مجانين نجمان ياسين وأسطرة الواقع
د. محمد جواد حبيب البدراني
لعل واحدة من التفاتات القاص نجمان ياسين الذكية وقوفه عند عوالم غير مألوفة في القص العربي ابتدأها بالوقوف عند عالم الطفولة الأثير على قلبه في مجموعته الأولى ذلك النهر الغريب ووصل ذروتها في مجموعته الأخيرة جنون وما أشبه الصادرة 2012 م والتي أولت عناية خاصة بعالم الجنون وقصص المجانين، فنجمان ياسين مهووس بالكشف عن طقوس وخلجات وأسرار مدينته التي نبصرها تتألق في مجاميعه القصصية جميعها، معني بتراث الموصل وأزقتها ومراقدها ومزاراتها وملتقى عشاقها وحتى مقابرها ولعل من أهم مزايا نجمان ياسين أنه كما وصفه صديقه الشاعر معد الجبوري موغل في الخاص المغرق في خصوصيته ليحيله إلى الإنساني العام في لوحة تتناغم فيها الألوان ويندغم المكان بالزمان ويتشابك العام بالخاص
إن قارئ جنون وما أشبه يدرك أنها تعنى بقصص المجانين وعلاقتهم بسكان الأحياء الشعبية وهي قد تبدأ بواقعية لمجنون يستله نجمان من ذاكرته الطفولية المتوقدة ليعيد بناءه بأسلوب قصصي لذيذ يجعل المتلقي متواطئاً ومتعاطفاً مع ذلك المجنون بل يقف المتلقي حائراً بين الحكم على البطل بالجنون أم بالعبقرية متسائلاً أليس ما يفصل العبقرية عن الجنون شعرة واحدة، لذلك يسعى نجمان ياسين إلى أن يتعامل مع مجانينه في هذه المجموعة بإطار يجمع بين الواقع والأسطرة فهو يختار قصةً لمجنون قد تكون في ملامحها العامة واقعية لشخصية حقيقية موجودة في ذاكرته لمصاب بلوثة عايشه في طفولته أو رآه في أحد أزقة الموصل الشعبية لكنه يمنح ذلك المجنون قدرات جديدة تنقله إلى عالم الأسطرة بما يضفي عليه من هالة تخييلية تنقله إلى صفات البطل الأسطوري الخارق الذي لا يمكن محوه من الذاكرة مطلقاً.
إن جنون وما أشبه منذ عنوانها تختار عالم الجنون لتضخ عبره بالجو الأسطوري وتمتلئ حتى حافاتها بالأحداث الخارقة التي حاولت أن تنتشل شخصيات المجانين من كياناتها المادية لتبث فيها روحاً جديدة، وإذا كان نجمان يستعيد المجانين ويتقمص رؤاهم ليبث لنا موقفاً من الحياة فإنه يمزق الشرنقة التي تغطي المجنون ليجعله ناطقاً بالعبقرية كاشفاً عن عورات الحياة وعيوبها موقناً كما يقول الناقد رانفن إن الاستعارة أسطورة مكثفة مثلما إن الأسطورة استعارة موسعة » لذلك يسعى نجمان ياسين لأن يؤسطر مجانينه الواقعيين متشمماً عذاباتهم محاولاً أن يربط بوعي بين القصة وفضائح العالم وزيفه لذلك فهو يستفيد من الموروث الحكائي بذهنيته المتوقدة القادرة على اغناء وتعميق الواقع وغمسه بأجواء أسطورية بعملية ديناميكية تعطي حدثاً سابقاً لمجنون وتنتقد واقعاً زائفاً معاصراً يجعل الملتقي حائراً وهو يعايش مجانين نجمان أهم المجانين حقاُ أم نحن إن نجمان ياسين يحاول كما قلنا أن يسمو بمجانينه عن واقعهم مانحا إياهم قدسية خاصة وهالة أسطورية مازجاُ بين الواقع والمتخيل والأسطوري والحدث المرتكز على الموروث الشعبي، فنجمان يلجأ إلى الرمز من خلال أسطرة الشخصيات وبث أفكاره عبرها منتقداً القيود التي تكبله جاعلاً من أسطرة الشخصيات وتحميلها محاميل رمزية منفذاً له لنقد الإحباطات السياسية والتحولات السياسية التي لا يصرح بها مباشرة ففي قصة الأسئلة مهلكة يقول المعلم لا عجب أن يتصرف الولد بهذه الطريقة المشينة فهو قد انحدر من صلب بشر يبيعون الأوطان في كل الأوقات…… أسألوا أنفسكم من أين جاءتهم كل هذه الثروات الطائلة أسألوهم فقط ولتعرفوا أين مكمن الجيفة .
وفي قصة طيور الحب،تزف زهرة ولنلاحظ دلالة الأسم إلى الشيخ سيد أيوب صاحب الكرامات وحامل لواء العلم الذي شفى المجاذيب والمخابيل فقد جاء السيد أيوب بجلال قدره وطلب أن يأخذ البنت المخبولة لتكون من نسائه وجعل مهرها كتابين يحويان أسرار الشفاء الرباني قال أن من يصونهما سيدخل الجنة وفي قصة حمدون أبو الجبن خيط لا يكاد يبصر بين النبوغ والجنون وقال علي الحلاق إن الخيانة جهنم والبخل عهر .
وفي قصة حرائق آسيا يقول أشعر في أنين ونحيب آسيا بالشجن وبأني عاجز اليوم وليس في استطاعتي أن أرمي السيد بقبضة وحل فأبي ليس في المنزل والسجن قد أخذه منا، وإلاّ كان قد أوقف السيد عند حده وأنقذ آسيا فغير خاف هنا دلالات الاسم آسيا ومغزاها الرمزي البعيد.
وفي قصة كيف مات حامد المجنون فاضت عينا حامد بحزن مسح المكر منهما وقال جننت سنوات طويلة ولم ألحق الضرر بذبابة، لم أوذ طير بشر وجن الناس يا أولاد سنة واحدة فانظروا ما فعلوا، سحلوا الناس بالشوارع بحبال غليظة وضعت حول رقابهم قتلوا الناس ومزقوا أجسادهم وعلقوا الجثث على أعمدة الكهرباء .
وفي قصة أسم الغريق توقف شللة قرب رجال الشرطة وصرخ آنذاك , تريدون أخذي إلى السجن ؟ سأرمي نفسي في النهر وتكونون أنتم من قتلني .
وفي قصة نار الشتاء والصيف هذا المظلوم مقدّر عليه البلاء هل تدري أن القليل من سكان حينا،يعرفون سبب جنونه وسبب وقوفه كل يوم في هذه الزنقة ليبكي بهذه الحرقة التي تتلف الروح….. أولاد الكلب قتلوا شقيقه الصغير وسحلوه من رقبته بواسطة سيارة في شوارع البلدة، ثم علقوه بحبل مربوط إلى عمود الكهرباء الذي يزوره ذنون كل يوم .
وفي قصة حجارة لها عيون سمعت صوصي أبو الزمايل يقول الخالي هل ترى هذا العمل وما يرمز إليه، إنه يعبر عن حقد طبقي مقدس في استهدافه منازل بورجوازية المدينة إن اللاوعي في أعماقه، يحركه ليثأر طبقياً وسمعت خالي يرد بشيء من سخرية يا أخي لاوعي طبقي ولا طيط.
وفي قصة الضيف من يستطيع أن يتبين الفارق بين مدينة لا يفلح طوفان النهر وفيضاناته المتتالية في غسلها من الأدران وبين مدن أخرى سوى أن الرصاص ينهمر كل يوم فتتساقط الجثث ويندفع الدم غزيراً منها وهي تشخر كالثيران الذبيحة وترنو إلى قاتلها الذي يمرق بعيداً.
ويقول في القصة ذاتها تذكرت الناس الذين شاهدتهم مربوطين من أيديهم بحبال وكيف سحلوهم بعربات في شوارع المدينة، وأبصرت الجثث المعلقة على أعمدة الكهرباء عارية تحت سماء كئيبة تذكرت حديث رجال الحي عن الجثث المغدورة التي تظهر عند جامع الخضر….
وفي قصة تلك الحمير كيف يمكن للمرء أن يتحول إلى ذئب مجنون كيف يصير وحشاً يستمرئ طعم ورؤية الدماء ومن منحه الحق في جعل الإنسان مجرد جثة وكتلة لحم بائسة مهملة وملقاة في العراء.
وهكذا نجد أن قصص نجمان ياسين تقوم على إنشاء علاقة جدلية بين المجنون والمجتمع جاعلاً من المجنون معادلاً موضوعياً لأيراد التقابل والتوازن فهو لا يكتفي بالعنصر الجمالي الشكلي والمضموني بل يتخذ المجانين رموزاً دالة ناقلاً إياها من إطارها الواقعي إلى الإطار الرمزي لذلك فإن نجمان يلجأ إلى الرموز وأسطرة شخصياته ليمنحها بعداً جمالياً يتجاوز واقعها المأساوي لخلق واقع إنساني أكثر إشراقاً وطمأنينة يحقق فيها الإنسان إنسانيته ويخرج من قيود المجتمع التي تكبله محققاً ذلك التوظيف عبر اختبار الواقع ثم تعميق دلاليته وأخيراً بلورة حركته كضرورة منطقية تنموية محتمة تاريخياً، وذلك لأن الماضي لا ينفصل عن الحاضر وكذلك الحاضر لا ينفصل عن المستقبل فعملية الإرتباط هنا دينامية مستمرة لذلك فهو ينقل تجربة المجانين من مستواها الشخصي إلى المستوى الإنساني فهو يهرب إلى الأسطورة والرمز مؤسطراً شخصياته لينقد الإحباطات لذلك يمكن القول نحس وكأننا ونحن في غمرة قصص نجمان ياسين أن مجانينه أكثر عقلاً منا وأكثر معرفة بما حولهم.
AZP09