مجتمعنا ومجتمعهم .. إشكاليات تربوية – نعمة العبادي

مجتمعنا ومجتمعهم .. إشكاليات تربوية – نعمة العبادي

يثني الكثير من نخبنا وجمهورنا العام ( وهم على حق في بعض ما يقولون) على طبيعة السلوك المهذب والمنتظم في مجتمعات غربية وحتى آسيوية وافريقية ، حيث يسود الأحترام والصدق والأنتظام والأخلاص في العمل والنظافة والترتيب والأهتمام بالجماليات ، ووعي متطلبات الحياة بشكل جيد في تلك المجتمعات ، في مقابل ذلك نقص وخلل في معظم أو كل هذه المفردات في مجتمعاتنا ، والذي من المفترض أن يكون متقدماً وسباقاً في هذه الفضائل والسلوكيات الأيجابية .

يقدم عدد ممن يذهب الى هذا الثناء تحليلات وتفسيرات لهذا التفاوت معظمها سطحية ، وبعض منها يتورط في أخذ الأمور الى إتجاهات خطيرة تحت تاثير بروباغاندا منظمة ، حيث يوعزون سبب التخلف والأنحدار التربوي في مجتمعنا لوجود الدين أو ينسبونه لرجال الدين ، وهناك من يضع اللوم على الدولة أو الحكومات ، وكل هذه المقاربات إما ساذجة أو ناقصة أو مشوهة أو كيدية .

كنت ولا ازال مهموماً في وعي ومعرفة الشعوب والدول والمجتمعات ، والبحث فيما ورائياتها وميكانزمات تحريك سلوكها العام والخاص في مختلف القضايا ، وبقيت دائباً في التفيش عن ما ورائيات الفعل الإنساني في كل أرض تطئها قدمي ، ومن خلال كل هذا وجدت أن (الراوية) كنص مكتوب أو كعمل فني (فلم، مسرحية، مسلسل،… الخ) لعبت دوراً بارزاً في تربية المجتمعات التي هي محل هذا الثناء ، وكانت هذه الرواية أصغاء واعياً لصوت الحياة وتحويله الى عمل جذاب ذي عبرة وعظة ، ونتيجة للمكانة المحورية لمنتج الراوية في العقل النخبوي والعام في تلك المجتمعات ، فإنها شكلت حالة وعي عميق أنتج صورة معينة من النمط الثقافي والسلوكي.

مما لا شك فيه أنه هذه الروايات حملت في أعماقها التصورات الكبرى لنخبة ذاك المجتمع عن الكون والحياة حتى في جانبها الديني ، ومن أهم الأمور في هذا الأتجاه ، انها قامت على فكرة (مركزية ومحورية الانسان ومرجعية الواقع) ، لذلك واجهت المطلقات والثوابت ونفت وجودها ورفضت الانصياع لها، وسوغت كل التحولات مع الواقع، فكل ما يقوم به الانسان في ارض الواقع هو المرجعية والمحدد لضوابط السلوك والقيم، وهو ما يجعلنا نفهم سبب التحولات العميقة في السلوك مع بقاء غطاء الشرعية له بوصفه أمراً واقعاً . في المقابل لم يكن للرواية ولا الفن أي محل في بنائنا التربوي ، فالدين بتوجهاته المختلفة والأعراف بدرجة ثانية ، هي المرجعية العليا التي يقوم عليها الاس التربوي لمجتمعاتنا ، وعند النظر الى الأمور من حيث المبدأ ، لا بد أن نكون أمام صورة متقدمة من الوعي والسلوك المهذب بالنظر لعلو المنطلقات الدينية بوصفها صاحبة الكعب الأعلى في التهذيب والتربية وحسن السلوك ، إلا أن الواقع خلاف ذلك بشكل مؤسف ومفجع .

انظمة علمانية

قدمت الأنظمة العلمانية ذات التوجهات القومية والوطنية في منطقتنا مدخلاً آخراً للتربية في ظل منظورها الشمولي ، يركز على فكرة الأرتباط بالقومية وقضاياها ، وصاغت شكلاً محدداً للمواطنة من منظورها ، وهي صيغة المقاتل المتمترس للقتال في جبهات مزاجية للحاكم أو المنافق الذي يتلصلص لصالح النظام حتى على أفراد عائلته ، والمثقف الذي يتشدق بالألفاظ والكلمات الرنانة بلا عمل ، والنتيجة القطعية في كل هذا العرض ، أننا أمام خلل عميق في منظومتنا التربوية وتكويننا السلوكي . يخسر الغرب ومجتمع الرواية (ثروته التربوية) في ظل تغول ثقافة الأستهلاك والسطحية ، والمصالح السياسية للأنظمة التي تتحالف مع رأس المال وجماعاته ، وتتآمر على البناء الإجتماعي لصالح هذا التحالف ، كم أن خط الشيطان المنظم يقدم تصوراته في أخذ المنتج الفني وخصوصاً الأفلام الى مناطق مقصودة ، يريد أن يغرق المجتمع في وحلها ، ولك أن تراقب ما تقدمه (نت فلكس) من منتج أصبحت (المثلية) مثلاً ، شرطاً ملزماً في معظم ما يعرض ، وعلى هذا فتلك المجتمعات وأن بقيت محافظة على بعض ما يستحق الثناء إلا أن مشكلة محورية الإنسان ومرجعية الواقع علة منتجها التربوي ، والتي تبقى تجره الى التسافل دائماً .

بأزاء ذلك تتفاقم محنتنا في خللنا التربوي ، فنحن نفقد حتى بعض المؤسسات التي كانت لزمن قريب تقدم جهداً تربوياً مثل المدرسة والعشيرة والمسجد ، وتتمثل محنتنا في مركب معقد من جهل عميق في إدراك ما نحن فيه، في ظل الصراخ العام الذي يصم الأذان ، ويمنع أي لحظة تأمل ووعي ، ومع هذا الجهل إنكسار داخلي في الذات العامة ، يعاضده أنخداع بذات تافهة يقدمها معظم (جيل وسائل التواصل الاجتماعي) بوصفها ذات راقية ومناسبة للعصر .

يفتقد البيت (المنطلق الأكبر لأي عملية تربوية) الى مقومات الوعي والمثال المحفز ، وتشيع روح جديدة تقدم صياغات مشوهة لمدنية مبتدعة قائمة على خرافة موهومة ، فلم نتعلم حفظ الخصوصيات ، ولا أحترام الحريات ولا تكوين مساحة آمنة لإبداء الرأي ، ولا ثقافة العمل والانتاج ولا أهمية التفكير والنقد ، ولا الأحساس العميق بالمواطنة، وإلى جانب ذلك تنحدر قيم الشرف والاخلاق والصدق وحب الخير للآخرين ، وفي ذات السياق يفقد الأيمان روحه الجاذبة ، وتقدم العبادات كهوية وليست كرابط روحي وتربوي بالخالق .

أن ما يقدم من دين للتربية يعيش ازمة مضمون وشكل ، وما يشاع من أعراف يعاني من ذات العلة ، ويختفي أو يندر النموذج والقدوة ، ويتعالى صوت التفاهة والسذاجة في ظل شعارات مختلفة ، وفي ظل هذا الوضع لا حديث مقبول عن بناء الدولة ولا عن تنمية الأمة .

مشاركة