مجتمعاتنا العربية وعاهة تكرار الألم – مزهر الخفاجي
ذكر الكاتب الروسي ( انطونيو تشيخوف) وهو يصف المجتمعات الفاشلة..:
-فيقول ( يوجد في المجتمعات الفاشلة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح.. ونجد ألف كلمة خرقاء
أزاء كل كلمة واعية.. فتظل الغالبية من هذه المجتمعات بلهاء دائماً.. وتغلب العاقل
باستمرار… وهكذا تجد الموضوعات التافهة تتصدر سرديات أغلبية الممسكين بمقاليد
الأمور( الحكام ، السياسيين) ولا حضور للجديّة فيها… وان المجتمعات هذه هي التي يغيب عنها أس التفكير
التي يختلط عليها « أمرُ الحرية والخبز»).
( فمَن يفضِّل الخبز على الحريّة… لَن يتمتع مع مرور الوقت… لا بالخبز ولا بالحرية)، كما يقول العالِم ( بنيامين فرانكلين).
هذه الجدلية التي ساقَها فرانكلين ليُميّز بين الشعوب التي تتعرّض الى الاختيار بين كرامتها ولقمة عيشها. فالذي يفرط بالحرية من أجل الخبز الامان سرعان ما يُسلَب منه الأمان ذاته، حيث يصبحُ عبداً في وطنه.
فلا تصبح أية قيمة للخبز الذي تأكله وأنتَ مُنحَني.. وأيَّ لذة في طعامٍ يُقدّم إليكَ مقابل صمتك، وانت لا تقول: لا…… للظُلم. لا أعرف مدى صِدق إيمان شعوبنا العربية في إرثها الفكري والديني والثقافي.
فالعقل الحُر الذي لم يتعوّد على تبعية أحد يُحدِثُ ضجيجاً على الأقل في أي مكان يتواجد فيه، لانه الوحيد القادر على تقدير حاجاته… ولكن عامّة الناس في مجتمعاتنا العربية وأقصد:
( الدهماء- الفقراء- المكَاريد الواعون وغير الواعون).. وقد استخدم الواعدون فهمهم والذين تمكنوا او صدّقوا أنهم يملكون الادراك، والذين يجعلهم يتدافعون مع الممسكين بالسلطة.
او زبائنياتها السياسية من أنَّ لهم الحق في اختيار الحياة التي يرغبون بها.. وان لا يعيشوا وهم رفاهية الحرية، او ان يفرطوا يحقهم في العيش الكريم… نعم لقد آمن هؤلاء الفاعلين الذين هم صفوة مجتمعاتنا الفكرية والثقافية.
مِنَ الذين ظنّوا ان الفهم يمنحهم السلطة، وإنّ الإدراك يوقف لعبة الظلم ويؤشر علها ..بعد السكون الى السلطة، وهم الذين يخيروننا بين الحرية والخبز… بين الحرية بلا وطن… أو وطن بلا حرية.
لكن الحقيقة ان المسرح لا يعبه بِمَنْ فَهِمْ اللعبة؟؟؟ بَلْ بِمَن صَفّقْ!!.
هذا الأمر هو الذي جعل أهل الفهم أو المُدركين لما حولهم في مجتمعاتنا العربية، ( مفكرينا ومثقفينا اتخادات ، منظمات جماهيرية) والذين شكلّوا جسد ( الجماعة الوطنية المعاصرة ) اصبحوا يعون من ان الادراك لعنة حينما لا يترك تأثيراً بين افراد المجتمع.
جماعة وطنية
حيث انها ستتحوّل بالتأكيد الى وهم كبير حينما تُدرك هذه الجماعة الوطنيك انها لاتملك سوى تنظير محبوس او راكد من مصنفاتهم وكتبهم الموضوعة داخل منازلهم او على رفوف اقسامهم في جامعاتهم، او ان تكون حبيسة ألسنَتَهُمْ، ليسَ إلا…..؟.
وهنا. تتحول الجماعة الوطنية في نظر مجتمعاتنا العربية… الى مجرد كائنات قابعة في الظل مستسلمة، لا يملكون اي تأثير ولا يستطيعون ان يمنعوا اي شيء. هذا الامر يجعلنا ان نستشف من طروحات المفكر الالماني ( نيتشه):
– ( ان التميز والعظمة.. لا توجد من الراحة.. بل من الصراع مع الاعماق… لذلك يمكن
القول ان كل تجربة انسانية تَمُرُّ أولاً بمحنة، حيث الألم يصبحُ شرطاً للوعي… والسقوط
يصبحُ تمهيداً للنهوض!!).
لذلك والكلام للفيلسوف نيتشه:
– ( ليس للهاوية نهاية… بل بداية لمسار التحوّل الحقيقي).
والفهم الاجتماعي لنيتشه والذي ينبه فيه الجماعة الفكرية يتوافق مع احدى مقولات الفيلسوف سقراط التي يقول فيها:
– ( راحة الحُكماء تكمن في معرفتهم للحق، بينما راحة السفهاء في تمسكهم بالباطل!!).
ربما يبرز صوتٌ من الفاعلين في الجماعة الوطنية ليقول:
– ( نحنُ مُحاطون بأولغارميات عديدة فمجتمعاتنا متعددة الولاء بين الولاء لرجال الدين ، وشيوخ قبائلهم ، والممسكين بالسلطة ؟؟؟؟).
فرجال الدين يحاولون ضخ مقولات تساهم في تخدير مجتمعاتهم والوقوف بالضد من الظلم والحرمان والاستبداد ..قائلين :
– ( ان الدنيا ليست دراهم / ليست دارنا).
ورغم ذلك يضعون يدهم على كل شيء يستطيعون الوصول اليه في هذه الدنيا… كما يقول نابليون:
– ( ان هؤلاء لا يَعِضون بل يفاوضون… لا يزهدون بل يغطون حديثهم بمُسحَة من الغيب).
وهنا لا ينتقد بونابرت وجماعتنا الثقافية والوطنية ( الدِين) بل ينتقدون احتكاره فحين يتحوّل الآلهة / الله الى رخصة للامتياز… ويستعمل الخطاب الديني من اجل الوصول الى السلطة من اجل الهيمنة.
وحين لا تتوازن المنابر (بين الدين والسياسة ) و(بين الفكر والثقافة) … تصبح الغلبة… لحُراس المعبد او لوعاض السلاطين وينسحب مفكري المجتمع ومناضليه. هذا الفهم هو الذي جعل الكثير من شرائح المجتمع تقتنع بمقولة:
– ( ان الايمان حتى وإن كان وهماً.. لكنه افضل من عدم الإيمان).
لذلك فإن الصراع المُتنامي بين ( الدِين والفكر الديني والتديّن) جعل الفاعل الديني يقل تأثيره في وعي مجتمعاتنا، وايضاً يقف بالضد من قول الحق… هذه التضادات بين الفكر الديني والحريّة جعل المُفكر المغربي ( عبد الله العروي) يقول:
– ( الحريّة ليست قيمة معلّقة في السماء، بل ممارسة يومية وثقافة ومســـــــــــــــؤولية). فنحن ونقصد المجتمعات العربية.. نريد حرية منضبطة بنا؟ تشبهنا.. لا تهّز عاداتنا؟ بل ترسخ مفهوم القطيع الذي يتناوب على زعامته رؤساء قبائل ينتمون لمصالحهم ولأمتيازاتهم الاجتماعية والمادية والاقتصادية والمتخادمون مع قوى الاستعمار خلال اكثر من مائة عام يفهمون الوطن على قدر مقاس مقاطعاتهم ؟ ..
وان مجتمعاتنا قبلت بتقديم مفهوم الحرية فهم قبلوا بحرية لا تُهدد السلطة!!! ولا تُعيد تشكيل التفكير!!. متناسين من ان االحرية الحقيقية في جوهرها و التي تكون حسب فهم العالَم المعاصر، هي أن لا تخاف من الصِدام.
فضلاً عن ذلك ان تتحمّل نتائج رأيك وأن تتقبّل اختلافك مع الآخر، حتى لو خالفك في الدين والمذهب والفكر وطريقته في ممارسة حريته التي لا تتجاوز على حريتك، حتى طريقة التفكير.
والغريب ان هذا التناقض ظلَّ مُلازِماَ لقادة الجماعة الوطنية لأزمانٍ طويلة. مما جعل الباحثون والمراقبون لاوضاعنا في مجتمعاتنا العربية ان يطرحوا السؤال التالي:
هل مجتماعتنا تُحِّبُ الحريّة؟
أم إنّ شعوبنا نَمّتْ الشعور بالحريّة والتنفيس عن المكبوتات التي تجلّت في الكثير من الممارسات التي اتخذّها الممسكون بمقاليد السلطة. حتى باتت جماهيرنا افراداً وجماعات تعبر عن مطالبها بالحرية بشكل بريء وبدائي في معظم الاحيان؟.
وهل الحرية التي نُطالب بها صادقة.. أم مشروطة.. أم إنتقائية؟.
أم إنّ الظُلم المكوناتي.. او الظلم العرفي هو الذي يُخِّلُ بشرف الحرية وتخدش قيم المواطنة وتزعزع مفهوم الهوية الوطنية
ان غياب الحرية والحق في العيش الكريم كما يقول ابن خلدون مجتمعاتنا العربية المقهورة :- ( ان الشعوب المقهورة.. تنسى اخلاقها.. وان الانسان إذا طالَ بهِ التهميش… يصبحُ كالبهيمة؟… لا يهمّهُ سوى الأكل والشرب والغريزة؟؟)لذلك علينا أن نَقُّرَ هنا، ان الجتمعات التي تُعاني من ثالوث ( الجهل و الفساد والطائفية) هي مجتمعات فاسدة. وفي المجتمعات الفاسدة او الفاشلة لا يوجد شخص بريء. وهذا المجتمع الذي لا فكر فيه المنكر ولا يعرف فيه معروف، الكلّ فيه مسؤول؟!.صحيح… ان المجتمعات ( حُكاماً ومحكومين) يكونون مُدانين بدرجات مختلفة، لكنّ الكُل فيه مسؤول عن هذه التهم ونقصد بها تهمة تحوّل المجتمع الى مجتمع فاسد ، فاشل ،خانعٌ ، متخلف .نعم. ان المجتمعات الفاسدة التي لا تتمكن فيها النُخب والمفكرين والمثقفين او الجماعة الوطنية لن تستيع ان قوم بدورها الوطني المطلوب إن لم تتمكن من الشفاء من الامراض المزمنة في سلوكها البشري، فإنها في كثير من الاحيان تعتاد على الألم. حتى تبدو هذه المجتمعات وكأنها كائنات مشت طويلاً، وتظن ان الشفاء سيأتي مع الزمن!.
مجتمعات بشرية
لكن مجتمعاتنا العربية في الواقع بدلاً مِنْ أنْ تُشفى ؟ صارت تلبس الألم كجلدٍ ثانٍ تتحرك بهِ، تنام بهِ، وتحلم بالفرج ، حتى انها تنسى انها تتألم. وبهذا الشأن يتحدث عالِم النَفس (فرويد) عن الجروح الكامنة والساكنة في روح المجتمعات البشرية التي تمّ الاعتياد عليها، او إلادمان عليها حيث يقول:
– ( أنّ المرض الذي نجد له علاج، مثل الحزن الذي لم يُحّل، بل حلَّ فينا.. إنّهُ كالصمت
الداخلي الذي لا يشفى ولا يُغادر، وذلك لأننا لا نشفى بالضرورة من الحزن والمرض بل
نتأقلم معَهُ!!. ونحن نقنع اجسادنا ان تتحرك رغم الشقوق أو نقنع اصواتنا ان تضحك
رغم التآكل، ونفتح قلوبنا أن تُحِبْ وهي مجمدة).
والغريب ان هنالك تشابهها بالتوصيف لحالة التأقلم مع الحزن الذي يخلّفهُ الظلم وقمع الحريات والفساد. مما اورده العالِم فرويد والروائي ( ألبير كامو) الذي يذكر في روايته « الطاعون» ما نصّهُ:
– ( نحنُ أحياناً لا نشفى من الحزن والالم. لكن احيانا اسوأ الكوارث ليست تلك التي تهزنا،
بل التي نتعود عليها؟. نحنُ لا نشفى.. فقط نطوي الحكاية ونضعها تحت الوسادة!
ونحاول أن ننام؟ لكن الحكاية فينا لا تنام؟).
ان الحكاية هذه ( مظلوميتنا)، رفضنا، فشلنا، تهاوننا، خضوعنا… هذه الحكاية تعيد سرد نفسها على هيئة كوابيس او شكوى مكتوبة؟. أو صمتٌ لا تنبىءٌ لهُ، او نظرة لا نعرف لماذا انكسرت.
وفي عِلم النفس التحليلي يُسمون علماء النفس هذه العاهة… بالتكرار القهري،بمعنى ان تعيش نفس الألم بأقنعة مختلفة ان تحب نفس الشخص، ولكنه بوجوه مختلفة. أي ان تهرب من طفولتك الى حضن يُعيدك اليها!!.
ان تكرار الالم القهري واستدامة الظلم واستشراء الفساد وكأن مجتمعاتنا العربية وهي تعيش هذا الحال ، افرادا ومجتمعات ودول ونخب وطنية وثقافية وشعبية. كانها تفتح ابواباً جديدة، لكنها تؤدي الى نفس الغرفة، الى نفس المكان، الى نفس الحيز الذي تحاول ان تخرج منه، الذي تعتقد انها تجاوزتها لكنها والغريب في هذا انها غيرت زاوية النظرفقط ؟ انها لم تغلق الجرح، بل بنتّ بيتاً فوقه، وصارت تعيش فيه!!!. وهذا هو الجرح الذي لم يندمل في جسد مجتمعاتنا العربية قط التي تتمثل في الكيمياء الغائبة بين الحرية والوطن.فضلا عن الغربة التي تعيشها مجتمعاتنا حتى بُتنا نرى بشكلٍ جَلي استمرار الصراع بين الفرد ومجتمعه ودولته الحديثة التي غابت فيها الحرية ومسخت بها التجربة الديمقراطية وأقصيت فيها الجماعة الوطينة وأتهم فيها التنويريون بالقطيعة …ان المرض العضال الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية يكمن عدم جاهزية مجتماعاتنا في ممارسة حقها الحرية ..وربكتها في اختيار نظام حكمها السياسي المنشود، وعجز الجماعة الفكرية والثقافية من تأسيس وعي حقيقي جاذب للجماعة الوطنية والتي سيكون نواة لزعامتها .
ان وهم الصبر على الظلم وابتلاع االحلم وتأجيل دور مجتمعاتنا في مساهمتها في رسم مستقبلها في العيش يجعلنا جميعاً كما يقول اساتذة علم الاجتماع وانا منهم : مصابون بداء التكرار القهري ، الذي تُمسخ فيه طاقة البناء والنهوض وتتراكم فيه احزاننا ..حدَ أننا صرنا موسوسون بالأمل الذي يقتربُ من غيبيات المجتمعات البدائية فها نحنُ نركنُ عجزنا الى ظهور بطل مستبد او منقذٌ مُخلص ..