مدينة مهجورة – نصوص – إسلام عادل

مدينة مهجورة – نصوص – إسلام عادل

هاجت المدينة.. وكسر صمتها.. وتخطى الصياح مسامعي.. خرجت كما الناس الذين ملوا السكوت اخيرا وخرجوا هازجين ثائرين متظاهرين.. عجبت لامرهم .. فهل دبت بهم الحياة ام انهم فزعوا على امر جلل.. اخذت اسير وراء قافلة منهم.. تدافعت بينهم لاصل الى ما تجمعوا ليشاهدوه.. تدافعت معهم مرتاعة فزعة..

اخرجوا جثة طفل كان قد انزلق الى البركة منكبا على وجهه.. وقد وجدوه بعد طول بحث. فبعد ان انزلق في البركة.. وعامت قدماه بالطين.. قيدته البركة من الحراك والصراخ.. وضل جاثما هناك يومين…

وتلت المصيبة اصوات زعيق ونشيج.. اسمع رجع صخبهم وجلبتهم التي تضفي رعبا اكبر على المدينة الخاوية.. يتشاركون الجلبة والسكون.. وماكان يسمع قبل ان تأتي الطيور المهاجرة الا هزيز الريح..

ضل يستنشق اوساخ البركة وحشراتها الصغيرة الراكدة في القاع.. حتى صار لون جسده ازرق متورما..

اخرجه رجل من البركة وهويصرخ.. متفاجأ مما رأى.. وسمعت ان امه باتت مغشيا عليها ذلك اليوم.. تجمهر الناس حوله.. منهم من ينتقد امه ويلومها على اهماله.. ومنهم من يريد ان يطمر البركة.. واتفقوا على ان يطمروا البركة.. ويطلقوا الريش الملون الجميل في الافق..

وتضاربت الاراء.. ولم يفكر اي منهم بما سيؤل اليه حال الطيور المهاجرة.. لم يذكر احد منهم امر الطيور.. فقد كانوا يعتبرونها ضيوف فصل الشتاء وليس للبركة اي فضل في المظهر الجميل الذي تضفيه على المدينة الساكنة..

لا.. لم يتفكروا اصلا اويلاحظوا ان مدينة الاموات هذه ستصبح مقبرة لولا البركة والطيور التي تزورها في الشتاء.. لم يعوا ان مدينتهم ستصبح خاوية من الجمال.. ستضل بيداء مصفرة اذما سلتها الطيور..

قرروا طمرها واحاطتها بسياج.. فيمنعوا بذلك اي شر مستطير..

وماذا عن الشجرة التي تقف بالقرب من البركة.. شجرة لم يبق منها ورق اوثمار.. انها هيكل فحسب.. تضفي للبركة هيبة مختلفة.. طيور.. ماء.. شجرة.. كلها يغشيها ضباب كثيف لا تكاد ترى منها غير هياكل اشياء.. المدينة الساكنة بدأت تعج بأصوات المركبات المحملة بالرمال والطين.. وبدأت بطمر البركة.. من الحواف الى المنتصف.. شاحنات ضخمة تجر الماء بصنبور كبير ضخم يتعاون الرجال لحمله الى البركة..

ارتاعت الطيور واستشعرت الخطر.. وبدأت تحلق بعيدا عاليا في السماء.. تبحث عن موطن يحتضنها.. بدأوا يطيرون واحدا تلوالاخر حتى اجتمعوا سوية كأنهم غيمة في الافق..

….

بركة عذبة في مدينة ساكنة. طيور طويلة الساقين تحط على سطح الماء بكبرياء وانفه.. تصطاد سمكا صغيرا بمناقيرها الطويلة المدببة.. احب ملاحظتهم.. وكم تمنيت لواغطس قدمي في البركة واحصل على احدهم.. صورتهم بكامرتي.. وثقت العابهم.. تحشدهم بالعشرات في سرب واحد…. نوارس ولقالق.. وانواع لا اعرف عنها الا جمالها والوان ريشها..

هواء الشتاء البارد الذي يجئ منها ومنظر الطيور المتجمعة والتي تغطيها طبقة بيضاء من الضباب..

اشرب كوبا من الشاي وانا انظر اليهم من سطح المنزل.. يالها من طيور حرة.. تعبر القارات.. وتتخطى الحدود التي وضعها البشر..

يالها من جريئة تقتحم.. لا تبالي بالمجال الجوي لاي من الدول.. لا تخاف التحدي والتعدي.. تمضي الى حيث تستشعر.. الى حيث تريد وتمضي وتمضي ولا يحدها شيء.. ولا يقيدها احد.. تعشق الحرية.. تبحث عن الحرية وتجدها.. وتعيشها..

ويتجمع حولها الناس معجبون بها وبشجاعتها وجمالها.. ولا يفعل احدهم اي مما تفعله هي.. الطيور المهاجرة الجسرة.. تبتلع الاسماك الصغيرة.. تطير على مسافة قصيرة.. الذكور والاناث.. متعاونيين ومنظمين..

اعجب بهم.. انتظرهم واراقبهم.. ضجيج الصمت يحيط بهم حين يتوقفون عن اللقلقة.. كانوا يضفون حياة اخرى الى المدينة الخاوية.. المهجورة.. التي لا اكاد اسمع لها حسا.. منذ ان اتيت الى هنا وانا اسمع اصوات الطيور بين لقلقة وهديل وعندلة وزقزقة.. اوصوت شفتي التي تتمطق شايا اوقهوة..

كرهتها.. واحببت طيورها.. تذكرني دائما بالعالم الذي احلم بالولوج اليه.. عالم ارى بها اشياء صامتة متحركة.. يحيطها الصخب والجلبة من غير ان تنبس بحرف.

لم يعد لها وجود على اطراف المدينة الساكنة.. البركة التي عجت بالطيور.. ما هي الا مستنقع قذر.. تجمعت به مياه اسنة, خيلت الي بحيرة تعج بالمخلوقات الجميلة.. تأنس وحدتي ويثيرني فنها..

ولولا خيالي الذي يحول القبيح الى جميل.. لما بقيت بهذه المدينة المهجورة المحاطة بالقبور.. المدينــــة التي تتنفس غبارا, وتعج بحركات الموتى والسكارى.. المدينة التي لا يدري اهلها الى اين هم ذاهبون.. الذين لا يغيرون ولا يتغيرون..