مخطوطات

قصة قصيرة

 

مخطوطات

 

مزهر جبر الساعدي

 

 

السيارة تسير على الطريق الأفعواني ، جعل رأسي  يدور ، أتماسك لأسيطر ، ضايقني وضعي ، أذ حطت أمامي من عمق رأسي ، صور قادمة من هنا ، من هذا الطريق ، حتى زمنها تركز في بؤرة واحده وبإلوان مختلفة ، هي لحظتي هذه ، لتصبح اكثر وضوحاً ، تبرق قبالتي كأنها وميضُ هائل ، جعل نظراتي تتيه غير أنها مسكت الصور التي صاحبها أصوات غناء وشجن مؤلم بإنتظار المحرقه ، أنه ترقب الموت يرتفع من الركن البعيد للحافلة غناء أوجع قلبي أنه غناء الروح التي ربما تفلت مني او من أي واحد من الراكبين في الحافلة العسكريه بعد أن نغادر الطريق إلى هناك ، إلى الجبهة .

 

عشرات ألآلآف مروا عليه ، كم بقي منهم وكم غاب . جعلني هذا أُفكر في زمني ، زمن مضى وزمن أنا فيه ، يمضي ، يتسرب مني بعد ثانيتي هذه . أتساءل إلى أين أُريد ان يكون مكاني وزمني ، أنه حتماً هنا ، لا خيار لي ، أنه في بدني ، تشربته روحي وعقلي ، وجـــــــــودي فيه . فما هو كائن قادني أليه زمنـــــــــي الماضي من غير أراده مني .

 

أحاول أن اتخلض من الصور وأصواتها القادمة مني بالحوار مع من معي ، أصحابي ، جهاد يقود السيارة وأهتمامه منصب على على الطريق والاستاذة النخلة لا أجرؤ على فتح الحوار معها من غير أن تسمح هي به وشـــــــــــتاين ورائي لا صوت لها ، أنها نائـمة .

 

حدقت إلى جانبي كانت هناك أمام النخيل ، بين بيوت الطين السومرية ، منحنيه على التنور ، فيه النار ملتهبة ، في التنور السومري ، هي ذاتها المرأة السومرية والتي عبرت ألآلآف من السنين ، على هذه الصور في خيالي رأيتها عابرة التاريخ هي والقرية خلفها .

 

أشم رائحة الخبز ، بي رغبة أن يوقف جهاد السيارة لتتشبع مسامات روحي برائحة الخبز من يدين هذه المرآة .

 

في هذه اللحظة رن في أُذني صوت رقيق مثل موسيقى ناعمة ، أنها شتاين ، ماذا تريد مني ، قبل أن أتفوه أعادتنــــي أليها ، كررت السؤال :ـ

 

ـــــ أين وصلنا

 

ـــــ عبرنا مفرق الكوت

 

     ثم سألتني

 

ـــــ هل أعثر على شئ منه أو خبر عنه

 

ـــــ أكيد

 

أنظر الى الوراء ، الى شتاين التي لا تشبه كرستين أبداً لا تشبهها . لم تكن صديقتها رغم أنها في نفس الكلية وفي عين القسم ، قسم الدراسات الشرقية. اتذكر حواري مع كرستين في أول معرفتي بها ، قالت (  المال مركز حركة الجميع ، من يملكه يتسيد على العالم ) .  ثم عاد السكون إلى داخل السيارة . الجميع ساكت ، أيُ واحد منا منشغل بما هو فيه . الى جاني جهاد وراء عجلة القيادة ، يشعرني كأن الى جاني جبل ، لم يتفوه بكلمة مذ تحركنا . أنقذني من أرتباك الواقع حولي فتغلبت على إضطراب ذهني وأزداد تركيزه ، نضح ما فيه ، صار أمامي . من الجهة الاخرى للطريق ، من وراء الزجاج ، نزلت كرستين من الرصيف لتعبر الطريق نحوي ، الى الحانة ، الى حيث قاعد . جاءت بالوقت المحدد ، إلتقيتها مرتين . بعد ذلك ، في المرة الثالثة من لحظة إتفاقي معها على اللقاء ، في الغد ، بعد المساء عند بداية الليل ، أدركت شتاين أنجذابي إليها ، حذرتني منها وقالت : ـ

 

ـــ إبتعد عنها ، أفضل

 

لم أقل كلمة ، أنشغلت عنها بالمخطوطات … أّذ أشعرني تحذير شتاين بالخوف عليها . ولكني أطمئن جلبت معي قبل سفري ، قفل كبير وأمين ، له رقم سري . ولأني كثير النسيان أحتفظت به في ذاكرة هاتفي الجوال . عندما وصلنا إلى شقتي دخلنا معاً فيها . سبقتها ووقفت في الوسط ، هي ظلت خلفي على بعد متر مني ، تحدق ناحيتي . نظرتُ إليه ، لا يزال في مكانه حيث يحكم أغلاق درج المخطوطات … لم يطل بي الحال كثيراً فإرهاق جسدي جعلني أسقط من غير أرادة مني على الأريكة قربي . بعينين شبه مفتوحة ، نظرت الى الطرف الأخر من الأريكه ، على مبعده مني ، هي هناك ، وجهها لم يكن جهتي ، إلى جهة الدرج ـ حيث أودعت فيه المخطوطات . قاومت إنطباق أجفاني ، بعناد فتحت عيوني بقوة.

 

بعد فترة سمعتها وأنا لا أزال تائه غير متأكد مني ، في أي الحالتين أنا ، نائم ، أم يقظ . قالت :ـ

 

ـــ هاتفك الجوال هنا وجدته . تفحصت شاشة العرض ، آسفة ، فيه مكالمات كثيرة جداً , من شتاين ، لم يرد عليها بالأضافة إلى ثلاث رسائل نصية ، مسحتها ، آسفة لا اقصد ، دست باخطأ على زر المسح . قلت لها

 

ـــ نسيته عندما غادرت

 

ـــ إلى أين

 

ـــ خارج الولاية لإلقاء محاضرات عن حضارة العراق القديم ، أنا متعب أكاد اسقط من على ألأريكة.

 

ـــ إغادر

 

ـــ كلا ، في لحظتي هذه أختفى مني التعب والتعاس . أقتربت لأجلس بالقرب منها ، يفصلها عني سنتمترين فقط . أسمع صوت الليل يأتيني من النافذة أمامي وصرير غريب سرى في بدني مثل تيار الكهرباء , هز جسدي أهنزازات متتالية فأدخلتني في مجال الحركة التي دوختني إلى درجة كبيرة . همست في أذني ( احبك … )  . رغم نعومة الصوت وإنخفاض النبرة ، انخفاض شديد ، وجدتهُ بعيد عني سنوات ضوئية ، كأنه قادم نحوي من نجمة في البعيد ، من السماء . أستفزني بُعدها عني فما كان مني إلا أن قفزت إليها ، طفرت في الهواء عابراً المسافات إليها .

 

ممتطياً نجمه .

 

ضحى اليوم التالي أيقضني البواب

 

ـــ أستاذ باب الشقة مفتوح

 

 قال وأنسحب بهدوء . تفقدت شقتي ، أصابتني صدمة وفقدت توازني عندما واجهتني كتبي وأوراقي مبعثرة على ألأرض . صحت بإعلى صوتي عندما رأيت درج المخطوطات مفتوح . نظرت في داخل الدرج ، لا توجد ، سرقتها ، أخذتها مني ، مخطوطات عن حظارة العراق . أمضيت سنوات ، جهد عمري في البحث والتقصي ضاع مني . في هذه اللحظة نظرت بجديه إلى تحذير شتاين ، لكن ماذا يفيد إذ فات اوان اتحوط . أخرجت هاتفي من حقيبتي الصغيرة وفتحته فأضاءت الشاشة امام وجهي دست على الزر وأخرجت من ذاكرته الرسالة الوحيدة التي حفظتها فيه لسنين ( المخطوطات عندي ، أعتنيت بها وأعمل على أخراجها إخراج جيد بإلأضافة الى اني أدرسها الآن ، تأكد إني أعيدها لاحقاً … أنتظر …  ) لكنها لم تعدها الى الان قلت لي . هل أنا وحدي أحاورني بصمت كلا ، ليس وحدي ، جميع من في السيارة حتى شتاين منشغلة بالبحث عن رفات زوجها الطيار ، إذن الجميع فيهم صراخ صامت ، أعلى من دوي محرك ألسيارة غير أنه لا يسمع ، من غير صوت . هكذا نستمر مع سير سيارتنا ببطء شديد على الطريق . بسبب غيوم الغبار التي حطت على الانحاء حولنا … قادمة من الصحراء او من اماكن اخرى ، ربما من الناحيتين في آن واحد ..

 

مشاركة