضغط على الزعيم المصري من اجل اجراء الاصلاحات، فقد حذروا من عدم وجود أية وسيلة لمعرفة من سيحل محله وماذا سيحدث». بالمقابل بدا خبراء المجلس الاصغر سنا، سامانثا باور ورفاقها الذين سبقت الاشارة اليهم، «مقتنعين بأن مبارك فقد كامل شرعيته لدى الشعب المصري ولَم يعد ممكنا استعادتها». خلص الفريق الشاب الى رأي مفاده: «بدلا من بقاء عربتنا مربوطة بنظام استبدادي فاسد على وشك السقوط (ونبدو كأننا نجيز الاستخدام المتصاعد للعنف ضد المحتجين)، فان من الاحرى انحياز الادارة الامريكية الى جانب قوى التغيير، الأمر الذي سينطوي على حكمة استراتيجية وموقف اخلاقي ناجز». من جانبه تعاطف الرئيس الاسبق مع الرأيين، أي مع آمال الجيل الشاب ومع مخاوف الاكبر سناً، على حد تعبيره، وحاول التوفيق بينهما حيث اعتقد أن من الضروري محاولة اقناع مبارك بالقيام بإصلاحات جذرية تشمل «انهاء العمل بقانون الطوارئ، واعادة العمل بحرية العمل السياسي والصحافة، وتحديد موعد اجراء انتخابات عامة حرة وعادلة». كانت هذه الترتيبات من وجهة نظر الادارة الامريكية كفيلة بإعطاء الفرصة لظهور مرشح للرئاسة، وبمنح مبارك ايضا فرصة لترك منصبه والخلود إلى الراحة. لقد اعتقد أوباما أن مثل هذه الترتيبات «يمكن أن تسمح بتخفيف حدة الانطباعات في المنطقة بأننا مستعدون للتخلي عن حلفائنا القدامى لدى أدنى مشكلة يواجهونها». يؤكد اوباما قائلا: «غني عن القول، إن محاولة اقناع رجل مسن وطاغية محاصر بالتخلي عن منصبه في آخر عمره، حتى لو كان ذلك لصالحه، ستكون مهمة حساسة».
بعد نقاش مستفيض لهذه التطورات، يقول اوباما إنه اتصل بمبارك هاتفيا مرة أخرى، عارضا عليه فكرة تقديم سلسلة جريئة من الاصلاحات. يستذكر اوباما حينها تغير لهجة مبارك واتخاذها طابع المواجهة، فراح يصف المحتجين بأنهم اعضاء في جماعة الاخوان المسلمين، مُصراً على أن الاوضاع ستعود سريعا الى طبيعتها. بيد أن مبارك وافق على طلب الرئيس الامريكي باستقبال مبعوثه الى القاهرة، وهو فرانك وايزنر، الذي عمل سفيرا للولايات المتحدة في مصر في الثمانينيات ويتمتع بعلاقات طيبة بمبارك، وهي المبادرة التي كانت هيلاري كلنتون قد اقترحتها. أراد اوباما من السفير وايزنر، المقرب من اوساط المخابرات الامريكية، أن يدفع مبارك الى الاعلان عن نيته تخليه عن السلطة واجراء انتخابات. بانتظار نتائج زيارة السفير وايزنر الى القاهرة، تطرق اوباما الى الجدل المحتدم في واشنطن حول موقف ادارته من الوضع في مصر، بين منتقد لتردد الادارة في الإعلان عن دعمها للمحتجين، وبين آخرين رأوا ضرورة دعم مبارك، مشيرا بشكل خاص الى محادثة له مع رئيس وزراء اسرائيل نتنياهو الذي اصر على أن «الحفاظ على النظام والاستقرار في مصر يعلو على جميع الاعتبارات»، وبعكسه حذر نتنياهو الرئيس الامريكي: «انك سترى ايران هناك في غضون ثانيتين». غير ان اوباما اكد ان ادارته وبعد تدقيق المخاطر التي تحدثت عنها اسرائيل وانظمة عربية أخرى بشان ارتباط ايران او حزب الله او القاعدة بما يجري في الشارع العربي لم تجد ما يدعمها على ارض الواقع. اعتبر اوباما ان الانظمة العربية كانت تخشى من امتداد الاضطرابات الى دولها وأملت بأن تفضل امريكا خيار «الاستقرار» على «الفوضى» كما أراد نتنياهو. اوضح المبعوث وايزنر بعد عودته من القاهرة ولقائه بمبارك، أن الرئيس المصري وافق على الاعلان بانه لن يرشح لمرحلة رئاسية ثانية، لكنه رفض رفع قوانين الطوارئ او تعهده بقبول انتقال سلمي للسلطة. يصف اوباما ردود الافعال داخل فريق ادارته حيال هذا الموقف بانه زاد من حدة الاختلاف في وجهات النظر بين المعسكرين بشان مبارك، وانه علم فيما بعد ان نقاشات حادة دارت بين الفريقين في معسكره بخصوص الموقف الذي يجب تبنيه.
مع تفاقم الاحتجاجات والمسيرات في القاهرة، ونزول الدبابات الى الشارع، اتصل اوباما ثالثة بالرئيس مبارك، في محاولة اخيرة منه لنزع فتيل الازمة، وعبر له عن تقديره لإعلانه عن نيته عدم الترشح للرئاسة. أضاف بأنه تعمد هذه المرة التحدث مع مبارك عبر مكبر الصوت ليسمح لمعاونيه في مكتبه بالبيت الابيض بالاستماع الى المكالمة. مضى اوباما مخاطبا مبارك: «ها انت قد اتخذت قرارا تاريخيا بانتقال السلطة، اود ان اناقش معك كيف ستسير الامور. اقول لك هذا بمنتهى الاحترام… اريد ان اشاطرك تقديري الصادق بخصوص ما اعتقده سيحقق اهدافك». أبلغه أوباما نظيره المصري بانه لو اراد ان يبقى في منصبه واذا ما سعى نحو اطالة عملية انتقال السلطة، فانه يعتقد بان الاحتجاجات ستتواصل في مصر وربما ستخرج عن السيطرة. واذا ما اراد مبارك ان يضمن انتخاب حكومة مسؤولة غير خاضعة لهيمنة الاخوان المسلمين، فان الوقت قد حان كي يتنحى جانبا وان يستخدم مكانته من وراء الكواليس للمساعدة في تشكيل حكومة مصرية جديدة. على غير عادته، يقول اوباما، تحدث مبارك معه هذه المرة باللغة العربية عبر مترجم. كان صوت مبارك غاضبا حتى ان اوباما شعر بانه ليس بحاجة للاستماع الى المترجم لأنه فهم ما كان يقوله. تحدث مبارك بصوت محتد ارتفعت حدته ثانية بعد أخرى: «أنت لا تفهم ثقافة الشعب المصري. ايها الرئيس اوباما، اذا ما مضيتُ في مسار الانتقال بالسلطة على هذا النحو، فان ذلك سيكون اخطر شيء لمصر». اعترف له اوباما بأنه لا يعرف الثقافة المصرية بقدر معرفة مبارك بها، لكنه اخبره أنه إذا كانت ثمة أوقات في التاريخ سارت فيه الأمور وفق نمط واحد من دون مشاكل فان ذلك لا يعني بانها ستستمر على نفس الحال إلى الأبد. أضاف أوباما مخاطبا نظيره المصري: «لقد خدمت بلادك لأكثر من ثلاثين سنة، وانا ارغب منك ان تنتهز هذه اللحظة بطريقة تحافظ فيها على ارث عظيم يحفظ اسمك». استمر الاخذ والرد بين الرئيسين لبضع دقائق بهذه الطريقة اكد خلالها مبارك ان الاوضاع ستتحسن، لتنتهي المكالمة بمبارك موجها الكلام لاوباما، قائلاً: «اعرف شعبي، انه شعب عاطفي. سأتحدث معك في وقت لاحق، يا سيادة الرئيس، وسأقول لك إنني كنت على حق». بعد انتهاء المكالمة يستذكر اوباما انه اعطى مبارك افضل ما يمكن ان يسديه له كنصيحة، مدركاً، على حد وصفه «أن أي زعيم يحل محله قد ينتهي به الأمر ليكون شريكًا أسوأ للولايات المتحدة – وربما أسوأ بالنسبة للشعب المصري». يضيف الرئيس الاسبق أنه لولا الإصرار العنيد لهؤلاء الشبان في ميدان التحرير، لكان قد انهى فترته الرئاسية بالتعامل مع الرئيس حسني مبارك، تماما كما كان سيستمر بالعمل سوية مع ما تبقى من «النظام الاستبدادي الفاسد المتعفن»، وهو تعبير استعاره الرئيس من أحد مساعديه. يعرب اوباما بعد ذلك عن اعجابه بهؤلاء «الصبية» الذين تحرروا من الخوف للحظات وجيزة وواصلوا التظاهر، في حين لم يكن لدى مبارك سوى الضرب والاعتقال والتعذيب لثنيهم عن تطلعهم نحو حياة افضل. رأى اوباما في تفسيره لموقفه الشخصي حيال ما جرى في مصر، أن السماح بمنح المساعدات الامريكية «لشخص نسميه حليفًا، يرتكب أعمال عنف غاشمة ضد المتظاهرين السلميين، بينما يراقب العالم بأسره – كان خطًا لم أرغب في التغاضي عنه». يختم أوباما كلامه بالقول إنه اعتقد أن ما فعله الرئيس المصري من شأنه أن يلحق ضرراً فادحاً بقيم التحرر الأمريكية، ويقول لفريقه: «دعونا نعد بيانًا ندعو فيه مبارك للتنحي عن الحكم الآن».
واصل مبارك بعد تلك المكالمة تحديه وقمعه لشعبه، وفق اوباما، ونزلت الدبابات الى الشوارع، حيث يلفت الرئيس بعد ذلك الى ان بلاده، على عكس ما يعتقد الكثيرون في العالم العربي وحتى بعض الصحفيين الامريكيين، لا تمتلك حبالا تتحكم فيها عن بعد بأوضاع الشرق الاوسط كالدمى المتحركة، بل ان حتى الحكومات التي تتلقى المساعدات والدعم من الولايات المتحدة «تفكر أولاً وقبل كل شيء في بقائها، ولم يكن نظام مبارك استثناءً».
في ختام هذه الاحداث، يؤكد أوباما أن أجهزة الامن القومي الامريكي بقيت تشعر بعدم الارتياح حيال موقفه من حسني مبارك، وظهرت اصوات من وسط ادارته وخارجها توحي بإمكانية ان يستمر مبارك في منصبه بعض الوقت، الامر الذي تصدى له اوباما بحزم ووضع حدا له.
في اعقاب اعلان مبارك عن تنحيه عن السلطة، ذكر اوباما أنه يدرك «أن الانتقال في مصر لم يكن سوى بداية صراع من أجل روح العالم العربي – صراع بقيت نتائجه غير مؤكدة». يشير بعد ذلك الرئيس الاسبق الى حديث سابق له مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي أخبره «أن التصريحات الأمريكية بشأن مصر تُراقب عن كثب وبقلق متزايد في الخليج». تساءل بن زايد موجها حديثه إلى أوباما: «ماذا سيحدث إذا دعا المتظاهرون في البحرين الملك حمد إلى التنحي؟ هل ستصدر الولايات المتحدة نفس النوع من التصريحات التي كانت لدينا بشأن مصر؟» اجابه اوباما بأنه يأمل ان يعمل مع ملك البحرين وبقية الزعماء في المنطقة «لتفادي الاضطرار إلى الاختيار بين الإخوان المسلمين والاشتباكات العنيفة بين الحكومات وشعوبها». اخبره محمد بن زايد انه «في حال انهارت مصر وتولى الإخوان المسلمون زمام الأمور، فان ثمة ثمانية قادة عرب آخرين سيسقطون» ، ولهذا السبب انتقد بن زايد بيان الرئيس اوباما، قائلا: «يبدو أن الولايات المتحدة ليست شريكًا يمكننا الاعتماد عليه على المدى الطويل». ينهي اوباما حديثه عن مصر بالاستنتاج ان ما قاله محمد بن زايد كان تحذيرا واضحاً، وأن أوباما يدرك تماما «أن النظام القديم لم يكن على استعداد للتخلي عن السلطة من دون قتال».
الحرب الليبية:
يتطرق باراك أوباما في الفصلين 25 و 26 من مذكراته إلى الحرب الليبية ثم يعقبها، في الفصل الأخير، الفصل 27، بسرد تفاصيل عملية اغتيال اسامة بن لادن في باكستان. وفي الوقت الذي لم أجد فيه الكثير مما يستحق التفصيل في قضية بن لادن لأنها باتت معروفة، فانني أود أن اقدم عرضا ملخصا لأبرز ما جاء في الفصلين 25 و 26 بشأن المسألة الليبية لأهميتهما حيث يسلط هذين الفصلين الضوء على موقف الرئيس أوباما من مسألة التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للدول المستقلة، ومواقف الدول الاوروبية والعربية، على حد سواء، من الاحداث التي دارت في حينها، والاهم ربما الدوافع التي كانت تقف وراء تلك المواقف.
يوجه الرئيس باراك أوباما في مستهل حديثه عن ليبيا انتقاداً لاذعاً إلى اسلوب حكم العقيد معمر القذافي، مستهجناً أساليب القتل والتعذيب والمطاردة التي استخدمها حيال من يجرؤ على معارضته، والتي تحولت «إلى نوع من الجنون حتى بمعايير زملائه المستبدين في المنطقة»، على حد قوله. يتطرق أوباما أيضا إلى حادثة طريفة تعكس نزق الرئيس الليبي حينما طلب قبيل زيارته إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمة المتحدة عام 2009 من المسؤولين في الامم المتحدة وفي ولاية نيويورك الموافقة على نصب خيمة بدوية واسعة له في المتنزه المركزي في مدينة نيويورك لسكنه وسكن حاشيته. ينتقل بعد ذلك أوباما إلى سرد تفاصيل الاحتجاجات الشعبية التي وقعت في ليبيا بعد أسبوع واحد من تخلي مبارك عن السلطة والتي تحولت في معظم انحاء البلاد إلى «ثورة علنية» على حد وصفه، وتسببت بمقتل نحو مائة شخص في اسبوعها الاول. رافقت تلك الاحداث، هروب الموظفين الكبار و الدبلوماسيين من البلاد وتخليهم عن مناصبهم، ومن بينهم سفير ليبيا لدى الأمم المتحدة، في حين اتهم القذافي معارضيه بأنهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة، حتى وصل عدد الضحايا وبحلول شهر آذار/مارس 2011 إلى ألف قتيل.
في ضوء المجزرة المريعة التي ارتكبها القذافي بحق شعبه، اتخذت الولايات المتحدة عددا من القرارات بحق الزعيم الليبي حيث قال أوباما إن إدارته «فعلت كل ما بوسعها لوقف القذافي»، وأنه طالبه بالتنحي عن الحكم، لكن القرارات الأمريكية لم تصل إلى حد استخدام القوة العسكرية، بل اقتصرت على فرض عقوبات اقتصادية، وتجميد مليارات من أموال القذافي وأموال أسرته، مع فرض الامم المتحدة الحظر على تصدير السلاح الى بلاده، لكن كل ذلك لم يردع القذافي عن مواصلة قتل شعبه. في تلك الاثناء، يذكر أوباما، ظهرت أصوات عديدة انتشرت في بداياتها بين صفوف جماعات حقوق الانسان وعدد محدود من كتاب المقالات في الصحف لتمتد بعد ذلك وتصل إلى الكونغرس الامريكي ووسائل الاعلام بشكل عام، مطالبة الولايات المتحدة باستخدام القوة لوقف القذافي. من جانبه، اعتبر اوباما أن هذه الدعوات تعكس تقدما في الرؤية الاخلاقية، غير أنه رأى أن استخدام القوات العسكرية الامريكية لمنع حكومة معينة من قتل شعبها فكرة عديمة الجدوى، لسبب بسيط هو أن العنف الذي تمارسه الدول ضد شعوبها مسألة تحدث طوال الوقت. في هذا السياق، استذكر أوباما مواقف متعددة لم تتحرك فيها الحكومات الامريكية السابقة بعد مقتل الابرياء في كمبوديا، أو الارجنتين، أو أوغندا، ولم تعتبر تلك الجرائم مسائل ذات صلة بالمصالح الأمريكية، لأن معظم منفذي هذه الجرائم، وفق أوباما، كانوا من حلفاء الولايات المتحدة في حربها ضد الشيوعيين، بما في ذلك الانقلاب الذي رعته المخابرات الامريكية في اندونيسيا سنة 1965 الذي اطاح بالحكومة الشيوعية وتسبب بعد ذلك بحمامات من الدماء راح ضحيتها من خمسمائة ألف شخص إلى مليون شخص.
يمضي أوباما موضحا موقفه في مسألة التدخل لمنع الحكومات الاجنبية من قتل رعاياها قائلا إنه على الرغم من تعاطفه مع محنة الأبرياء الذين يذوقون المر على أيدي المستبدين، إلاّ أنه كان قد رفض مقترحا من مساعدته بأن تضيف عبارة في كلمته التي القاها بمناسبة تسلمه جائزة نوبل للسلام تلزم فيها دول العالم «بمسؤولية حماية المدنيين من حكوماتهم». (يسخر أوباما منحه الجائزة ويقول إنه لا يعرف لماذا مُنحت له). لقد خشي اوباما أن تكون مسؤولية التدخل عديمة الحدود والكوابح، وتساءل ما هي المعلمات الرئيسية لمثل هكذا تدخل، وكم من المواطنين يجب أن يتعرضوا للقتل حتى تتدخل الولايات المتحدة. تساءل أيضا: «لماذا نتدخل في ليبيا، ولا نتدخل في الكونغو، على سبيل المثال، حيث تسببت سلسلة النزاعات المدنية بملايين الضحايا من المدنيين؟ ولماذا لا نتدخل إلا عندما نضمن أن الولايات المتحدة لن تتكبد أية خسائر؟». يواصل أوباما في الفصل 25 عرض الحجج والوقائع التي تحول من وجهة نظره دون تشجيع فكرة التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى في مثل هذه الحالات قائلا: «إن دعاة التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا حاولوا طمس الحقيقة من خلال التشبث بفكرة أن فرض منطقة حظر جوي ستحيّد طائرات القذافي المقاتلة وتمنعها من قصف الشعب». بيد أن الجانب المفقود في هذه الحجة هو أن حقيقة فرض منطقة حظر جوي في ليبيا سيتطلب منا أولا اطلاق صواريخ على طرابلس لتدمير دفاعاتها الجوية وهذا بحد ذاته عمل حربي واضح ضد دولة لا تشكل تهديدا لنا. بل أكثر من هذا، إذ لم يكن واضحا إذا كان فرض منطقة الحظر الجوي أي تأثير بما أن القذافي كان يستخدم قواته البرية وليس القصف الجوي في مهاجمة معاقل المعارضة. يضيف أوباما إلى هذه الحجج، أن بلاده كانت اساسا غارقة حتى ركبتيها في العراق وافغانستان، وأنه كان قد أوعز تواً بإرسال القوات الامريكية إلى اليابان لمساعدتها في اسوأ كارثة نووية منذ حادثة شيرنوبل.
على الرغم من الموقف المذكور، اوضح الرئيس الاسبق بأن تقارير المواجهات والاعدامات الصورية واكتظاظ المستشفيات بالمصابين بدأت تتسرب وراحت تحدث ضغطا متزايدا، فيما تمثلت المفاجأة، على حد قوله، في صدور تصويت الجامعة العربية على قرار يؤيد التدخل الدولي ضد القذافي. لكن أوباما يبين في هذا المقام اعتقاده بأن هذا التصويت قد يكون مدفوعا أيضاً برغبة بعض الدول، كسوريا والبحرين، بصرف الانظار عن انتهاكاتها في مجال حقوق الانسان، وهو التصويت الذي يصفه في موضع آخر في الكتاب بأنه مجرد «نفاق». بخصوص الموقف الأوروبي، يروي أوباما أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي تعرض إلى انتقادات داخلية حادة بسبب دعمه نظام بن علي في تونس حتى فراره، قرر في تلك الأثناء جعل مسألة حماية الشعب الليبي قضيته الشخصية، حيث طرح مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، مشروع قرار في مجلس الأمن يسمح بفرض منطقة حظر جوي في الاجواء الليبية، وكان على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفا من ذلك. وانتقد اوباما بعد ذلك ما وصفه «بالموقف المحرج» الذي وضعه فيه رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الفرنسي لأنه اعتقد أن «جانبا من مساعيهم كان يهدف إلى حل مشاكلهما الداخلية». يواصل اوباما في الصفحات الاخيرة من هذا الفصل عرض المواقف المتعددة للشخصيات المؤثرة في ادارته موجها انتقاداً مبطنا إلى هيلاري كلنتون التي أيدت بقاء حسني مبارك في منصبه لكنها في حالة القذافي أيدت توجيه ضربة عسكرية لنظامه، وانها كتبت له من باريس حيث شاركت في اجتماعات مجموعة الدولة الصناعية الثمانية، قائلة إنها التقت هناك بزعيم المعارضة الليبية وأنها معجبة به. وفي واشنطن كان القادة العسكريون مترددين بشأن مشاركة قوات أمريكية في أي عمل عسكري في ليبيا، معربين عن قناعتهم بأن العبء في نهاية المطاف سيقع على كاهل القوات الأمريكية، في وقت ما برحت فيه الحرب في افغانستان والعراق تشكلان عبئا ثقيلا على القوات. من جانبه، يؤكد أوباما أنه لم يرغب بإرسال مزيد من الجنود خارج حدود بلاده، وأن حربا على دولة اجنبية مهما كانت دوافعها نبيلة سيكون له تداعيات جانبية حتى لو كانت الدولة المستهدفة ضعيفة. اضاف أن الحرب لن تكون نظيفة بأي حال من الاحوال وانه يعتقد بأن «مشاكله السياسية في الداخل» ستتفاقم حال بدء العمليات العسكرية. لكن اوباما رأى بعد ذلك أن مواصلة تقدم قوات القذافي نحو بنغازي وتطويقها للمدينة سيتسبب في مقتل نحو عشرة آلاف شخص، وستندلع حرب أهلية شرسة، وستصبح البلاد مرتعا للقوى الارهابية، وستضطر بلاده إلى التدخل في نهاية المطاف. يذكر اوباما أنه بعد مزيد من التأمل خرج بخطة «قد يحالفها النجاح»، اقترحها على مستشاريه بدأت بالطلب من فرنسا وبريطانيا بسحب مشروع قرارهم في مجلس الامن بفرض حظر جوي على ليبيا، ثم طلب من مستشاريه في البيت الابيض ومجلس الامن تقديم مشروع قرار جديد يتضمن صلاحيات اوسع تكفل وقف القذافي ومنعه من قتل شعبه وحماية المدنيين. نصت المرحلة الأولى من الخطة على ضرب الدفاعات الجوية لنظام القذافي وهي المهمة التي لن يقدر على تنفيذها سوى الولايات المتحدة، ثم تقوم بعد ذلك القوات الاوروبية والعربية بتنفيذ مهامها على ان يسهم الاوروبيون بإعادة اعمار ليبيا. عرضت الولايات المتحدة مشروعها على مجلس الامن، وكانت روسيا العقبة الرئيسية حيث خشي اوباما أن يعترض الروس على القرار، لكن يبدو أن الرئيس الروسي ميدفيديف وافق في نهاية المطاف على عدم الاعتراض على القرار.هكذا، صدر قرار مجلس الأمن بموافقة عشرة أصوات من دون تسجيل اي اعتراض، وامتنعت خمس دول عن التصويت من ضمنها روسيا. اتصل بعد ذلك اوباما بالرئيس القذافي ومنحه «فرصة أخيرة» لعودة قواته إلى طرابلس والسماح باستئناف الحياة الديمقراطية غير أن القذافي لم يستجب للنداء. عاد بعد ذلك اوباما إلى الاتصال بالرئيس ساركوزي ورئيس الوزراء كاميرون وقال إنه لاحظ ارتياحهما «لأننا أنقذناهما وسمحنا لهما بالهبوط بسلام من السقف العالي الذي وصلا إليه». ينتقل بعد ذلك أوباما إلى الحديث عن زيارة له إلى البرازيل، لكنه يخبر قراءه، بأن السفن الحربية الامريكية البريطانية بدأت خلال زيارته تلك بقصف الدفاعات الجوية الليبية بصواريخ تومهوك. بعد عودته إلى واشنطن، يقول أوباما أن القصف الجوي المكثف على قوات القذافي كان قد فعل فعله، وبدأت قوات المعارضة التوجه غربا، في حين ازدادت اعداد المنشقين عن القذافي. يستذكر بعد ذلك الرئيس الأمريكي الاسبق أنه كان يتوقع تلقى بعض كلمات الثناء من اعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين ارادوا وأيدوا التدخل العسكري في ليبيا، لكن هؤلاء انقلبوا عليه وراحوا ينتقدون سياساته في ليبيا بحجة أنها جاءت متأخرة، أو بطيئة، أو أنها لم تحاول الحصول على موافقة الكونغرس. يضيف أوباما أن الجمهوريين لم يكن وحدهم من مارس الألاعيب السياسية لكن فلاديمير بوتين أيضا بدأ بتوجيه انتقادات علنية لقرار مجلس الأمن بخصوص ليبيا، وكان بذلك ينتقد ضمنيا الرئيس الروسي ميدفيديف، تارة لسماحه بتمرير قرار في مجس الأمن يسمح بتفويض واسع النطاق، أو اتهامه بأنه كان يتعين عليه أن يستخدم حق الفيتو، وتارة أخرى باتهام ميدفيديف بأنه لم يفهم مغزى قرار مجلس الأمن. لكن تقييم اوباما كان مختلفا، فقد اعتقد أن الضجة التي أثارها بوتين كان القصد منها تشويه سمعة ميدفيديف، وكانت قناعته أيضا أن بوتين مقبل على استعادة السلطة في روسيا والهيمنة على البلاد. على ارض الواقع بدا اوباما مغتبطا لان أكثر من اسبوعين مرا على بدء العمليات القتالية لم تتكبد خلالهما الولايات المتحدة أية خسارة بشرية، وباتت عملياتها العسكرية مقتصرة على توفير الدعم اللوجستي الذي لم تكن البلدان الأوروبية قادرة على توفيره، مع انفاق نحو 550 مليون دولار وهو مبلغ اعتبره الرئيس الأمريكي زهيدا مقارنة بنفقاته العسكرية في العراق وافغانستان حيث يعادل هذا المبلغ نفقات قتال يوم واحد في ذينك البلدين، على حد قوله. ينهي اوباما الحديث عن ليبيا في هذا الفصل بالاستفسار من مساعديه عن اسم الدبلوماسي الذي بعثته واشنطن لتمثيلها في ليبيا، ويكتفي بالقول إنه رجل شجاع. لا يتحدث اوباما بعد ذلك عن ظروف مقتل سفيره في بنغازي، ولا عن ظروف مقتل القذافي، أو الفوضى التي عمت في البلاد بعد ذلك.
ما بين السطور
على الرغم من شكوى بعض النقاد من أن مذكرات باراك اوباما التي بلغت زهاء 700 صفحة بدت طويلة جداً مقارنة بمذكرات الرؤساء الامريكيين الذين سبقوه، لكن القارئ لا يشعر بالملل لدى قراءتها، وربما يرجع ذلك إلى أن اوباما نجح في خلق علاقة دافئة مع قرائه عبر صفحات كتابه، لم يشعر معها القارئ بأي ضجر أو تعب. ولعل ما يعزز مشاعر الدفء تلك هي أجواء الصراحة والجرأة التي يضفيها الرئيس اوباما على الاحداث عبر صفحات كتابه، التي تعكس أحياناً بقايا روح الشعوب السوداء الثائرة المتطلعة للانعتاق من النظام العالمي وفساده. ويكاد القارئ أن يقرأ بين سطور مذكرات باراك أوباما محاولة تمرده على ثوابت السياسة الخارجية الامريكية، التي يمكن تلمسها في انتقاداته للحرس القديم، وعدم تردده في الاعتراف بأن الاجهزة الامنية لم تكن راضية عن بعض من سياساته الخارجية، وحتى في استخفافه بمؤسسات غربية نافذة عندما يعلن ساخرًا أنه لا يعرف لماذا منحوه جائزة نوبل للسلام، لكن ذلك التمرد يبقى حلما صعب المنال. بخصوص احداث المنطقة، فمن حيث المبدأ، يبدو القارئ العربي مستعدا للتعاطف مع كاتب اسمر البشرة يعلم تماماً ان أجداده تعرضوا للظلم عبر العصور تماما كما تعرض اجدادنا ومازالوا يتعرضون للظلم، أملاً بأن يتعاطف هذا الرئيس مع همومنا. ومن حيث الوقائع التي يسوقها الرئيس الاسبق في كتابه، فان توجيهه انتقادات حادة الى الادارات الامريكية السابقة لوقوفها ضد التطلعات الديمقراطية لشعوب المنطقة، وتحالفها مع زعماء مستبدين فاسدين، حتى يومنا هذا، تكسب الرئيس الامريكي الاسبق ثقة القارئ العربي وتعاطفه. كما أن اعتراف اوباما بمحنة الشعب الفلسطيني، حتى لو كان الاعتراف خجولا، وجرأته في فضح النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة يعدان نقلة نوعية في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة. غير أن القارئ لا يسعه أيضاً إلاّ أن يجد تناقضاً في مواقف اوباما الذي اعترف في صفحات كتابه بأن بلاده دمرت العراق، وتسببت في مقتل العديد من ابناء شعبه، ولَم تعثر على اسلحة دمار شامل، بيد أنه لا يجد اي كلمة اعتذار أو مواساة للعراقيين ولأرواح مئات الالوف من أبنائهم الذين راحوا ضحية الغزو الامريكي للعراق، والملايين التي شردها الغزو، ناهيك عن تحمل مسؤولية الخراب الذي يعيشه العراق اليوم. وفي ايران، وفيما يؤكد الكاتب أنه فضل خيار التفاوض معها على خيار الحرب لأن بلاده لا تريد التورط في حرب اخرى في المنطقة، إلاّ أنه نادرا ما حاول التطرق الى تداعيات قراره على مصالح اصدقائه وحلفائه الآخرين في المنطقة. الأمر الآخر اللافت في المذكرات والذي يتضح بشكل جلي في احداث ليبيا، هو اصرار الرئيس اوباما عند عرضه للمشكلة الليبية على رفضه مبدأ شن حرب عليها لان الحرب تجلب الدمار على حد قوله، ويؤكد أيضاً أن مستشاريه العسكريين رفضوا الحرب لأسباب وجيهة، لكنه في النهاية يفاجئ القارئ بتبنيه قرار شن الحرب من دون ان يشرح للقارئ ما الذي دفعه، او ربما ارغمه، على تغيير موقفه بين ليلة وضحاها. هنا، يقف القارئ حائراً امام منطقين ساقهما اوباما في عرضه لمشاكل الشرق الأوسط؛ الاول يدعو بقوة الى نبذ الحرب، وآخر يبرر بقوة شن الحرب، ولا يعرف القارئ أيهما كان الافضل حسب راي اوباما. لكن الخلاصة التي يمكن ان يصل إليها القارئ العربي بشأن الموقف الامريكي من منطقتنا إجمالاً هي أن أي زعيم امريكي مهما كانت توجهاته تقدمية، وتطلعاته تحررية، وأيًا كان لون بشرته، يبقى رئيسا للولايات المتحدة الامريكية، مدافعاً عن مصالحها، وليس عن مصالحنا، وهو توجه طبيعي ومشروع. لكن المحزن هو أن يستنتج القارئ أن هذه المصالح الامريكية لن تلتقي يوماً مع تطلعات الشعوب العربية، وأن يكتشف أيضاً أن تلبية المصالح الامريكية في الشرق الاوسط لن تتحقق بوجود زعماءٍ مخلصين لشعوبهم في بلداننا العربية، بل ستتطلب دائماً حكاماً مستبدين فاسدين نعرف منهم الكثير في عواصم بلداننا.