العراق في ضمير القصيدة
مختارات لشعراء عالميين – نصوص – وسن علي الزبيدي
توظيف الأدب عامة والشعر خاصة، كفنٍ إنساني يؤسس للحوار، وإيجاد سبل التواصل الثقافي والمعرفي لتحقيق التواصل مع الأخر، غاية تهدف وتعمل معاً من أجل بث المشترك الثقافي والتعايش السلمي بين الشعوب، لاسيما عندما يواجه الإنسان مواقف جدية ذات أبعاد مصيرية وجودية، ومما يسهم في عملية التطور والتغيير التي تنم وفق منهج ثقافي يولده الإحتكاك الفكري والتفاعل الحضاري، وعملية التأثر والتأثير، لاسيما في المنتج الأدبي في صوره المتعددة ليعطي ثمرة التفاعل التي هي حقيقة إنسانية عالمية يفرضها قانون الحياة، وهذه العملية هي روح فاعلة تحرك الجميع نحو غاية إنسانية شاملة، تجعل من الأدب كلا واحدا مؤثرا ومتأثرا في متلقيه، في تعبيره عن الذات البشرية الواحدة، وما تعانيه من وحدة الألم والقلق والشعور بالأسى والحزن تجاه الذات وتجاه الآخر. هنا نجد إنسلاخ من معاناة الذات الشاعرة وأعتناق معاناة الذوات الأخرى ومحاولةً في مواساة تلك الذوات المتألمة مما تتعرض له من ظلم وحيف وقهر ، واظهار الأهتــمام بها .
هنا نقرأ ما جادت به قرائح مجموعة من الشعراء العالميين وأخصهم بالذكر شعراء من دول يوغسلافيا السابقة – (كرواتيا، صربيا، الجبل الأسود، سلوفينيا،…) في نتاجاتهم الأبداعية من صور شعرية أظهرت تعاطفهم مع الشعب العراقي، وما تعرض له من دمار وقتل وإرهاب الذي طال البلاد بكل أطياف أهلها وساكنيها وكل فئاتهم. وهم بلد السلام والحضارة . شعراء تغنوا بالرافدين وبمسلة حمورابي ، وحزنوا لسرقة آثاره وقتل الاطفال ونهب الخيرات، وهذا ما سنقرأه في قصائدهم الشعرية وكأنهم من أهل البلد، هؤلاء المبدعون تفخر بهم بلدانهم بمنجزاتهم الأبداعية ،صنعوا شيئا من العجائبية السحرية، وهو الشعر كي ينشدوا بلغة ملائكية محببة تلقي بضلالها على الأنفس ، لتعتنق عبيرها وتعانق مأساتها، وهي مستساغة رغم أن ناظمها ليس عربياً، وينطبق عليها قول ابن قتيبة الدينوري الذي أعجب بقول شاعرٍ :
منطقٌ بارعٌ وتلحنَ احيانا وأحلى الحديث ما كان لحنا
نصوص أبداعية مترجمة من لدن شاعر عراقي وهو الشاعر( صباح سعيد الزبيدي) الذي سكن الغربة وآلمت روحه فتفجرت بالابداع قريحته ، ليعانق تلك الاحزان الجسدية والروحية التي ألمت بوطنه العراق ، لتصل تلك الآلام والمعاناة الى روح كل من صادفه وتعرف إليه بلد الغربة ، فناجوه بلغتهم وشاركوه معاناته وحاوروه بأبداعهم مواسين ، متألمين على ذلك البلد العريق بتراثه وأصالة أهله وساكنيه . من هذه النصوص ما نقرأه للشاعر الصربي( جوريتسا أدلينسكي) الذي يقول في قصديدته (أريدُ) وهي مهداة لشعب الرافدين والتي تضمنتها مجموعته الشعرية ، يقول فيها:
أريد أن تطير الطيور الجرحى، / وتحلق في سماء الحرية الحقيقية
وتعمُ بلاد الرافدين / روحُها الواعية
أريد طفولةً سعيدةً لأطفال بغداد
أريد / أن تشرق شمسُ الحريةِ / كلَّ صباحٍ
فوق العراق / ويعرف أحفادُ الشجعان
إن أبناء بلاد الرافدين / خالدون إلى الأبد
النص يقدم لنا حقائق موضوعية أعطت صورة الواقع المرير مصغرا في عالم النص ، لتكشف عن أحساس الذات الشاعرة وتألمها من ذلك الواقع في خلق مكثف مشتمل عنصر الأيحائية في تكوين الصورة الشعرية . ويقول مستكملا نصه المواسي لأهل بلاد الرافدين فيقول :
أريد أن لا يتمكن أيا كان، / إن يكتب تاريخ العراق بالدم ، / ويعم شوارع بغداد
سلاماً أبدياً / ولتدمر العاصفة الرملية / تهديد قوى الظلام،
وتحفظ رحمةُ الله الخيرةِ / شعب العراق
بدأ الشاعر نصه بديباجة سردية معبر عما يختلج في خاطره الدفين ، فيلمس المتلقي المخصوص بالخطاب والذي يمتع بمرجعية معرفية لتلك الأحداث، وذلك الواقع ، يلمس تلك المواساة الشعرية التي جمعت بين الوصف والتكثيف بدلالات محددة وأيقاع ينساب بهدوء .
أما في قصيدة الشاعر الصربي (صلوبودان ايفانوفيتش ) والتي بعنوان( فجر الصباح) والتي هي ايضا من ترجمة شاعرنا المغترب وقد مدحه فيها اعتزازا بصداقته المخلصة للشاعر العراقي، واعترافا بمنجزاته الأبداعية التي شهد لها النقد الغربي لاسيما الصربي ، موطن الاغتراب للشاعر، يقول في قصيدته:
الأنسانُ / القادم من مهد الحضاراتِ
من عراق الرافدين / استطاع ان يكونَ
كالنهرين / حملهما في قلبهِ
وصبهما الانَ في نهري بلغراد
السافا والدانوب / يوقض الفجرَ باشعارهِ
اسمه صباح .
يلمس في هذا النص ذلك الشاطئ – العراق- وهو ملاذ الأمان الذي يلجأ إليه دائما روح مواطنيه، فحنين الأنتظار قد تصدأت فيه، وصُب ذلك الحنين إلى النهرين – دجلة والفرات – في نهري بلغراد، ليوقض فيهما فجراً عسى أن ينقله من حال الى حال بغية التغيير والبحث عن الهوية المفقودة للمغترب الذي يحن الى رحم أرضه الرؤوم .
صرخ هؤلاء الشعراء ، صرخة استنكار وتفجع ، نطقوا بالحق وطالبوا به، وهم ليس من شأنهم أن يطالبوا بعودة المفقود الى أهل بلاد الرافدين وما سرق من حضارتهم وما انتهك من إنسانيتهم، فجاء على لسان الشاعر( أنس خليلوفيتش -نوفي بازار )، في قصيدته ( سرقة أقدم منجل ) :
كلُّ شيء بدأ في شبه الجزيرة هذه وكل شيء
ولكن الحق هناك قد أنتهى
يلمس في النص تحسر الذات الشاعرة على حادثة سرقة أقدم منجل في العالم وهو من التراث العراقي السومري ، وكان خسارة فجاعية لتاريخ المتحف العراقي ، يأتي النص بسرد الحادثة ووضعها أمام أعين المتلقي الذي أحزنته الواقعة ، فيقول الشاعر :
يقولون ان العقاب جاء من الجنة، / ولكن ستحرقه نار جهنم .
سُرق من المتحف اقدمَ منجلٍ في العالم ،
وبابلُ تأتي من كلمةٍ أكديةٍ
ومعناها / بابُ الله
ومن سرقَ عبر عتبة هذا الباب
عليه ان يعيدَها الى مكانِها
أنصف العراق من هو ليس من أهله ونطق الضمير العالمي بالحق المسلوب ، فأين أهله لييستقيظ ضميرهم بما فقد من حضارتهم، فيصرخوا برد ما سلب وسُرق منهم وهم غافلون .
وما زال الشعر العالمي يتغنى بألم بلاد الرافدين ، ويطلق صيحاته عاليا فهل من مجيب؟
تقول الشاعرة ( تسفيا ميتروفيتش – استراليا ) في قصيدتها ( أنا اعرف يا صديقي العراقي ) مخاطبة صديقا عراقيا مغتربا وهو الشاعر المترجم للنصوص :
أنا أعرفُ يا صديقي العراقي
كيف يتصدعُ / قلبُك وعقلك َ
وروحك / لإخوتك َ وأخواتك
وأقاربك َ …
ويستمر النص في عرض الواقع العراقي المؤلم في صورة شعرية سردية مكثفة الرؤية الحدثية ، مشركة المتلقي في وضع نبوءتها الموجعة المحزنة ، فيقول :
بدلاً من زقزقةِ الطيور ِ
قنابل ُ الطائرات ِ / تزرعُ الموتَ
خاطفا آمال أطفال العراق
نقرأ في هذه النصوص الشعرية ، ذلك الأشتعال في قناديل الأبداع المضاءة لتكّون صحوة في ضمير العالم تجاه بلد نزف من دماء أبناءه أنهارا سالت على أرضه ، ونهبت خيراته، وسرق حضارته ، وهو مستمر بالحياة طامح بمستقبل ٍ يأتي بفجر نيساني مورد ، معبأ باستقرار من دون أن يكون حزنا مفروضا عليه من الآخرين الذين لا يريدون لشعبه العيش بسلام وكرامة وكلمة أخيرة بحق هؤلاء الشعراء المبدعين، الذين يشهد لهم النقد العالمي وتاريخ الأدب بتمكنهم من أدواتهم الشعرية ، وتوظيفها في مجال التصوير الفني والقدرة على توليد المعاني للتعبير عن المشاركة في الألم والمعاناة العراقية، ومحاولة منهم في إمتطاء بساطاً شعرياً شفافا مؤثرا بمفرداته ودلالتها بخرق المسافاة، وكلّ الحجب بطريقة إنسانية لإيصال رسالة محبة وسلام الى شعب الرافدين ، ومهد الحضارة وبلد السلام . فلا يسعنا الاّ أن نشكر هؤلاء المبدعين ونثمن مبادرتهم القيمة ونرسل لهم مودتنا كشعب يحب الخير والسلم ، بطيبة أهله ونسيم رافديه، كذلك لكل من يحب أن يعم الخير والآمان في العالم، ونشكر لمن نقل الرسالة – رسالة السلام الشعرية- وترجمها وقلبه يقطر ألما وحزنا لما يراه من مأساة أصابت البلد ، والخيرين في العالم يدعون لأهل العراق بالآمان والسلام يعم ربوع هذا البلد الجريح ، والخير والمحبة لأبناءه الغيارى .
** مختارات شعرية مترجمة الى اللغة العربية ، ترجمة صباح سعيد الزبيدي ، مركز ميزوبوتاميا الثقافي، بلغراد – صربيا ، 2014 .



















