مجتمع المعلوماتية وتصدّع المعايير الإجتماعية -1-
ياسر جاسم قاسم
اولا:/ما حاجتنا الى الاخر عندما تكون المعلومات عند اطراف الاصابع .
هذا هو الموضوع الذي يشغل البال الكثير من المفكرين والكتاب والباحثين في العالم ،فنحن نعيش اليوم عصر المعلوماتية بعد التحول الكبير الذي شهدناه بعد عصر الصناعة وقبله الزراعة وقبله عصر جمع الطرائد او الصيد كما يسمى ، ولكن مجتمع المعلوماتية اليوم مهتم من قبل بعض المفكرين على انه عمل على تصدع القيم والمعايير الاجتماعية وفيها فساد اخلاق وطباع الناس ومبادئ التضامن الاجتماعي بين افراد الاسرة الانسانية الواحدة وهكذا ،مجتمع المعلوماتية قاد الناس الى نتيجتين اساسيتين هما لحرية والمساواة وهما الامران الاكثر اهمية بالنسبة للاشخاص في المجتمع الديمقراطي الحديث حيث الحرية تنطلق من اختيار قنوات التلفاز واختيار مواقع الانترنت واختيار الاصدقاء عبر الfacebook بل حتى حرية الحصول على المعلومة وبأي وسيلة كانت وهذه الامور كلها مرحب بها من قبل المجتمعات الانسانية كافة كل هذه التحولات صاحبها تحولات اخلاقية من ناحية اخرى فقد بدأت معدلات الجريمة والفوضى الاجتماعية بالارتفاع والتراجع في اهمية القرابة باعتبارها مؤسسة اجتماعية كذلك انخفض معدل الخصوبة في معظم الدول الاوربية واليابان الى مستويات متدنية وهذا ما اشار اليه بشدة المفكر فرانسيس فوكوياما بحيث ان هذه المجتمعات سوف تفقد سكانها في القرن التالي وتزايد الطلاق يعتبر نتيجة من نتائج التصدع في المعايير الاجتماعية واصبح الاطفال المولودين خارج رباط الزوجية بنسبة طفل واحد لكل ثلاثة مواليد يولدون في الولايات المتحدة واكثر من نصف الاطفال المولودين في الدول الاسكندنافية ،كما ان الواضح ان الروابط تقلصت الى عدد اقل وانها لم تعد تتمتع بالديمومة والعمق وهذا بسبب الchat والfacebook الذي اتاح للشخص الواحد منا ان يتمتع بقدر اكبر من اصحاب عبر الانترنت ولا اقول الاصدقاء لان للصداقة معنى عظيم وكبير ليس المجال هنا لذكره. بالنتيجة فان هذه التغيرات الكبيرة شكلت تصدعا شاملا في القيم الاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمع عصر الصناعة في منتصف القرن العشرين ،اذن عصر المعلوماتية حمل بين دفتيه نوعين من التغيرات معلوماتية اعطت للبشرية تقدما هائلا في كافة المجالات الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية والطبية حتى .
والتغير الاخر هو الاثار السلبية في الحياة الاجتماعية حيث تاكلت جميع انواع السلطة واضعفت الروابط الاسرية وروابط الجيرة والروابط بين الشعوب بشكل عام ،وهنا يعبر الاقتصادي جوزيف شومبيتر ان هذا التحول التكنولوجي جلب معه (الهدم الخلاق) وهنا للمفكر فرنسيس فوكوياما راي مثير حين يعتبر ان النظام الاجتماعي الذي يتعرض للتصدع يعود الى التشكل مرة اخرى ، وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد لنا ان هذا هو ما يحدث اليوم وهناك سبب بسيط يجعلنا نتوقع حدوث ذلك وهو ان الانسان بطبيعته مخلوق اجتماعي تقوده غريزته ودوافعه الاساسية الى خلق وايجاد قواعد اخلاقية تجمع الناس مع بعضهم البعض في مجموعات اجتماعية ،كذلك فان الانسان بطبيعته مخلوق عاقل ومتوازن وعقلانيته وتوازنه يجعلانه يتوصل الى طرق للتعاون مع ابناء جنسه بشكل تلقائي وغالبا ما تكون الديانة عاملا مساعدا في هذه العملية لكنه ليس شرطا ضروريا لبناء نظام اجتماعي كما يعتقد العديد من المحافظين ،هذا ما فكر به فرانسيس فوكوياما بان المجتمع يمكن ان يعود الى حالة من التشبث بالقيم والمعايير الاجتماعية الصادقة كما ان الوضع الطبيعي للانسان ليس ما صوره توماس هوبز وهي حالة حرب يشنها كل فرد ضد كل فرد اخر ، بل مجتمع متحضر تنظمه مجموعة من القواعد الاخلاقية والقواعد الاخلاقية هي قواعد انسانية مصدرها الاساسي هو النزوع الانساني نحو الخير والفضيلة ونشر قيم العدل او مصدرها الاديان السماوية التي جاءت مبشرة بالقيم والمعايير الاخلاقية التي هي اصل البناء الاجتماعي لمجتمع ما، وقد اصبحنا اليوم بحاجة الى اعادة تنظيم مجتمعية يقوم بها افراد المجتمع نفسه وهذا ما دعى اليه (الكس دي توكيفيل) فن الترابط الامريكي :وهو اتجاه المجتمع الى تاسيس جمعيات وتجمعات تطوعية لغرض التنظيم الذاتي للمجتمع وهنا فان هنالك جهدا استثنائيا يجب ان يتبناه الكتاب والفنانين وغيرهم من الفئات التي تتمتع بالخيال على اساس الموهبة الذاتية لكي يبتكروا ثقافة تميز مجتمعها بالحرية والثروة والتنوع ورأب الصدع الحاصل في القيم الاجتماعية والاخلاقية .
وفي الحقيقة ان جميع المجتمعات تمتلك رصيد من رؤوس المال الاجتماعي فيجب ان يكون لكل مجتمع راس مال اجتماعي تنتجه معايير تتضمن بشكل جوهري فضائل وصفات مثل الصدق والالتزام بالواجبات والمقابلة بالمثل الا ان الاختلاف الحقيقي فيما بين رؤوس المال الاجتماعي يتعلق بما يمكن تسميته ((مدى الثقة )) بمعنى ان قيم الصدق والمعاملة الطيبة المتبادلة قد تكون سائدة بين مجموعة محدودة من الناس وتقتصر عليهم دون شرائح اخرى في المجتمع نفسه وبالطبع فان العائلة هي دائما المصدر الاهم لراس المال الاجتماعي في كل مكان وعلى كل حال فان قوة ومتانة الروابط العائلية تختلف من مجتمع الى اخر وتختلف كذلك بالنسبة لانواع اخرى من الالتزامات الاجتماعية فمثلا قوة الروابط العائلية في المجتمعات الشرقية ولاسيما العربية منها تنطلق من منطلقات دينية في الغالب فالاسلام يحض على الروابط العائلية بين الاب وابنائه من جهة والام من جهة اخرى وحتى روابط النسب من الاعمام والاخوال وغيرهم كذلك الديانات الاخرى تحض على هذه الروابط ومنمها المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها اما حالة العائلة في المجتمعات الغربية ولاسيما في اوربا الغربية هو التفكك والميل نحوه في بعضها فالحقيقة ان ما جعل الاصلاحات البروتستانتية مهمة في راي (وليبر) لم يكن بسبب تشجيعها على ممارسة هذه الفضائل بين افراد العائلة بل لانها ولاول مرة جعلت هذه الفضائل والقيم مثل الصدق والمعاملة بالمثل والاقتصاد تمارس بشكل واسع خارج العائلة ايضا ،فقد كان لتصدع العائلة في الغرب نتائج سلبية بعيدة المدى على راس المال الاجتماعي مما كان له اثر وعلاقة بزيادة معدلات الفقر بالنسبة لاولئك الذين هم في اسفل الهرم الاجتماعي وفي زيادة معدلات الجريمة ثم اخيرا في انخفاض الثقة ،اذن يتضح اننا بحاجة ماسة الى قراءة دقيقة لمفاهيم التصدع واعادة تشكيل المجتمعات ضمن عصر المعلوماتية وبشكل اكثر دقة مما نحن عليه اليوم والا أتى علينا المستقبل ونحن مكبلون بأرث الحاضر المتصدع فحقيقة استخدام راس المال الاجتماعي أضحت حقيقة وسبيل ماثل لنهضة مجتمعية منشودة …
ثانيا:/رؤى حول التصدع العظيم..راس المال الاجتماعي ومدياته الخلاقة ..
ثقافة الابداع الجماعي تهمش الفردانية
هنالك فوائد عديدة لرأس المال الاجتماعي تتجاوز المدى الاقتصادي حيث إن رأس المال الاجتماعي هو العامل الحاسم والمهم لخلق مجتمع مدني صحي. إن رأس المال حسب رأي فوكوياما هو المجموعات والمؤسسات الواقعة بين مؤسستي العائلة والدولة أي :
مؤسسة العائلة/ مجموعة مؤسسات رأس المال الاجتماعي ـــــ مؤسسة الدولة
شكل رقم -1-
كما يفلسفه فوكوياما لان راس المال الاجتماعي يسمح للمجموعات المختلفة الموجودة ضمن مجتمع مركب من الاتحاد والتعاون فيما بينها للدفاع عن حقوقها ومصالحها التي يمكن ان تتعرض لعدم الاحترام والرعاية من قبل حكم قوي.
اذن يتبين مما ورد في اعلاه ان راس المال الاجتماعي يمكن بل المفروض ان تتبناه منظمات المجتمع المدني وهنا يتبين اهمية هذه المنظمات واهمية ان تكون منظمات لا ربحية بل منظمات تعاونية متحدة لوضع ستراتيجيات مستمرة لبناء المجتمع عبر راس مال قوي .
كما من الممكن ان يستخدم راس المال الاجتماعي لاغراض هدامة ومنها مفهوم اللصوصية الذي تتبعه منظمات ومافيات عالمية تؤمن بمفهوم العدالة والا لما تمكنوا من الاستمرار في اللصوصية وهم يشتغلون في راس مال اجتماعي منسق ومنظم يضمن لهم الاستمرارية والديمومة او ان يصبح راس المال الاجتماعي قديم وغير مواكب للمستجدات الحديثة ولكن في كل الاوضاع فان هذه الاستخدامات او الطارئات التي تثبط من راس المال الاجتماعي لا تستطيع باي شكل من الاشكال ان تلغي دوره من المجتمع بل ان دوره يبقى فعالا دائما وضروريا لبناء المجتمعات والتنسيق فيما بينها ،لقد كان اول استخدام الاصلاح (راس المال الاجتماعي)) للكاتبة ليدا جارسون عام 1916 لوصف مراكز المدارس الريفية .
كذلك فقد استخدمت الكاتبة جين جاكوبز هذا الاصطلاح في عملها الكلاسيكي :موت وحياة المدن الامريكية الكبرى والذي تشرح فيه بان الشبكات الاجتماعية الكثيفة المتواجدة في المناطق القديمة تشكل نوعا من راس المال الاجتماعي الذي يعزز الاماكن بشكل عام كذلك فقد استخدم كل من الاقتصادي غلين لوري وعالم الاجتماع ايفان لايت مصطلح رأس المال الاجتماعي في السبعينات لتحليل مشكلة التطور الاقتصادي الحاصل في داخل المدينة :افتقار الامريكان من اصل افريقي الى روابط الثقة والانتماء الاجتماعي داخل مجتمعاتهم والتي يحظى بها الامريكان من اصل اسيوي وغيرهم من المجموعات العرقية حيث يسهب الكتاب بتحليل وشرح التباطؤ النسبي لتطور الاعمال والمشاريع الصغيرة للسود وفي الثمانينيات اتسع استخدام اصطلاح (راس المال الاجتماعي) على يد عالم الاجتماع جيمس كولمان ،والعالم السياسي روبروت بوتمان حيث اثار هذا العالم السياسي جدلا واسعا بخصوص دور راس المال الاجتماعي والمجتمع المدني في ايطاليا وفي الولايات المتحدة الامريكية .
وقد يكون اهم من استخدم راس المال الاجتماعي كمفهوم هو شخص لم يستخدم الاصطلاح نفسه ولكنه فهم اهميته بوضوح تام وهو الرحالة الفرنسي الارستقراطي اليكسس دي توكيفيل ،لقد اشار توكيفيل في كتابه الديمقراطية في امريكا ان امريكا بعكس بلده فرنسا تمتلك رصيدا غنيا من فن التجمع بمعنى الاستعداد العام للجمهور للتجمع مع بعضهم البعض في جمعيات تطوعية لاغراض واهداف جادة وسطحية لقد استطاعت الديمقراطية الامريكية ونظامها في حكومة محدودة ان تكون فاعلة فقط لان الامريكان كانوا معتادين جدا على تكوين جمعيات لاغراض مدنية وسياسية ان هذه القابلية على التنظيم الذاتي ،بالنتيجة لم تكن تعني فقط بان الحكومة لا تحتاج الى فرض نظام بشكل هرمي متسلسل بل ان الجمعيات المدنية كانت ايضا مدرسة للحكومة الذاتية تعلم الناس عادات التعاون والتي سيأخذونها معهم الى المجتمع بشكل عام ولا شك ان توكوفييل كان سيتفق مع الاعتقاد القائل ان عدم وجود راس المال الاجتماعي يعني بالضرورة عدم وجود المجتمع المدني وعدم امكانية وجود ديموقراطية ناجحة .
ويتطرق فرانسس فوكوياما الى قضية كيفية قياس راس المال الاجتماعي ويعتبر ان انتشار استخدام اصطلاح راس المال الاجتماعي لا يلاقي قبولا لدى علماء الاجتماع ولا لدى علماء الاقتصاد حيث يرى فيه علماء الاجتماع جزءا من انتصار الاقتصاد على علوم الاجتماع بينما يرى فيه علماء الاقتصاد مفهوما ضبابيا من الصعب الم يكن من المستحيل قياسه وبالفعل ان قياس الرصيد الاجمالي للعلاقات الاجتماعية التعاونية بالاعتماد على معايير الصدق والمعاملة الطيبة المتبادلة ليس بالمهمة اليسيرة فاذا جادلنا ان التصدع الكبير كان له تاثير على راس المال الاجتماعي فاننا بحاجة الى طريقة عملية لاختبار مصداقية هذه المقولة . ويرى روبرت بتمان ان هناك نوعين من القياسات الاحصائية لقياس راس المال الاجتماعي الاول هو المعلومات حول التجمعات والعضوية في هذه التجمعات من نوادي الرياضة والالعاب وجمعيات الفنون الى تجمعات المصالح والاحزاب السياسية اضافة الى المؤشرات والفهارس الخاصة بالمشاركة السياسية مثل المشاركة في التصويت وقراءة الصحف بالاضافة الى ذلك فهناك مسوحات اخرى اكثر تفصيلا بخصوص كيفية قضاء الوقت .والنوع الثاني فهو الدراسات الاستطلاعية مثل الاستطلاع الاجتماعي العام للولايات المتحدة الامريكية والدراسة الاستطلاعية للقيم الدولية لاكثر من اربعين بلدا في العالم حيث يتم توجيه مجموعة كبيرة ومتنوعة من الاسئلة بخصوص القيم والسلوك.
ويمكننا ان نعرف ما اذا كان خزين المجتمع من راس المال الاجتماعي في زيادة او نقصان احدى الطرق هي الاعتماد بشكل اكبر على المصدر الثاني من مصادر المعلومات :معلومات الدراسة الاستطلاعية حول القيم والثقة حيث توجه العديد من الاستطلاعات الاجتماعية الطويلة اسئلة مباشرة ذات علاقة بالتعاون الاجتماعي مثل:هل تثق بالاخرين؟ وهل تتقبل الرشوة؟ او هل يمكن ان تكذب اذا تعلق الامر بمصلحتك؟ بالطبع هناك مشاكل متشعبة تتعلق بمعلومات استطلاعية ابتداء من حقيقة احتمال تفاوت الاجوبة واختلافها وذلك حسب طريقة تركيب السؤال .
ومن الذي يوجهه الى غياب المعلومات والبيانات الموثوقة لعدد كبير من البلدان ولحقب زمنية عديدة ،وهنا يقول فوكوياما ((وقد يكون من الاسهل قياس غياب راس المال الاجتماعي من خلال مقاييس تقليدية للاختلاف الوظيفي الاجتماعي مثل معدلات الجريمة وتفكك الاسرة واستهلاك المخدرات والخصومات القضائية ومعدلات الانتحار والتهرب الضريبي والفرضية هي انه بما ان راس المال الاجتماعي يعكس تواجد المعايير التعاونية فمن البديهي ان الانحرافات الاجتماعية بحد ذاتها تعكس انخفاض او انعدام راس المال الاجتماعي ))
ثالثا:/ التكنولوجيا والتصدع العظيم:/
وتبقى كل هذه الاخلاقيات تعطي واقعا حول اوضاع المجتمعات ، فالمشكلة التي تواجه الانسان المعاصر هي كيف يستطيع التعامل مع دراما التغير التكنولوجي وتعديل رؤيته الى العالم الجديد السريع التغيروتحديد وادراك وضعه الخاص في هذا العالم بل وفي الكون بأسره ذلك ان اهم ما يميز المجتمع المعاصر هو سيطرة التكنولوجيا بحيث يبدو الانسان كما لو كان عبدا خاضعا لها تماما ومسلوب الارادة امام سطوتها وليس المقصودمن التكنولوجيا هنا الالات والاجهزة وما شاكلها من المنجزات المادية التي حققها التقدم العالمي الحديث وانما المقصود في المحل الاول هو التكنولوجيا باعتبارها اسلوبا للتفكير والسلوك والعلاقات الاجتماعية وقوة هائلة افلحت في ان تسبغ نوعا من الدقة والكفاءة على العقل الانساني بشكل غير مسبوق في نظرته الى العالم وتناوله شؤون الحياة اليومية .
بعبارة اخرى ان اسلوب الحياة والرؤى التكنولوجية المعبرة عن هذا الاسلوب تؤدي الى تصدع المفاهيم الاجتماعية وتصدع كبير في الرؤى المعرفية الفكرية وتصدع القيم كذلك، وتعبر هاناه ارنت في كتابها (الحالة الانسانية )(The Human Condition) الذي ظهر عام 1958 ان المشكلة الاساسية للوضع الانساني هي انه في الوقت الذي يزداد فيه شعور الانسان بالقوة لاعتماده على الكشوف التكنولوجية والبحث العلمي تتضاءل قدراته على التحكم في نتائج افعاله مما يعني تراجع وتقلص دوره في حياة المجتمع كما تتضاءل حريته السياسية وهذه مأساة الانسان في المجتمع التكنولوجي المعاصر .
ويعبر الدكتور احمد ابو زيد عن حالة الاغتراب هذه قائلا ((والواقع ان الانسان المعاصر يعيش الان في عالم تكنولوجي يسيطر عليه فيه الشعور بالاغتراب عن الذات اذ يجد الفرد نفسه موزعا بين اتجاهات مختلفة وتيارات متضاربة بحيث لا يكاد يستبين لنفسه طريقا يسلكه بارادته الحرة الطليقة بل انه لم يعد يدرك طبيعة كيانه او عالمه الداخلي وهو وضع يكتنفه الظلام على ما يقول (جيريمي جريفث في نشرة صدرت عن Foundation for Humanitys Adulthood تحت عنوان point in the Human Journey فالانسان المعاصر يعيش في وهم كبير اذ يتصور انه يدرك كل ما يدور حوله بينما هو غائب في حقيقة الامر عن ادراك ماهية وكنه الاشياء بما فيها كنه ذاته نتيجة ذلك الانبهار بالتقدم التكنولوجي ، الذي يصرفه عن التفتيش في اعماقه الداخلية لمعرفة حقيقة ابعاد وضعه الانساني في هذا العالم واختيار الطريق الذي يوحي به تكوينه الداخلي الخاص فهناك فضاء ومساحة واسعة خالية تفصل بين العالم التكنولوجي الخارجي السطحي والعالم الداخلي العميق )).
والتساؤل الذي يشغل البال اليوم حول حقيقة واقع الانسان الان وفي المستقبل وكيف يمكن له ان يحتفظ بانسانيته في عصر تحكمه التكنولوجيا وتتحكم فيه لدرجة ان اصبح الانسان يحاول اعادة تشكيل تكوينه ويحتفظ بالاخلاقيات الانسانية العالية ويبتعد عن الاخلاقيات المسببة للتصدع العظيم.
ولكن هل تفلح التكنولوجيا فعلا في اعادة صياغة الانسانية حسب شروطها ومتطلباتها الخاصة ؟ وما نوع البشر الذين سوف يعيشون ويزدهرون في هذا العالم التكنولوجي السريع التغير الذي لا يكاد يشبهه اي شيء حدث في الماضي اذ تتفتح كل يوم مجالات وافاق جديدة تتطلب من البشر اعادة النظر في مسار حياتهم والتخطيط لها من جديد بشكل مستمر حتى لا تتجاوزهم الاحداث خاصة في هذا الزمن الذي يتميز بتدفق المعلومات الغزيرة من كل انحاء العالم وامكان التأثر بها بحيث تتراجع ملامح الوضع الانساني امام الهجمة الاعلامية والمعلوماتية وقدرة التكنولوجيا الجديدة والمتطورة على توفير مسارات ومبادئ وقيم جديدة لم يكن للمجتمع الانساني عهد بها من قبل ووقوع الانسان فريسة التعارض بل والتناقض بين ما تفرضه التكنولوجيات الحديثة من هيمنة تيارات العولمة التي تعمل على ازالة الحواجز الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين شعوب العالم والرغبة في احتفاظ تلك الشعوب بذاتياتها وهوياتها الثقافية المتمايزة التي تمد الفرد بالمبادئ والقيم والمثل العليا التي يرتكز عليها وضعه في المجتمع والذي يتمسك به اشد التمسك لانه هو جوهر وجوده كأنسان مع اعتزازه الشديد بهـــــذه الانسانية .
كذلك فان القيم والتكنولوجيا ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقا فقد ادت التكنولوجيات الجديدة على راي ابو زيد الى استبدال علاقة الانسان بالالة بعلاقة البشر بعضهم مع بعض وهذا حسب راينا يؤدي الى التصدع واسهمت بذلك في تغيير النظرة الى القيم التي تحكم السلوك الاجتماعي واقتضت في رأي الكثيرين قيام قيم جديدة تراعي الاتجاهات والافكار والعلاقات القائمة الان والتي تختلف في جوانب عديدة عما كان سائدا في الماضي غير البعيد فقد غيرت هذه التكنولوجيات اساليب التفكير والطرق التي يتعرف بها المرء على ذاته وادراك هويته وتقدير معايير الحكم على تصرفاته في عالم يعاني من كثير من مظاهر التفكك والتفسخ وانعدام التوازن واضمحلال دور ووظيفة عدد من النظم والمؤسسات الاجتماعية الاساسية بما فيها مؤسسة العائلة التي ظلت تعتبر حتى وقت قريب الركيزة الاساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي بأسره وقد ساعد التقدم الهائل في وسائل واسليب الاتصال وبخاصة بعد انتشار الانترنت وما ترتب عليه من تدفق المعلومات من كل انحاء العالم بغير توقف ودون قيود على تأثر انساق القيم التقليدية في كثير من المجتمعات على مستوى العالم بافكار واتجاهات غريبة على تراثها التقليدي وانحازت الاجيال الجديدة الى جانب التيارات الفكرية الحديثة التي اخذت تفرض هيمنتها على المناخ الثقافي العام ان اخوف ما نخاف عليه من انجراف الشباب والاجيال نحو مجتمع المعلوماتية وبدون اعتبار لماضي وتراث وحاضر مما يؤدي الى تفاقم التصدع وتدهور المجتمعات لذلك فان الاجيال الجديدة التي يطلق عليها احيانا اسم (اولاد الفضاء المعلوماتي) الذين نشأوا مع الانترنت والثورة الالكترونية يأخذون القيم الاجتماعية المتوارثة والتي تحكم غالبية الناس الان على انها مجرد شعارات او على افضل تقدير مبادئ استاتيكية تفرض على الناس والمجتمع السكون والجمود في عصر ملئ بالحركة والتغير المستمر وتنسى ان الافراد هم القوة الدافعة الى الحركة والعنصر المنفذ لها وان لهم الحق على هذا الاساس في اختيار نوع الحياة التي يحيونها وتحديد الصورة النهائية لهذه الحياة التي تموج بالحركة والتغيــــــــير الذي هو سمة التقدم .
فعلى الاجيال ان تنتبه الى الاليات المجتمعية التي تحكم المجتمع اليوم والا انجرفت نحو الهاوية والتصدع وهذا ما يخاف عليه ومنه في مجتمعاتنا التي تنغمس في المعلوماتية بعيدا عن المشاعر الانسانية .لذلك فان التصدع تاتي مكافحته من رؤى التغيير المجتمعية التي تتبناها المجتمعات مزاوجة من خلالها بين التراث التنويري والحضارة الرائعة والتطور والتكنولوجيا التي تسهم اسهامات كبيرة في التقدم العلمــــي الكبير والانساني .